________________________________________
حقيقة العبادة عند الصوفية، الحج أنموذجا.
تعريف العبادة،
إن كلمة العبادة في اللغة من تعبد، إذا تذلل، أو عبَّد الطريق وجعله معبدا، أي سالكا بكثرة الوطء عليه،.وطريق مُعبَّد إذا كان مذلّلا للسالكين، قاله الهَرَوِيّ، قال طرفة بن العبد في معلقته:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت****وظيفا وظيفا فوق موْر معبد،(1)
والمور الطريق، وبالمعبد الـمذلّل الـموطوء، والبعير المعبد: المهنوء بالقطران المذلل، ويقال للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: مُعَبَّد، ومنه سمي العبد عبدا لذلّته لمولاه. وتعدي الفعل بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف، نحو: عبدت الرجل ذللته، وعبدت الله ذللت له.
قال الراغب في المفردات: العبوديّة: التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلّل. وفي القاموس المحيط: العبادة: الطاعة، وخطَّأ بعض المفسرين هذا، فقال: العبادة غاية التذلّل دون الطاعة، أما الطاعة فإنّها مجرد موافقة الأمر، ألا ترى أنّ العبدَ يطيعُ مولاه ولا يكون عابداً له؟ والكفّار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم؟ إذ لا يتصور من جهتهم الأمر. وتطلق العبادة أيضا على التقرب بالطاعة، (2) وعلى الدعاء، كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} (3) والتجريد، قاله ابن السكيت.
فاللغويون وإن حاولوا النبش عن جذر الفعل ليستخرجوا معانيه، ويستقصوا حقائقه، فإنهم لم يعطوا الصورة الحقيقية لمدلول المصطلح، على عكس الصوفية في تحديدهم لدقائقه، وتبيينهم لمراتب اللفظ في تجسداته، فقد فرقوا بين العبادة والعبودية والعبدية، فجعلوا العبادة غاية التذلل للعوام، لأنها قيام بالفعل المطلوب شرعا، والعبودية أتم من العبادة، لأنها تذلل وتبرئ من الحول والقوة، وهي عبادة الخواص، والعبودة لخواص الخواص، لكمال معرفتهم بربهم حيث أتوا بما طلبه منهم، ورأوا أنفسهم قائمة به في عبودته، فهم يعبدونه به في مقام أحدية الفرق والجمع. قال أبو علي الدقاق _(4) العبادة لأصحاب المجاهدات، والعبودية لأرباب المكابدات، والعبودة صفة أهل المشاهدات، فمن لم يدخر عنه نفسه فهو صاحب عبادة، ومن لم يضن عليه بقلبه فهو صاحب عبودية، ومن لم يبخل عليه بروحه فهو صاحب عبودة.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
1- الطبري في تفسيره، عند قوله تعالى إياك نعبد.
2- الماوردي في تفسيره، النكت والعيون، عند قوله تعالى إياك نعبد
3- سورة غافر: آية 60.
4- الرسالة القشيرية ص 197
معنى العبادة
إن العبادة في المصطلح الديني: هي ذلك الارتباط الحاصل بين الخالق والمخلوق، ويعبر عنه بالطاعة والخضوع والتذلل لله عز وجل، كما قال الجوهري وغيره، وهي أقصى غاية الخشوع والخضوع، كما قال الحافظ السبكي عليُّ بن عبد الكافي، وذكر ذلك الإِمام اللغوي مرتضى الزبيدي في شرح القاموس، والعبادة في بعدها المعنوي، نزهة القاصدين، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قُرَّةُ أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: " أرِحنا بها يا بلال " ولقد قال مخلوق في مخلوق:
يا قوم ثاري عند أسمائي يعرفـه السامع والرائـي
لا تدعنـي إلا بياعبدها فـإنـه أصدق أسمائـي (5)
ويشترط في العبادة أن يكون عن اعتقاد بألوهية المعبود، حتى تكون عبادة حقيقية لله، ولا تتحقق في جوهرها إلا بالعمل الصالح المتمحض لله عز وجل، والتبري من الحول والطول والقوة، ولا يتم ذلك إلا بقطع العلائق عن الغير والأعواض، وترك كل ما سوى الله من الأغيار والأغراض، وتسليم التدبير لما جرى به التقدير، والإخلاص لله ظاهرا وباطنا على كل حال، مع توافر العلم الملازم للأمر إيجادا وتركا، يقول عز وجل {فاعلم أنه لا إله إلا الله}(6) فقدم العلم على العمل، وجعله مؤسسا عليه، قال الإمام الغزالي’: "لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود"… (7) ولا بد من المحبة لله عز وجل، ودوام الشوق إليه، وتتحقق بحب ما يحب، وبغض ما يبغض، من غير زيادة ولا نقصان، قال ابن القيم الجوزية’: أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه،(8) وقال ابن كثير’: في تعريف العبادة: "هي عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف"،(9) فمحبة المعبود هي الباعث على العبادة، والدافع لممارسة التكليف، والطاعة والإتباع من مستلزماتها، وإذا أضاف العابد إلى هذا رؤية جمال الذات في تجلياتها، علم يقينا أنه هو المستوجب للعبادة حقيقة، والمستحق للطاعة غاية، لعموم سلطانه على الكون، ووسيع فضله على العالمين، وعظيم كرمه على الخلق أجمعين.
والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع، والخنوع بأعلى مراتب الخنوع، مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، ولا يستوجبها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى، فلذلك اختص سبحانه وتعالى بأن يعبد، و لا يستحق بعضنا على بعض العبادة، كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، و تحسن الطاعة لغير الله تعالى، و لا تحسن العبادة لغيره. (10) يقول تعالى: {لا إله إلا أنا فاعبدون}(11) ومعنى ذلك، أن الذي يستحق العبادة من كان إلها، وليس هو إلا الله عز وجل، فالصوفية يستظهرون هذه المعاني في عبادتهم، ويقيمون جوهر العبادة امتثالا لأمره الأزلي، وتحقيقا للغاية التي من أجلها خلق الثقلين، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (12) صوفية لما عرفت هذه المقامات، ولا أدركتها الأذواق، يقول ابن عربي: قال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، إعلم أن العبادة هي الذلة في اللغة، وهي ذاتية للعبد، لا يحتاج فيها إلى تكليف، وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وقضاء الله لا يرد، ولا بد من أن يكون الخالق تعالى عين كل صورة يعبدها المخلوق، وكما أنه تعالى عين كل صورة معبودة، فكذا هو عين كل صورة عابدة، لأنه تعالى عين مفتقر إليه. (13) وهذه صورة أعلى للعبادة في أقدس معانيها، وأبعد مضامينها، فشرف العابد بمعبوده، ومرتبة العارف بمعروفه، وقل من يعبد الله بهذا الفهم البعيد، ويشعر بهذا المعنى العميق، ويحس بهذا المقام المحوز للصوفية، فالعبادة رغبة للخلق، وغاية الآدمين، والسرّ في ذلك كما قال ابن سينا (الفصل الخامس في المقالة السادسة من إلهيات الشفاء) هو أن كل فاعل يفعل فعلاً لغرض يناله وغاية يطلبها فهو ناقص، وكل ما ليس بناقص فهو لا يفعل فعلاً لغرض وغاية. فالحق سبحانه غني عن ما عداه، منزه عن شوب الافتقار إلى ما سواه، فغناه مطلق، وفضله مستحق، وهو قائم بذاته، لا يحتاج إلى غيره، بل الوجود موصوف بالاحتياج إليه، والعبد منعوت بالافتقار إلى تدبيره، قال الله تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}(14) وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(15)
وثمرات العبادة إنما ترجع إلى الشخص العابد، لا إلى المعبود، والتكليف إنما وضع لدرأ المفاسد ونيل الرغائب، قال تعالى:{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} (16)
وقيمة العبادة بمقدار ما يلاحظ فيها، وآثارها تظهر بالتبع لما يدفع إليها، فإن كانت النية صادقة أسبلت على العبد أنوارها، وإن كانت مشوبة بفكر شيطاني عادت كبرا وفخرا على العابد.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
5- لطائف الإشارات القشيري، عند قوله تعالى إياك نعبد.
6- محمد19
7- تفسير الأسماء والصفات للبغدادي، مخطوط.
8- مدارج السالكين، لابن القيم، 1/91.
9- تفسير ابن كثير ج1 ص 27.
10- مجمع البيان الطبرسي، عند قوله إياك نعبد بتصرف.11
11- سورة الأنبياء /25
12- الذاريات:56
13- المسائل إلى علم المسائل تحقيق قاسم محمد عباس ص 32.
14- يونس108
15- (إبراهيم/8)
16- فاطر15
التصوف والعبادة
إن العبادة ليست شعائر فارغة من المعنى، ولا حركات جوفاء لا تدل على قصد، بل العبادة عبارة عن حب مطلق، وشوق مفعم لرؤية الجمال، وقربة ينظر الصوفي فيها "إلى المعبود أولا وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فالعارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته"، (17)
والحب عبادة مطلقة تستلزم شدة التوله والتعلق، وتتطلب فناء في المحبوب دون ما عداه، يقول أبو يزيد البسطامي: الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم،" ومستورون برغبتهم، يعنى بذلك رضي الله عنه، أن الجنة مخلوقة، بينما الحب صفة قائمة بذات الله تعالى، وكل من حجب بشيء مخلوق عن القديم فإنه خلو من كل فائدة، والعشاق محجوبون بعشقهم، لأن وجود العشق يقتضى المثنوية التي تتنافى مع التوحيد، وطريق أهل المحبة هو زمن الواحد للواحد. (18) وهذا تمام المعرفة.
فالصوفي يعبد الله لذاته، ويطيعه في كل أحواله، "انتجازا لوعد ربه، وفرارا من دعوى رؤية حظه، واتباعا لما أحبه منه، وأذن له فيه، من طلبه لفضله وإحسانه وكرمه وامتنانه، (19) وقلبه لا يقبل أن يكون مسترقا لغيره، ولا مشتركا لما سواه، يقول الجنيد: إنك لن تكون على الحقيقة له عبدا وشيء مما دونه لك مسترق، وإنك لن تصل إلى صريح الحرية، وعليك من حقوق عبوديته(في شرح ابن عباد عبوديتك) بقية، (20) وقال ابن عطاء الله: ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا، وهولا يحب أن تكون لغيره عبدا. (21) فالحب الصراح غير معلول بما يرجوه العبد من فضله، وما يستمنحه من إنعامه، بل الحب الحقيقي هو الذي يبذل فيه الإنسان كليته من أجْل حِبِه من غير أن يستشعر حظا في حُبه، ولا رغبة في محبوبه، سواء كانت خوفا من نار، إن أمنها ترك العبادة، أو رجاء لجنة، إن نالها تخلى عن الطاعة، أو طلبا للسعادة والرفاهة، أو سعيا لتحقيق مكاسب الحياة، قال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة، أن تهب كلك لمن أحببته، حتى لا يبقى لك منك شيء، وقال ابن الفارض:
مالي سوى روحي، وباذل روحه **في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعـفتني **يا خيبة المســعى إذا لم تسعف. (22)
وقال بعضهم:
و ما أنا بالباغي عن الحب رشوة** ضعيف هوى يرجو عليه ثوابا.
