سورين كيركجارد :
حياته :
ولد سورين كيركجارد في الخامس من أيار 1813 في كوبنهاكن في الدنيمارك. وكان آخر أبناء والدين تقدمت بهما السن، فقد كان أبوه في السادسة والخمسين من العمر، وأمه في الرابعة والأربعين، عندما ابصر النور. وقد كان الفيلسوف في شبابه شديد التأثر بأبيه، وكان أبوه شخصية غنية ومضطربة معاً. وكان أبوه يدعى مايكل بدرسن كيركجارد وقد عمل في بداية حياته راعياً صغيراً في كوتلاند وكان غاضباً ومتمرداً على قسوة الحياة عليه، وأنعكس ذلك بثورة عصيان على الله في مشهد جدير بأسفار العهد القديم. وبعد أن لعن الله ذهب ينشد الثروة في العاصمة وقد أصاب بعض النجاح من جراء عمله بالبقالة. وحين بلغ الأربعين أعتزل العمل، وتفرغ بقية حياته طلباً للثقافة العامة. وقد أنتابه شعور بتأنيب الضمير، بسبب لعنته وتمرده على الله. وبعدما تزوج من خادمته بعد وفاة زوجته الأولى. قد زاده شغفاً بطلب الحقيقة الدينية.
وكان أبنه سورين يرجح صحبة أبيه الذي كان يكشف له عن مسيحية مليئة بالقلق على الحياة مع أمه وأخوته. وكان أبوه يلاعبه بما يهيج خياله بإسراف. لقد كان طالباً متحرراً جداً وذا مال كاف، عاش بين 1830 – 1838 حياة سطحية مضطربة. لقد كان شغوفاً بالمسرح وقرأ لكثير من الشعراء. ولكنه تأثر بالإبداع الفلسفي لدى فخته وشيلنج وخصوصاً هيجل.
لقد أحب فتاة وخطبها تدعى ريجينا أولسن ابنة مستشار المحكمة. لكنه سرعان ما تخلى عنها وفسخ خطوبته، عندما وجدها عائقاً في طريق رسالته التي كان يقول أنه يحملها. وأن هي تركت أثراً كبيراً في نفسه وفلسفته، ونجد صورة ريجينا تسود كل مؤلفاته. وقد ألف العديد من الكتب، التي ساد فيها الجانب الوجداني والذاتي، في رؤيته ومعالجته للحياة. وفي آخر حياته وقع فريسة للمرض نقل على أثرها إلى المستشفى، وقد مات بعد شهر من العذاب وكان في11 تشرين الثاني1855.
منابع الوجودية الكيركجاردية :
من المؤكد إن مؤثرات كثيرة خارجية وعارضة قد أثرت على فكر كيركجارد. أن فكرة تشكّل بتمّثل عناصر غريبة عنه أقل مما تشكّل بالغوص المستمر الدائب في أعماق شخصيته الخاصة وبالتنبه الذي لم يزل يزداد اتساعاً وإلحاحاً. لا بأحوال الوجود بوجه عام لأحوال وجوده الخاص. كان هناك رد فعل من جانب مزاجه، وفرديته كما تحققت في ذاتها إزاء المؤثرات التي كان ينؤ بها فكره، بل إن فلسفته هي ذاته تماماً، ذاته على نحو ما إرادي يجري على نسق. لدرجة أنه يجعل من الفرد كفرد ومن الإدراك الواعي لهذا الوجود الفردي، الشرط المطلق، للفلسفة بل الفلسفة في جملتها.
