مقالات فنية وثقافية :
صورة المسلم الملتزم في السينما العربية الجديدةبقلم /د. مصطفى عطية جمعة- الكويت
بات الفن السينمائي من أهم الفنون البصرية في حياتنا ، ذلك لأن تلقي الفن والمعلومات عبر البصر يعتبر أكثر جاذبية وأعلى تأثيرًا عن غيره من الحواس . وإذا كان الكثيرون منا قد نأوا بأنفسهم وأبنائهم عن الذهاب إلى دور السينما ، مفضلين المكوث في بيوتهم ، فإن القنوات الفضائية – خاصة قنوات الأفلام والدراما – قامت بمهمة مطاردتنا ، فاقتحمت بيوتنا ، ولازمتنا في صحونا ونومنا ، فأصبح من الصعب هجرها ، وإنما الأفضل التعامل الرشيد معها ، بما يجعلنا نتقبل الجيد منها ، ونعرض عن الرخيص المبتذل ، ذلك لأن سياسة المنع والتحريم تدفع الأبناء – الصغار والكبار - إلى استكشاف هذا المنع بطرقهم الخاصة ، فالأفضل أن يحرص الآباء على أن يوجهوا أبناءهم إلى تذوق الفن السينمائي في أفلام منتقاة بعينها وتحت رقابة الوالدين .
ولا شك أن هناك مجموعة من الأفلام السينمائية – جيدة المستوى – جذبت الكثير من متذوقي السينما ، ومن ثم تتابع عرضها في القنوات الفضائية ، ولكنها – كما يقال – تبث بعض السم في عسلها ، وهذا السم نابع من رؤية كتّاب السيناريو في السينما وجلّهم من ذوي التوجهات العلمانية ، فلا نستغرب شيوع الكثير من الرموز المعبرة عن رؤاهم ، في ثنايا الفيلم . ومن أبرز الظواهر التي تستوقفنا ، ظاهرة المسلم الملتزم في الفيلم السينمائي - المصري كمثال - ، حيث نرى المسلم الملتزم متخذًا هيئة شبه ثابتة من ناحية الشكل تتمثل في : لحية كثيفة غير مهذبة ، جلباب أبيض قصير ، أو قميص أبيض مقفول الأزرار إلى آخره ، متجهم ، يتحدث بعصبية ، وبتعالٍ ، ويرصع كلامه بآيات قرآنية وأحاديث شريفة ، محب للنساء دون إعلان ، شبق في علاقاته الجنسية بشكل خفي .
أما من ناحية المضمون فإنه يختلف من فيلم لآخر ، ولكنه في النهاية يصب في محاور متشابهة المضمون ، وهي أن هذا الملتزم إما أن يكون إرهابيًا محبًا للقتل والسرقة باسم الدين ، وإما أن يكون سلبيًا بعيدًا عن الحياة العامة ، غارق في عباداته .
ففي فيلم " الإرهابي " نرى عادل إمام متقمصًا لدور الإرهابي : لحية طويلة ، وجلباب قصير ، ويخطب مستعينًا بجمل من خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي ، فيقول : " إنني أرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها ، وإننا سنقوم بقطع رؤوس الكافرين من قومنا " ومن ثم يستبيح هو ورفاقه الملتحون القتل والنهب للمحلات ، ثم يهرب الزعيم الإرهابي – عادل إمام – من الشرطة ، ويحلق لحيته ، ويلجأ إلى إحدى الأسر المستنيرة – كما يرى السيناريست - وكان قد أصيب في حادث لسيارة أحدهم ، فيقومون برعايته ، ونلاحظ أن سلوك الأسرة المستنيرة هو : تبرج شديد لابنتهم فتاة الإعلانات ، وميول يسارية لابنهم حيث عبّر عن إعجابه بشخصية " تشي جيفارا " أحد مناضلي الماركسية في أمريكا اللاتينية ، مع ثناء الوالدين على ابنيهما ، فهما لا يجدون غضاضة فيما يفعلانه ، ونرى النظرات الجنسية الجائعة من الزعيم الإرهابي للابنة ذات العري المفتعل ، وتزداد الصورة قتامة ، عندما يأتي أحد رفاق الزعيم متنكرًا ، ويبرر للزعيم أن يعاشر الابنة ، فهم من "الكفرة ، أموالهم وأعراضهم حلال لنا " .