يقول الشيخ أبو طالب المكي,’ حاكيا عن أبي حازم المدني ’، أنه كان يقول: إني لأستحيي من ربي أن أعبده خوفا من العذاب، فأكون مثل عبد السوء، إن لم يخف لم يعمل، وأستحيي من ربي أن أعبده خوفا من العذاب، فأكون مثل عبد السوء إن لم يعط أجر عمله لم يعمل، ولكن أعبده محبة له"،(23) قال ابن عطاء الله: من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه، فما قام بحق أوصافه".(24) وهذا الرجاء يعتبره الصوفية شهوة خفية إن قامت بالعمل أثرت فيه قوة وضعفا، فيزيد للفضل الممنوح، وينقص للخير الممنوع، قالت رابعة العدوية وهي إحدى المحبين كما قال أبو طالب المكي في إخلاص خاصة الخاصة:
كلهم يعبدوك من خوف نار *** ويـرون النجاة حظا جزيلا
أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا*** بقــصور ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ *** أنا لا أبــتغي بحبي بديلا(25)
والمحبة مقامها شريف، (26) ومنارها منيف، وهي أصل الوجود،وغاية الحظ والنصيب، وأمل الراغب والطالب، ومنية الفقير والمريد، ولها أثر على المحب، وأوضاع خاصة على الراغب، يقول أحدهم:
سهر العيون لغير وجهك باطل وبكاؤهن لغير فقدك ضائع
كان أبو الحسن السري السقطي ينشد قائلا:
ولما ادّعيت الحب قالت كذبتني فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحلّ حتى لا يبقّي لك الهوى سوى مقلة تبكي بها أو تناجيا
فالصوفي لا ينظر إلى غير الله، ولا يشتغل عنه بسواه، ولا يشتاق إلا إليه،ولا يتلذذ إلا بذكره، ولا يحصل له فرح إلا بإقباله عليه، ولا يصيبه حزن إلا بإعراضه عنه، ولا يتطلع إلى الخلق رغبة وإرادة، ولا يتصنع لهم تزينا وادهانا، ولا يكثرت بهم حضورا وفقدا، يقول ابن عطاء الله في الحكم: غيب نظر الخلق إليك بنظر الله إليك، وغب عن إقبالهم بشهود إقباله عليك. وإذا أقبل عليه، فلا يؤلمه هجر الناس له، ولا يقلقه إدبارهم عنه، ولا يسليه ما صادفه من مدح وثناء ومده، وما لاقاه من مداجاة ومداهنة، فالخلق عنده عوارض تفق في طريق مراده، وقواصم تهيض حناح سيره، قال ابن عطاء الله متى آلمك إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فان كان لا يقنعك علمه، فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم، قال إبراهيم التيمي: ما يقول الناس في، قال يقولون: مراء قال الآن طاب العمل. وكان سيدي عبد السلام بن مشيش يقول في دعائه: اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم إني أسألك اعوجاج الخلق علي، حتى لا يكون لي ملجأ إلا إليك، (27) وقال أحدهم: لا يكون الصوفي صوفيا حتى لا تقله أرض، ولا تظله سماء، ولا يكون له قبول عند الخلق، ويكون مرجعه في جميع أموره الحق. (28) فوجود الأذى من الخلق، ومصادفة التسلط منهم، مزية يحصل بها التطهير، وتكتمل بها دورة النضج عند الصوفي، لأن ذلك يفقده الأنس بهم، وترك الاعتماد عليهم، وعدم السكون إليهم، فتتحقق بذلك عبوديته لربه، فمن له بحصول ما أراده منهم، ونيل مارغبه فيهم، فأغراضهم مختلفة، وطباعهم متباينة، فربما استحسن من نفسه شيئا لم يستحسنه غيره، وربما أرضى شخصا بما لا يرضي الآخر، فهو يعمل بزعمه فيما ينفعه عند الناس، وساع فيما يضره عندهم وعند الله مع مقاساة التعب والنصب في نفسه. رأى سهل بن عبد الله رجلا من الفقهاء بمكة، فقال له شيئا، فقال له: يا أستاذ؟؟ لا أقدر على هذا من الناس، فالتفت سهل إلى أصحابه فقال لهم لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين، حتى يسقط من عينه فلا يرى في الدنيا إلا هو وخالقه، فإن أحدا لا يقدر أن يضره ولا ينفعه، أو تسقط نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه. (29)
والمحبة صفة يترتب عنها الانقياد والطاعة، تقول رابعة العدوية:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمـري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المــحب لمن يحب يطيع
قال أبو عمرو الزجاجي : سألت الجنيد عن المحبة, فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا, قال: تريد الدعوى؟ قلت: لا قال: فأي شئ تريد؟ قلت: عين المحبة. فقال: أن تحب ما يحب الله تعالى في عباده, وتكره ما يكره الله تعالى في عباده.(30)
وهذه المعاني لن تحقق إلا إذا أحبنا الله عز وجل، وارتضانا في رحابه، وقربنا من حضرته، وجعلنا أهلا لمحبوبيته. يقول ابن القيم –رحمه الله- : "قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحلة بمكة أعزها الله تعالى -أيام الموسم – فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا :هات ما عندك يا عراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، نظر إليه بقلبه، أحرقت قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد"(31)
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
-17 البحر المديد لابن عجيبة عند قوله تعالى إياك نعبد.
-18 كشف المحجوب للهجويري.
-19 شرح ابن عباد على الحكم العطائية ص 71/ 1
-20 شرح الشيخ عبد الله الشرقاوي على الحكم، هامش شرح ابن عباد للحكم، ص 38 ج 2
-21الحكم العطائية
-22 ديوان ابن الفارض63/2
-23 ابن عباد 70/1
-24 الحكم العطائية
-25 إعانة الطالبين ج4/ص 338
-26 محي الدين بن عربي: الحب والمحبة الإلهية، جمع وتأليف محمود محمود الغراب، الطبعة الثانية 1992، ص 13
-27 ابن عباد ص 58 ج2
-28ابن عباد ص 59 ج 2
-29 ابن عباد ص 8/2.
-30) د0 محمد احمد عبد القادر الحب الإلهي : الفكرة جذورها وامتدادها، المصدر : الفكر الإسلامي بين الابتداع والإبداع.
-31 مدارج السالكين 18/3
الرمز عند الصوفية