لقد كان كيركجارد يردد منذ بداية حياته الفكرية حتى نهايتها، بما يكتب في يومياته قائلاً : إن مسألة المسائل هي ( أن أجد حقيقة… حقيقة… ولكن بالنسبة إلي، أن أجد الفكرة التي من أجلها أريد أن أحيا وأموت ). ولم يكن كيركجارد يستطيع أن يتصور حقيقة تظل خارجة عنه، حقيقة لا تكون إلا مشاهدة لروحه. ( الحقيقة هي ذات الحياة التي تعبر عنها : هي الحياة في حالة الفعل ). بهذا المعنى نستطيع، أن ندرك قيمة النصوص العديدة التي يعلن فيها كيركجارد أن مؤلفاته كلها ليست سوى تعبير عن حياته الخاصة. وهو يقول ( أن مؤلفاتي كلها تدور حول نفسي… حول نفسي وحدها ولا شئ سواها. ويضيف قائلاً : ( إن إنتاجي كله ليس سوى تربيتي لنفسي ).
ويقول كيركجارد أيضاً ( أنا أفكر، أذن فأنا غير موجود وذلك في مقابل النزعة العقلية الديكارتية. فالحقيقة هي الوجود نفسه، في واقعية الفريد الذي لا سبيل إلى التعبير عنه أو التنبه للوجود حين يتحد الوعي بالوجود نفسه. والجهد الذي يبذله الآخرون لنسيان أنفسهم، يبذلونه هم لمعرفة ذواتهم معتقدين أنهم بمعرفتهم أنفسهم معرفة لا تزال تزداد عمقاً. سيعرفون كل ما يبقى بعد ذلك عن معنى الإنسان والعالم والله على السواء). وعند كيركجارد أن شغله الشاغل هو الإنصات إلى همسات أفكاره، وملابسات إيقاع حياته الباطنية. وفي رسالة بعث بها إلى بيترلند يصف ميزة هجر أصدقائه له بعض الشيء حيث يقول: ( أن صمتهم ملائم لمصلحتي، من حيث أنه يساعدني أن أسدد نظري إلى نفسي، ويحفزني إلى إدراك ذاتي… تلك الذات التي هي لي، وأن أحافظ على ثباتي وسط تغير الحياة بنظرة فيها الحياة خارج ذاتي… ويضيف قائلاً: أن هذا الصمت يعجبني، إذ أرى نفسي قادراً على بذل هذا الجهد، واشعر بأنني كفأ للإمساك بتلك المرأة، أياً كان ما تطلعني عليه، سواء أنه مثلي الأعلى أم صورتي الهزلية).
ويرى أن الفلسفة تتلخص في إدراك المطالب الحتمية التي يقتضيها الموجود الصحيح لا الزائفة إدراكاً بواسطة الغوص في أعماق وجوده الخاص. وهكذا تصبح الذاتية معيار الموضوعية.
مراحل الوجود :
1- المرحلة الجمالية :
يتسم الواقع الإنساني ويقصد به أن تكون حياة الإنسان خاضعة للّذة والشهوة والتمتع بكل ما هو حسي. وهذا المستوى من مستويات الحياة الجمالية وبإرضاء الجوانب الحسية، ومثاله صفات السيبياد بطل المتعة الفورية، والرغبة التي تمنح دون جوان قوة هواه ومبدأ إغرائه، من الطاعة الشهوية. ينبغي لدى كل امرأة هو الأنوثة الكاملة. ونجاحه يرجع لهذا الإضفاء المثالي الذي يسقطه على ضحيته. لكن يأخذ المستوى الجمالي بالتآكل تدريجياً حيث تكون الرغبة بوصفها مطلقاً متوحشاً، وخواء المتأنق على الصعيد العاطفي، ودافع العناء الغرامي. وينتهي بالباحث إلى أن يتساءل في نهاية التحليل أليس أسعد هؤلاء الأفراد المشغوفين بطلب اللذة الذي يعتبر أشقاهم: إنه المعتزل الذي لم يعش حقاً، اقتصرت حياته على إسقاط هذه الإمكانات المختلفة.
2- المرحلة الأخلاقية :
ويقصد به أن تكون حياة الإنسان مستهدفة لتحقيق الخير وقواعد الأخلاق، وأن يكون قادراً على اتخاذ القرار، وعلى أن يختار أما هذا أو ذلك، بعد أن يكون قد تحرر من عبودية الجسد والمادة التي تميز الحياة في المرحلة الجمالية.