بعيدًا عن باقي تطورات الفيلم ، إننا نجد صورتين متناقضتين : الأولى : مسلم ملتزم مدان بكل ما تأباه النفس البشرية : قتل ، سرقة ، محاولة للاغتصاب ، كذب ، وكله تحت شعار الإسلام ( التكفيري ) ، والثانية : عائلة مستنيرة بسلوكها : تبرج ، وثقافة يسارية، يغلفهما مودة ومحبة تجمع العائلة ، وهدوء وسكينة في تصرفاتهم ، وبالتالي فإن المشاهد - سينحاز وفقًا لرسالة الفيلم – إلى ما يزكيه من سلوك العائلة ، وينبذ التشدد والإرهاب. والغريب أن صناع الفيلم لم يقدموا نموذجًا وسطيًا بين الصورتين ، نموذج يدعم الإسلام السلمي المستنير ، بل كانت الرسالة مباشرة خطابية واضحة ، تنحاز للفكر العلماني.
الفيلم الثاني فيلم " الإرهاب والكباب " ، وهو فيلم جيد على مستوى التقنية والفكرة ، وربما يعيبه التبرج الشديد للبطلة الثانية " يسرا " ، و أرى أنه لا داعي لدورها من أساسه ، ولكنها عادة الزعيم في أفلامه ، لابد من ضحكات ذات إشارات جنسية ، وشخصية متبرجة ( داعرة غالبًا ) ، تسند البطل الذي تدور الأحداث حول شخصه.
في الفيلم : البطل شخصية بسيطة من عامة الشعب ، اضطرته الظروف إلى أن يختلف مع موظفي مجمع التحرير القابع وسط أكبر وأهم ميادين القاهرة ، والموظفون في تعاملهم يرمزون للسلطة بكل مركزيتها وتجبرها وروتينيتها ، ويتطور الأمر إلى تمرد جماعي من قاصدي المجمع الحكومي ، ثم ينقلب إلى شبه ثورة شعبية ، ولكنها بلا قائد ، فتقدم عادل إمام الزعيم ليكون قائدها ، وكانت مطالبهم في بدايتها غير معروفة ولا محددة ، ذلك لأن القائد بلا فكر ووجد نفسه في خضم الثورة ، رسالة الفيلم هنا واضحة : الشعب بلا قيادة صالحة وفكر سوي يعني ضياع وخسران له . المهم ، لم يستطع الزعيم أن يعبر عن تطلعات الشعب ، فانحصرت طلباته في : وجبة كباب من أحد أفخم الفنادق ... ، وانتهى التمرد نهاية عبثية ، مثلما بدأ بداية عبثية ، انفض الناس ، هرب من هرب ، وقبض على من قبض . ونلاحظ في هذا الفيلم صورتين :
الأولى : لمتمرد زعيم الثورة ( عادل إمام ) : بطل صادق مخلص ضاحك لديه بعض الثقافة المغلفة بروح الدعابة وهذا يجذب المشاهد عادة .
الثانية : المسلم الملتزم الملتحي ، وقد ظهر في الفيلم عبارة عن موظف حكومي يصلي بخشوع ، تاركًا مصالح الناس المتضررين من صلاته ، بينمايتهمهم بالعصيان والفسوق، والموظف ضخم الجثة ، كثّ اللحية ، عابس ، عصبي في الحديث . وعندما يثور الناس على الأوضاع يكون هو أول الفارين إلى خارج مجمع التحرير ، وهو يصب لعناته على هؤلاء الفاسدين .
لم تأت هذه الصورة من عبث ، بقدر ما عبّرت عن رؤى علمانية مسبقة ، أساسها أن الدين بعيد عن الحياة ، مجرد طقوس وعبادات ، وهذا جوهر العلمانية : فصل الدين عن الحياة ، وفصل الناس عن القيم الدينية .