إن فهم اللغة الصوفية التي وضعوها مفهوما لدلالات الخطاب الإلهي، واصطلاحا على معارفهم ، وتعبيرا عن مقاماتهم، يحتاج منا إلى أن نتجاوز حدود اللغة العادية، وضوابط المنطق، إلى قراءة تأويلية للغة الصوفية على أنها رموز على المعاني الباطنية، وإشارات للحقائق التي أراد الصوفية أن يعبروا عنها باللغة المعهودة، وحاولوا أن يصرحوا بما درجت عليه الألسنة من الألفاظ والعبارات، فالصوفي في تجربته الروحية الذاتية يرى بحدسه الباطني حقائق دقيقة يكابدها في طريق الوصول إلى الله، ويعالجها في مواجهة قواه النفسية والشيطانية، فيحاول أن ينحتها بمباني اللغة المعهودة، فتتأبى عليه أن تطاوع نظام اللغة في معانيها، فتأتي كلماته إشارات لرموز مفتوحة لا يعرف حقيقتها، ولا يعلم أذواقها إلا من تشاكلت مقاماتهم، وتقاربت معانيهم، فالباحث في دلالات الحقائق الباطنية، والمعاني المعنوية خصوصا في المجال العبادي، لا يكاد يواجه معنى من المعاني الظاهرة، حتى يكتشف معاني أخرى أعمق في الدلالة على المراد، وأفيد في تحقيق القصد، وحين نقوم بنظرة إلى هذه الحقائق المتناثرة، ندرك أن التصوف تجربة ذاتية ذوقية لا تتقيد بقيود العقل، ولا تشترك مع تجارب المتكلمين في مقولاتهم، ولا الفقهاء في نظرهم إلى الأحكام، ولا الفلاسفة في رؤيتهم إلى الألوهية والإنسان والكون، فتبقى التجربة الصوفية في المحصلة، جميلة في مبناها، فريدة من نوعها، تعتمد أولا الإحساس المباشر بواسطة العين المجردة، لتنتقل ثانيا إلى تركيب المعاني عقلا، ثم تترك هذه الأصداف لتخلص في الأخير إلى الجوهر الساكن في دولة القلب يقينا وصفاء، وشهودا وتفريدا. فتفسير ما هو وجداني وباطني من كلامهم بلغتنا العادية، وتطلعاتنا الذاتية، سيجعل كلامهم مشتبها يحتمل وجوها لن نفهمها بعدة المنطق التقليدي، والمعرفة العقلية، لأن "العقل وقوانينه مشترك بين الناس جميعا، أما التجارب الصوفية- الوجدانية- فلا تخص غيرهم"،(32)ومعنى هذا أن التجربة الصوفية ينبغي أن تفسر وتقرأ بمنطق آخر عاطفي وجداني، لأننا لسنا في مجال فيزيائي يعتمد على المعطيات الحسية، وهذا المنطق المفسر للتجربة الصوفية بما فيها من وضعية روحية وما فيها من أذواق وتلويحات وظواهر نفسية ووجودية على إثبات التمزق والوحدة المتوترة التي تستقطب الأطراف المتقابلة.(33) قال أحدهم في الرمز المشير إلى المعاني الباطنية:
إذا نطقوا أعجزك مرمى رموزهم ***وإن سكتوا هيهات منك اتصاله(34)
إن المتأمل في معاني الصوفية يجدها إما تعبيرا عن فهم للنصوص المقدسة، أو تعريفا بالمواجد والأحوال التي تعتريهم، وسأضرب مثالين لهذه الدقائق المشتهرة بين الصوفية على" أنها: عبارات غريبة، ظاهرها مستشفع، وباطنها صحيحٌ مستقيم،" (35) فالمثال الأول: في فهم النصوص المقدسة، ما ذكره ابن عربي (36) في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (38) فكلمة سُكَارى تعني السكر من نوم الغفلة، أو من خمور الهوى ومحبة الدنيا. وقال في قوله تعالى: {حتى تغتسلوا} أي: تتطهروا عن تلك الهيئة الحاصلة من الانجذاب إلى الجهة السفلية بماء التوبة والاستغفار وعيون التنصل والاعتذار {وإن كنتم مرضى } القلوب، فاقدي سلامتها بأمراض العقائد الفاسدة والرذائل المهلكة { أو على سفر } في تَيْه الجهل والحيرة لطلب لذّة النفس ومادة الرجس بالحرص { أو جاء أحد منكم } من الاشتغال بلوث المال وكسب الحطام ملوّثاً بهيئة محبته وميله راسخة فيه تلك الهيئة { أو لامستم النساء } لازمتم النفوس وباشرتموها في لذاتها وشهواتها { فلم تجدوا ماء } علماً يهديكم إلى التفصي منها ويهذبكم بالتطهّر عنها { فتيمموا صعيداً طيباً } فتوجهوا صعيد استعدادكم الطيب، واقصدوه وارجعوا إلى أصل الاستعداد الفطريّ { فامْسَحوا } من نوره { بِوجُوهكم وأيديكُم } أي: ذواتكم الموجودة وصفاتكم بالنزول ومحو هيئات العلق بها، والتصرّف فيها، فإن ذلك التراب يمحو آثارها ويذرها صافية كما كانت. ويقول ابن عجيبة في شرح قول ابن عطاء الله، "أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنبات غفلاته"، (37) الحضرة مقدسة منزهة مرفعة لا يدخلها إلا المطهرون، فحرام على القلب الجنب أن يدخل مسجد الحضرة، وجنابة القلب غفلته عن ربه، قال تعالى :{ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}،(38) أي لا تقربوا صلاة الحضرة-القدسية في البحر المديد-، وأنتم سكارى بحب الدنيا-الدنية في البحر المديد- وشهود السوى، حتى تتيقظوا وتتدبروا ما تقولون في حضرة الملك، ولا جنبا من جماع الغفلة وشهود السوى - وفي البحر المديد في تفسير الآية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان.- حتى تتطهروا بماء الغيب، الذي أشار إليه الحاتمي رضي الله عنه كما في الطبقات الشعرانية في ترجمة أبي المواهب بقوله:
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر***وإلا تيمم بالصعيد أو الصخر
وقدم إماما كنت أنت إمامه***وصل صلاة الظهر في أول العصر
هذه صلاة العارفين بربهم***فإن كنت منهم فانضح البر بالبحر
يعني تطهر من شهود نفسك بماء الغيبة عنها بشهود ربك، أو تطهر من شهود الحس بشهود المعنى، أو تطهر من شهود عالم الشهادة بماء شهود عالم الغيب، أو تطهر من شهود السوى بماء العلم بالله، فإنه يغيب عنك ما سواه، وإذا تطهرت من شهود السوى، تطهرت من العيوب كلها. وقال في البحر المديد عند تفسير الآية: إن لم تقدر على الطهارة الأصلية، وهي الغيبة عن الأحداث الكونية، فاقصد العبادة الحسية، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك، بعد أن كان يطلبك من قبل أن تعرفه، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة، فهذه صلاة العارفين، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر. لهذا أشار تعالى بقوله: { وإن كنتم مرضى } بحب الهوى، { أو على سفر } في عجلة شغل الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط الحس، أو لامستم العلوم الرسمية، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب، وهي الخمرة الأزلية، فاقصدوا الأعمال الحسية، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية، { إن الله كان عفوًا غفورًا } ، وفي الحِكَم: " كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟ ". فنحن نرى في النصين المنقولين عن علمين صوفيين ممن ألفوا في التفسير الإشاري، أن العبارة القرآنية وإن أتت بغرض ظاهري أصلي هو المقصود أصالة للصوفي وغيره- كما قال الزرقاني في مناهل العرفان-، فقد انتقلت من الدلالة الوضعية اللفظية إلى معان باطنية تستوحيها من وجدان العارف الصمداني، وتستلهمها من روحانية الولي، قال أبو العباس المرسي، صليت الصبح