لأن الحب الأول المتفتح في الزواج هو حقيقة الإنسان السوي الأخلاقية، إنه تركيب الحرية والضرورة: إن أحد العاشقين يشعر بأنه منجذب للآخر بقوة قاهرة، ولكنه بوجه الدقة يمنح وعي حريته من هذه الحال أن هذا الحب تركيب العام والخاص، وهو يحتويهما كليهما حتى تخوم الصدفة. وبهذا الاعتبار فأن الحب الأول حب دقيق وأكثر سلامة وأوفر حظاً بأن يكون أول حب صحيح. الحب الأول ينطوي إذن على ثقة مباشرة. ولكن الأفراد الذين يشعران به يلقيان فوق ذلك نمواً دينياً. عندما يحمل حب بائس الأفراد على اللجوء إلى الله وعلى طلب الطمأنينة في الزواج. إن الحب الأول هو حب يشوه طبيعته، ومن البين إن العاشقين قد ألفا ترك كل شيء لله. إن الحب الأول يعوزه المثل الأعلى الثاني، المثل الأعلى التاريخي: أنه لا يتضمن قانون الحركة إذا كان الإيمان بالحياة الشخصية أن يكون إيماناً مباشراً، فأن الإيمان الذي يقابل الحب الأول قد يحسب، من جراء الوعد، بأنه قادر على رفع الجبال، وتحقيق المعجزات. أن الحب الزوجي يملك هذه الحركة لأن عزمه يتجه شطر الداخل. ويدع في المجال الديني، يريد بعزمه التعاون مع الله. وأن يناضل من أجل ذاته، ,إن يغزو ذاته بذاته مع زمان الصبر.
3- المرحلة الدينية :
هو الذي نخاطر فيه بالقفز في المجهول، والذي يقضي على اليأس والقلق الذي يكون فينا بفضل الإيمان بالله. ( إن المرحلتين الحسي والأخلاقي يقودان الإنسان المشخص إلى الحقيقة المتعالية المتسامية عن الطبيعة أي إلى الله الذي نتعلق به خلال المرحلة الدينية).
إن أعمق واقع ليس الذاتية الزائفة للنزوات الجمالية، ولا الموضوعية الزائفة للتأمل الهيجلي، بل الذاتية المأساوية للمستوى الديني. لقد تعذر البرهان نظرياً على وجود الله. أليس مسعى البرهان على وجود نابليون بالانطلاق من أعمال. لكن أعمال لا نستطيع البرهان على وجوده، اللهم إلا إذا طرحنا وجوده في ضمير الغائب الذي يعود عليه. فليس بين نابليون وبين أفعال علاقة مطلقة تتيح القول بأن أي فرد آخر لم يكن في وسعه أن ينهض بتلك الأعمال: إذا نسيت هذه الأفعال لنابليون يكون البرهان ناقلاً مادمت أسميته. ولكنني إذا كنت أجهل فاعلها فكيف أبرهن أن فاعلها نابليون ؟ وكل ما أستطيع أن أؤكده أن مثل هذه الأفعال لابد إنها من صنع قائد عظيم. وبالمقابل توجد بين الله وبين أفعاله علاقة مطلقة، لأن الله ليس اسماً، بل مفهوم. ومن هذا تتضمن ذاته وجوده.
ومن الضروري البرهان على إله شخصي عن طريق الإيمان. وليس الدين، كذلك عاطفة، بل هو تعبير صحيح عن المرضي الجمالي: وأن احترام هدف مطلق يتجلى فيه، بتحول الوجود تحولاً تاماً. ولكن هذا التحول الذي يتناول الوجود بالمرضي الديني إنما هو تحول داخلي كله. الخطيئة نظام واقع ينظم من تلقاء ذاته. واليأس الفضيحة وجدل الإيمان، إنه جدل الخلاص الحقيقي هو الألم أمام الله.