ذات يوم مع أبي الحسن الشاذلي، فقرأ سورة الشورى، فلما بلغ قوله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما} [الشورى 49/50] وقع في نفسي شيء من ذلك المعنى، فلما سلم الشيخ من الصلاة إلتفت إلي وقال: ياأبا العباس، { يهب لمن يشاء إناثا} العبادات والمعاملات، {ويهب لمن يشاء الذكور} الأحوال والعلوم والمقامات، {أويزوجهم ذكرانا وإناثا} يجمع ذلك فيمن يشاء، { ويجعل من يشاء عقيما} بلا علم ولا عمل، فتعجب من ذلك. جامع أصول الأولياء 179وهذا كلام لا ينكر الظاهر ولا يعارضه، ولكنه توجيه جائز، وقد حدد العلماء لهذا النوع من التفسير ضوابط نذكرها استحسانا، -أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية، -أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض، -أن لا يكون تأويلاً سخيفاً بعيداً عن معنى الآية، -أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم، -أن لا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر،(39) وقد أجملها ابن القيم فقال :وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول :تفسير على اللفظ: وهو الذي ينحو إليه المتأخرون .وتفسير على المعنى: وهو الذي يذكره السلف .وتفسير على الإشارة والقياس: وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم.وهذا لا بأس به بأربعة شرائط:أن لا يناقض معنى الآية.وأن يكون معنى صحيحا في نفسه .وأن يكون في اللفظ إشعار به. وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم. فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا. (40) فالكلام الإلهي يقتضى ظاهرا حكما إما بالأمر أو الترك، ويتضمن معاني مختزنة بإحدى أبعاده الأربعة، لا تستبعدها الألفاظ، ولا تستقبحها العقول، ولا تستهجنها النفوس، وهذا ما يسمى بروح النص، أوالمعنى الضمني الذي يقابله ظاهر النص المتحقق مناطُه بالإدراك العقلي الذي يعتمد قانون اللغة والمنطق. -وهذا هو الفقه بالمعنى العام- أما يتجلى للصوفي بروح النص من أسرار وإيماضات، ويطالعه من كشوف ومطالعات، فلا يمكن استكشاف أسراره العميقة، واقتناص مراميه البعيدة، إلا بواسطة فهم الدلالات التي وضعها الصوفية للمصطلحات المتداولة في دائرتهم، والمتكررة في حضرتهم، يقول ابن خلدون مفرقا بين علمي الفقه والتصوف قائلا: "وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهو الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات. وصنف مخصوص بالقوم –الصوفية- في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق، والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك" (41) فالتفسير الإشاري بهذا الفهم، يعطي للكلم دلالات عميقة تدل على معان أخرى لا تحصل إلا بالرياضة والمجاهدة، قال أحمد ابن الحواري: وسمعت شيخي أبا سليمان الدارني (رض) يقول: إذا اعتادت النفوس ترك الآثام، جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما، (42) قال ابن عجيبة فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم، وقليل ماهم، (43) فالصوفي لم يستغن بنفس المعنى القريب عن المعنى البعيد تعميقا للبحث عن أسرار يصل إليها أهل التغريد، فالصلاة في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء كما رأينا صرفت للفعل المخصوص شرعا، ودالة بروح التفسير على الحضرة القدسية، والسكر معروف فقها لغيبوبة العقل وتعطيله بالخمر، وعن طريق الإشارة على حب الدنيا والأغيار، والجنابة لها مدلول شرعي لمانع من عبادة الصلاة، ودخول المسجد، وهي بالرمز دليل غفلة القلب عن الله، وهذا الإدراك ذوقي في فهم لغة الشرع التي تشير إلى معان باطنية غير ظاهرة في المواضعات اللغوية، ويسمى هذا كما مر معنا بالمعجم الصوفي الذي ألف فيه كثير من الباحثين دراسات هامة تحاول أن تستقصي الإشارات الصوفية وتفهمها على أنها مدلولات توحي بومضات روحية تحتملها الألفاظ، وإشرقات قلبية تنسجم مع روح النصوص، فالرمز قد يلتجأ إليه الصوفي للتعبير عن المعنى المقذوف في القلب بالمحسوس، وهذا ما وضحه الغزالي في قوله :'' اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس''(44) ويقولون :'' نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة'' والإشارة لنا والعبارة لغيرنا "وهو أمر يعود '' إلى قصور اللغة الوضعية نفسها، إذ أنها لغة وضعية اصطلاحية تختص بالتعبير عن الأشياء المحسوسة والمعاني المعقولة، في حين أن المعاني الصوفية لا تدخل ضمن نطاق المحسوس. وقرر الغزالي ذلك الأمر أيضا•في قوله : '' لا يحاول معبر أن يعبر عنها (أي الحقيقة الصوفية)•إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح، لا يمكنه الاحتراز عنه''• فهل الأعمال رموز وإشارات لمعان أخرى مقصودة بالإدراك الباطني؟؟ أم هي وسائل لتحقيق العمل في ذاته بغض النظر عن معناه المخزون فيه؟؟ يقول بعضهم:
ألا إن الرموز دليل صـــــدق على المعنى المخبأ في الفؤادِ
المثال الثاني، إن التعبير الصوفي يحتاج إلى تأويل مبني على أساس تحسين الظن في هذا التراث المتحرر من سجن اللغة التجريبية، والخارج من أزمة المنطق التقليدي، إلى آفاق الحرية في التراكيب اللغوية والدلالية، وهذا ما سيعطي للباحثين عن فردوس الحقيقة أملا في كسب لحظات الانتشاء مع هذه الأقوال المصورة للحقائق الوجودية الكبرى بلغة تمتزج فيها الدلالة الوضعية بالدلالة الضمنية، يقول الحلاج مستعملا الدلالة الرمزية: إن الإنسان إذا أراد الحج، أفرد فى داره بيتاً، وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيماً، وكساهم قميصاً قميصاً، وعمل لهم طعاماً طيباً، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك ، قام له ذلك مقام الحج. (45) فالحلاج وهو من الصوفية الأوائل الذين استخدموا الإشارات، قد استعمل هنا الرمز في معناه المعنوي، فقوله بالحج الروحي في النص المسوق أو الحج بالهمة، يؤسس نظريا لاستعماله للرمز الحسي في بعده المادي والمعنوي، وذلك حين ابتنى في بيته تمثالا للكعبة حتى يتذكر المسير الذي يجعله دائم الحضور مع الذات الإلهية في مشيئتها المطلقة، وقد أدى هذا التجسيد بثلة من المنتحلين لصفة الفقاهة إلى اعتباره مارقا مباح الدم، كما ذكر الخطيب البغدادي (46) ، لكن الدارس لتجليات التصوف عند الحلاج يدرك أنه كان مرتبطا بالله في حدود لا تقبلها عقليات أولئك الذين يرون الشعار،ولا يقرءون ما وراء الستار، يقول فيما ينفي عنه تهمة الإلحاد، من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية فقد كفر(47). وقال: إن معرفة الله هي توحيده، وتوحيده تميزه عن خلقه، وكل تصور في الأوهام فهو تعالى بخلافه، كيف يحل به، ما منه بدأ (48). ولنتأمل رمزية قوله على خشبة الصليب:
ألا أبلغ أحبائي بأني**** ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي****فلا البطحا أريد ولا المدينة
فهذا الكلام نسبه بعض القائلين بتكفيره إليه، ونفاه عنه آخرون اعتمادا على ما عرف به من صرافة عقيدته، ولطافة عبوديته، ومنهم من حاول أن يفهم رمزية هذا الكلام، وإشارته إلى الخلاص الذي يوجزه الصليب، فالحلاج في هذا المقام قد أفشى بعبارته سر التوحيد، فاستوجب القتل بفتوى القاضي أبي عمرو المالكي، يقول ابن الفارض: إنما قتل الحلاج لأنه باح بالسر، إذ شرط هذا التوحيد الكتم، فليس كل سر كما قال الإمام الغزالي في مشكاة الأنوار يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر، فتحقق الإنسان كما قال السرهندي بتلك الأسرار العرفانية هو كمال الإيمان، والتعبير عنها بعبارة كيفية عين الكفر والإلحاد، وهذه الأسرار هي أسرار الذات، وأنوار الصفات التي تجلى الحق بها في مظهر الأكوان، فمن لطف الله ورحمته كما ذكر سيدي أحمد بن عجيبة (49) أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صونا لذلك السر أن يظهر لغير أهله، ومن أفشاه لغير أهله، فقد أباح دمه، وتعرض لقتل نفسه، كما قال أبو مدين رضي الله عنه:
وفي السر أسرار دقاق لطيفة***تراق دمانا جهرة لو بها بحنا
ولي حبيب عزيز لا أبوح به***أخشى فضيحة وجهي يوم ألقاه(50)
ولعل الحلاج كان صريحا في عبارته التي اعتمدت الإشارة إلى بعض الخلجات المحصورة في قالب المعنى، و التورية عن بعض الحقائق السجينة في قفص العبارة، بينما حاول غيره ممن استعمل هذه اللغة الإشارية أن يزيل عنه هذه التهمة بالتعمية والتورية، كما ذكر عن أبي بكر الشبلي حين ادعى الجنون، ودخل المارستان، وهو يقول: أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله، وخلصني جنوني، فالحلاج كان ضحية اللغة الصوفية فقتل بفتوى علماء الظاهر كما ذكر ابن خلدون، وهو لم يرتكب جريمة يستحق عليها عقابا، والشبلي أنجته الحيلة من القتل، وأنقذته التقية من الحتف، لقد قتل الحلاج وهو يقول:
اقتلوني ياثقاتي****إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي****وحياتي في مماتي
إن عندي محو ذاتي****من أجل المكرمات
فما هو موقف القاضي النزيه في زمن الحريات والحقوق، في مدعى عليه، يقول: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، فالله الله في دمي!!!؟؟ هل سيحكم ببراءته، أم سيدينه ؟؟ وهل التوري عن السر بلغة مشاكسة جريرة وجريمة؟؟ أم العجز عن فهم الآخرين هو الذنب والخطيئة؟؟ وهل الغاية من قتل الحلاج وصلبه وحرقه وذره في مياه دجلة أن يزال شره؟؟ أم هناك سر آخر لم يظهر لنا؟؟ أم الشريعة هي التي أمرت بذلك؟؟ أم قوانين الحرية لم تقنن في ذلك الزمن الأغبر المشئوم؟؟
ومن ناحية أخرى، فإن القاعدة العامة في فهم كلام الناس، أن يسألوا أولا عنه، ثم يحصل الحكم عليهم ثانيا، حتى لا يقع القاضي- وهو المسئول الشرعي- في ما يوهمه الكلام من رأي قد لا يكون مقصودا للمتكلم، وإن كان في عبارته ما يدينه على حسب زعمهم، فقصارى الرأي في مثل هذا، أن الكلام المحتمل يجوز أن يفسر بالتأويل والظاهر، فمن أحسن الظن به عد صاحبه من طبقات الصوفية، ومن كانت عباراته تستوحي عنده ظلمة، قال فيه ما أوهمه النص من معنى يستسيغ به دمه، ويستبيح به عرضه.
أهل الأحكام تعلل؟؟
إن الإنسان المحدود في قواه العقلية، قد تخفى عليه بعض الحكم الموجهة للفعل، وتغيب عنه بعض الصور التي من أجلها شرع الأمر، فكما أخفى الحق سبحانه كثيرا من أسراره الكونية عن عيون الناس، لا يراها إلا الرسخون في العلم، كذلك أخفى حكما كثيرة لا يمكن رؤيتها إلا لذوي البصائر والتمييز، يقول أحدهم:
وكم لله من سر خفي***يدق خفاه عن فهم الذكي
قال الامام الغزالي في المنقذ من الضلال: إن العبادات لصحة قلب الإنسان، كالأدوية لصحة بدنه، وليس كل إنسان يعرف خواص الدواء وسر تركيبه إلا الطبيب أو العالم الذي اختص بمعرفته، وكل مريض يقلد الطبيب فيما يصفه من دواء ولا يناقشه فيه. العبادة في الإسلام، للقرضاوي 208 فالحكمة ولو لم تظهر لا تمنع من مكابدة العمل، لأن "الأعمال العبادية لا يجوز أن تعلل في مجموعها، ولا يمكن للعقول أن تبلغ لكل الأفعال حقائق معانيها، فالهدف منها ولو لم يظهر للعيان، والنتيجة منها وإن لم تستوحها الأفهام، هو استفادة المكلف درساً تربوياً في العبودية الخاضعة، والعبادة الخاشعة لله سبحانه في محراب الحياة، لذلك يصدر التكليف من المولى في أغلب الأحيان ـ بأمر من الأمور، ويحيطه ببعض القيود والحدود التعبدية ليتمرن العبد على الخضوع والتعبد بامتثاله مع التقيد والتعبد بقيوده حتى وإن لم يعرف السر في أصل التكليف والإلزام بتلك القيود مع لزوم إيمان المكلف بحكمة الله سبحانه كما سبق، وأنه لذلك لا يشرع حكماً بلا غاية وحكمة، كما لا يخلق شيئاً بدون غرض وهدف . ولذلك لا يتوقف المؤمن عن الامتثال لمجرد عدم الاطلاع التفصيلي على الحكمة الخاصة في تشريع هذا الحكم أو ذاك"(51) فالأعمال ولو لم تظهر حكمتها ابتداء، فإن لها وجه اعتبار توحي به صورة العمل كما تتجلى في ظاهرها، ولا يصل إلى هذا إلا الصوفية الذين تجاوزا سقف المحسوس، وأسقطوا الارتباط بهيكل العمل، وانحاشوا إلى معان تشرق عليهم بواسطة المعراج الروحي، ويدل على هذا سؤال فتاة للجنيد، وهو يعاتبها عن إنشاد شعر في الحب وهي تطوف، فقالت له: أتطوف بالبيت، أم برب البيت؟؟ فرد بأنه يطوف بالبيت، فقالت له الجارية:
يطوفون بالأحجار يبغون قربة******إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر.
ثم غشي على الجنيد فأدرك أن التوجه لا يكون للكعبة وإنما لرب الكعبة،(52) فهذه الحقيقة هي التي جعلت الفارق متسعا بين العرفانيين وغيرهم، فالعرفاء يتجهون على المثال إلى رب البيت، لقوله تعالى فليعبدوا رب هذا البيت، وغيرهم يتجهون لذات الكعبة، ويتعلقون بالأستار والجدران، ويطنون أن الله تجسد فيها، والفرق فيما بينهما هو مابين المادة والمعنى، فهل نتصور فرقا فيما بينهما، أم لا؟؟؟ويرحم الله رابعة العدوية حين قالت: (هذا الصنم المعبود في الأرض، وإنه ما ولجه الله، ولا خلا منه؟) (53) فقولها ما ولجه الله، يقتضي عدم التحيز والمادية، وقولها ما خلا منه، أي أنه موجود في كل شيء وقبله وبعده، وهذا القول وإن كان يفهم منه هذا المعنى الدقيق، فإن المقصود منه عندي، هو تصحيح لعبادة العوام الذين يعبدون الكعبة، وينسون عظمة رب البيت، ويعظمون الحجر الأسود، ويغفلون عن سر التقبيل، ويشهدون الأركان والمطاف، ويتركون سر الحق في دورة الكون حول المقام.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
-32آفاق الأساليب الصوفية، أحمد عبد الرحيم السايح.
-33 مجلة الإشارة عدد 28 مع مقاربات التصوف وقفة مع المقاربة اللغوية – المصطلحية.
-34 المعرفة الصوفية "دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة" ناجي حسين جودة، ص .129
-35 الحَلاَّجُ ومُحَاوَلَةُ تَفْجِيرِ اللُّغَةِ، يوسف زيدان-مقال-.
-36 عند تفسيره للآية43 من سورة النساء.
-37 إيقاظ الهمم، ابن عجيبة ص36
-38 النساء43
-39 مناهل العرفان،594/1
-40) التبيان في أقسام القرآن 50/1
=41 آفاق الأساليب الصوفية، أحمد عبد الرحيم السايح.
-42 إيقاظ الهمم، ص39
-43 إيقاظ الهمم، ص 93
-44 مجلة الإشارة عدد 28 مع مقاربات التصوف وقفة مع المقاربة اللغوية – المصطلحية.
-45 سير أعلام النبلاء 14/341
-46 في تاريخ بغداد ج 8/129
-47 أخبار الحلاج، ابن باكويه، ص 47
-48 المرجع السابق ، ص 31
-49 إيقاظ الهمم ص 156
-50 إيقاظ الهمم، ص 39
-51 فلسَفة الحجّ في الإسلام،الشيخ حسن طراد، ص 92
-52 محاضرة الأبرار، ابن عربي، ج1 ص 322.
-53 رابعة العدوية، ص 58 عبد الرزاق سعاد، شطحات الصوفية ص 26 د. عبد الرحمن بدوي.
أسرار الحج
سأقوم هنا باستعراض بعض الحقائق الباطنية لركن الحج الذي هو أهم ركن تتجلى فيه الحقائق الصوفية منصهرة في أفعال يؤديها الحاج بين زمان ومكان مخصوص، بطرق ووسائل مخصوصة.
فما هو الحج؟؟
تعريف الحج هو القَصْد؛ : إلى الله بشرط التبري عن جميع ما سواه، فَقَصْدٌ إلى بيت الحق، وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص. (54) قال ابن عربي في الفتوحات المكية***: الحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود، تكرار القصد في زمان مخصوص للحج الواجب والنفل، ويقال رجل محجوج، أي مقصود، وهو بالفتح قياسا، وبالكسر وهو الأكثر سماعا، واللغتان أيضا في الحجة، وقيل بالفتح هو المصدر، وبالكسر هو الاسم، وقيل الاسم بهما معا، ويترتب عن هذا أن من فتح وجب عليه أن يقصد البيت ليفعل ما أمره الله به أن يفعله عند الوصول إليه في المناسك التي عين الله له أن يفعلها، ومن قرأ بالكسر وأراد الاسم فمعناه أن يراعي قصد البيت، فيقصد ما يقصده البيت، وبينهما من الناحية العرفانية كما قال ابن عربي في الفتوحات المكية، بون بعيد، فإن العبد بفتح الحاء يقصد البيت، وبكسرها يقصد قصد البيت، فيقوم في الكسر مقام البيت، ويقوم في الفتح مقام خادم البيت، فيكون حال العبد في حجه بحسب ما يقيمه فيه الحق من الشهود، ويقال: الحج هو القصد إلى مَنْ تُعَظِّمه: فقاصدٌ بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فَرضِهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند شهود ربهم، فأمَّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمَّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام. (55) والحج واجب على كل مستطيع مكلف شرعا، ووردت النصوص القرآنية والحديثية في تأكيد وجوبه على أفراد الأمة إيجابا مقيدا بالاستطاعة والحرية والأهلية الشرعية- التكليف- وهو على الفور مرة في العمر. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}(55) فالحق لم يخاطب الله عباده في شيء من العبادات بأن لله عليهم كذا إلا الحج، وفيه فوائد: إحداها: أنه ليس من العبادات عبادة يشترك فيها المال والنفس إلا الحج فأخرجه بهذا الاسم. وقيل: هى عبادة يكثر فيها التعب والنصب على مباشرتها فأخرجه بهذا الاسم ليكون عونًا له على ما تباشره لعلمه أنه يؤدى ما لله عليه في ذلك. وقيل: لما كان فيه الإشارات القيمة من تجريد ووقوف وغيرة، قال الله تعالى: عليك لتهيئ باطنك للموقف الأكبر كما هيأت ظاهرك لهذا الموقف.
وفى الحج إشاراتٌ قيل: إنَّ رجلاً جاء إلى الشبلي فقال له: إلى أين؟ قال: إلى الحج، قال: هات غرارتين فاملأهما رحمة، واكبسهما، وجئ بهما لتكون حظنا من الحج، نعرضُها على من حضر، ونحيى بها من زار، قال: فخرجت من عنده فلما رجعت قال لى: أحججت؟ قلت: نعم، قال لي: أي شيء عملت؟ قلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت، فقال لي: عقدت به الحج؟ قلت: نعم، قال: أفَسَختَ بعقدك كل عقدٍ عقدت منذ خُلِقت مما يضاد هذا العقد، قلت: لا، قال: فما عقدت، قال: ثم نزعت ثيابك؟ قلت: نعم، قال: تجردت عن كل فعل فعلته؟ قلت: لا، قال: ما نزعت قال: ثم تطهرت؟ قلت: نعم. قال: أزلت عنك كل علةٍ بطهرك؟ قلت: لا. قال: ما تطهرت قال: ثم لبيت؟ قلت: نعم. قال: وجدت جواب التلبية مثلاً بمثلٍ؟ قلت: لا. قال: ما لبيت. قال: ثم دخلت الحرم؟ قلت: نعم، قال: عقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا، قال: ما دخلت الحرم. قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم، قال: أشرف عليك من الله حالٌ بإشرافك؟ قلت: لا، قال: ما أشرفت على مكة. قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم، قال: دخلت فى قربه من حيث علمته؟ قلت: لا، قال: ما دخلت المسجد. قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم، قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا. قال: ما رأيت الكعبة. قال: رملت ثلاثًا ومشيت أربعًا؟ قلت: نعم. قال: هربت من الدنيا هربًا علمت أنك به فاصلتها، وانقطعت عنها ووجدت بمشيك الأربع أمنًا مما هربت منه فازددت لله شكرًا لذاك؟ قلت: لا. قال: فما انقطعت. قال: أصافحت الحجر؟ قلت: نعم، قال: ويلك قيل من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافحه فهو في محل الأمن، أظهر عليك أثر الأمن؟ قلت: لا. قال: ما صافحت الحجر. قال: أصليت ركعتين بعدها؟ قلت: نعم، قال: وقفت الوقفة بين يدى الله جل وعز، ووقفت على مكانك من ذلك وأديت قصدك؟ قلت: لا. قال: ما صليت. قال خرجت إلى الصفا ووقفت بها؟ قلت: نعم. قال: أي شيء عملت؟ قلت: كبرت عليها. قال هل صفا سرك بصعودك على الصفا، وصَغُرَ في عينيك الأكوان بتكبيرك ربك؟ قلت: لا. قال: ما صعدت ولا كبرت. قال: هرولت في سعيك؟ قلت نعم. قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا، قال: ما هرولت ولا سعيت. قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم. قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت على المروة؟ قلت: لا. قال: لم تقف على المروة. قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم. قال: أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا. قال: ما خرجت إلى منى. قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم. قال: هل تجدّد عليك خوف بدخولك مسجد الخيف؟ قلت: لا قال: ما دخلته. قال مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم. قال: عرفت الحال التي خلقت لها والحال التي تصير إليها؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرًا له؟ وهل تعرَّف الحق إليك بشيء مما تعرَّف به إلى خواصه؟ قلت: لا. قال ما مضيت إلى عرفات. قال أنفدت إلى المشعر؟ قلت: نعم. قال: ذكرت الله فيه ذكرًا أنساك فيه ذكر من سِواه؟ وهل شعرت بماذا أجبت وبماذا خوطبت؟ قلت: لا. قال: ما نفدت إلى المشعر. قال: ذبحت؟ قلت: نعم. قال: أفنيت شهواتك وإرادتك في رضا الحق؟ قلت: لا. قال: ما ذبحت. قال: رميت؟ قلت: رميت جهلك منك بزيادة علم طهر علمك. قلت: لا. قال: ما رميت. قال: زرت؟ قلت: نعم. قال: كوشفت شيئًا من الحقائق، أو رأيت زيادة الكرامات عليك للزيارة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الحاجُّ والعمَّار زوار الله حقٌّ على المزور أن يكرم زائره ". (56)قلت: لا. قال: ما زرت قال: أحللت؟ قلت: نعم. قال: عزمت على أكل الحلال؟ قلت: لا. قال: ما أحللت. قال: ودَّعت؟ قلت: نعم. قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا. قال: ما ودَّعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك.(57)
والحج عند الصوفية، هو استجابة وتلبية لنداء الاسم الذي يقبل من العبد طاعته وعصيانه، وليس موجها من حقيقته التي لا يمكن رفض أوامرها، فالنداء إما أن يراعى فيه توجيهه من عين الذات التي هي عينك، كما قال ابن عربي في الفتوحات، أو من عين الصفة، فيكون الخطاب في الأول حقيقة الذات، ويقتضي الخضوع بدون عرض خارجي، وفي الثاني تكون الإجابة من كونه عز وجل متكلما، ويستلزم وجوب الفعل على السامع لكونه مأمورا بالإتباع، وهذا فرق فيما بين درجات العارفين في اعتبار الأمر الإلهي، فالسابقون رأوا الأمر ذاتا، واللاحقون رأوه صفة، فتعددت طرق التزامهم بالفعل إيجادا وعدما.
وصية، أن يحرص الحاج على أن يرجع بمعرفة الله عز وجل، تلك المعرفة التي توصله إلى ملكوت هذه الآية : " ألم يعلم بأن الله يرى " لا أن يرجع بمشاهدة الأطلال والمغاني. أن ييأس من الخلق تحقيقا لمظهر عظمة الذات، أن يجلي مرآته عن صور الأكوان المنطبعة فيها بمظاهر الأسماء الإلهية وتجلياتها.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
-54 القشيري، لطائف الإشارات عند الآية 196 من سورة البقرة
***لن أتمكن من الإحالة على جميع الصفحات من الفتوحات المكية لابن عربي، وسأكتفي بالتنبيه على بعضها مما تيسر لي، وأذكر الإخوة بأن النسخة التي اعتمدتها مملوكة لدار الحديث الحسنية الرباط، وهي مطبوعة بدار الفكر بتقديم الدكتور محمود مطرجي، ويمكن للقارئ أن يعود إلى هذه النسخة أو مثيلها من الصفحة 532 إلى 708 من الجزء الثاني.
-55 لطائف الإشارات عند قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. آل عمران 97
-56 فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حيان في صحيحيهما , ولفظهما : وفد الله ثلاثة الحاج والمعتمر والغازي .
-57 حقائق التفسير للسلمي عند قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت...