زارني الرافعي هذه الليلة وقد كنتُ أفتِشُ عن وجهيَ وأنا أمتطي الأسْرارَ ، وأفتشُ في كفي عن صُواعٍ خبّأتْهَ الحياةُ في حنايا القلبِ ...
- " الناسُ في الحبِّ أصنافٌ : فواحدٌ يُجاهِدُ زلّاتٍ قد وقعتْ ، وهو المحبُ الآثِمُ، وآخرُ يجاهدُ شهواتٍ تَهُمُّ أنْ تَقَعَ، وهو المحبُ المُمْتَحَنُ ، وثالثٌ أمِنَ هذه وهذه وإنما يجاهِدُ خطراتِ الفكرِ ، وهو المحبُ ليُحِبَ فقط، ورابعٌ كالقرابَةِ والصديقِ عجزَ الناسُ أن يجدوا في لغاتِهم لفظاً يلبِسُ هذه العاطفةَ فيهم فألحقوها بأدنى الأشياءِ إليها في المعنى، وهو الحبُّ . وعلى الثالث بنيت ( رسائلُ الأحزانِ)".
فتشتُ بين أصنافِكَ عن موطئِ قلبٍ ، فوجدتُني خارجَها في غَرَقٍ تشتاقُهُ الرّوحُ ، وأنا بين قيسٍ المسفوحِ على بعضِ تفاصيلِ روحي ، وبينَ مواعيدَ مطويةٍ على شفاهِ الجدبِ .
ولكن أيّها المُحَلّقُ في ( رسائل الأحزان) ألمْ تقلْ إنّ نِصفَ الجنونِ في العاشقِ الذي يتجردُ من الناسِ إلا منْ أحبَّ ، ونِصْفُهُ في المعتوهِ الذي يتجرّدُ منَ الزّمنِ الحاضرِ !فأينَ هذا مِنْ أصنافِكَ الأربعة؟!!
أراك مثلي تُعْمِلُ العقلَ لتضعَ أصنافا ، وتَعودُ إلى فُوَهَةِ الجرحِ لتُداعِبَ الجنونَ و لتواريَ سوءةَ القَفْرِ في العقلِ ، فالعقلُ يقصينا ويستَلُّ من أمواجِنا نبضَ المطَرِ ، ونحن في بحثٍ دائبٍ عن نبضٍ كلما آنسْنا مَوْجاً!!
الحب في أنْ نَخرجَ من وجوهِ حروفِنا لنرويَ شفَةَ الجدبِ ، وقد نلجأُ إلى علاماتِ ترقيمٍ تفصحُ عن بناتِ الموجِ ، ونخرجُ فيها من غياباتِ الجبِّ لنستلقيَ على رمالِ لا تلوثُ ثوبَ عذاباتِنا!!
ويبقى المحبونَ يبحرونَ على قاربِ الذكرياتِ يبحثونَ عنْ ماءٍ يروي أعوادَهم الذاويَةَ ، ليكفكفوا دمعَ اشتدادِ الكروبِ ، وليمسحوا آماقَهم بالمستحيلِ خارجَ حدودِ المُمكنِ !!
أرأيتَ محبّا لا يجدَ إلا (...) علامَةَ الحذفِ ليقطعَ دروبَ الإيابِ ويَسْعَدَ باللحظةِ الآتيةِ ، وحبيبةً تضعُ وردةً لتختزِلَ عمراً تخثّرَ من بين يَديْها!!
أرأيتَ محباً يبحثُ عن علاماتِ ترقيمٍ جديدةٍ تشيرُ إلى حروفِهِ الظمأى لواحاتِ الندى ، فندى الواحاتِ حُلُمٌ يهاجرُ على رياحِ الأسْرارِ، إلى حروفٍ خارجَ حدودِ القواميسِ !!!
أرأيتَ محباً يفتحُ صفحتين ، واحدةً يكتبُ عليها ما ينسَجِمُ مع اللحظةِ الحاضرةِ ، و أخرى يرسِلُ إليها أحْلامَهُ، ويسافِرُ إليها في أضلاعِ موّالٍ حزينٍ يحملُ فيهِ كبِدَهُ وجراحَهُ، وهو بينهما يَرْقُبُ أطرافَ القلقِ الرّاجِفِ ، وكأنني به يسيرُ على أرصفَةٍ مرتعدَةٍ ، وحرفُهُ يبقى مسكونًا بالأسرارِ ، تتربَعُ في حناياه الينابيعُ، فهو بين لغتين : لغةٍ يكتُبُها ، ولغةٍ تَكْتُبُهُ، وتمتطيهِ لتجتازَ به حدودَ الممنوعاتِ !!!
ربما هو بحثٌ عن جَمالِ روحِ المحبوبةِ في عالَمِ المُباحاتِ ، وأراني أتفقُ معكَ هاهنا حينَ تقولُ : " ليسَ بجمالٍ إلا ذلك الروحُ الذي يرفَعُ النّفسَ إلى أفُقِ الحقيقةِ الجميلةِ ، ثم ينفخُ فيها مثلَ القوّةِ التي يطيرُ ويَدَعُها بعد ذلك تترامى بين أُفُقِ إلى أُفُقِ ، فإمّا انتهى المُحبُّ إلى حيثُ يصيرُ هو في نفسِهِ حقيقةً من الحقائقِ ، وإمّا انْكَفَأَ من أعاليهِ وبهِ ما بالطّيّارّةِ الهاويَةِ : رفعتْ راكِبَها إلى حيثُ ترمي به ميتًا ، أو كالمغشيِّ عليهِ من مَسِّ المَوتِ!"
أرأيتَ محباَ لا تغيبُ المحبوبةُ عندَه عن حفاوَةِ عينيهِ ، وهو يشرع ساريتَهُ ، ويرسو في المآقي ، تؤجّجُهُ حروفٌ ترنو إلى الجُزُرِ الخاليةِ ، وهو يبسِطُ قلبَهُ في فمِ الأفُقِ مثلَ عجوزٍ توسّدَ كفّيهِ ونامَ عميقاً !!!
أتراه كطائرِكَ في( رسائلِ الأحزانِ) يطيرَ على جناحينِ ، فما أقرَبَ مَنْ هو على جناحِ الفِراقِ ممن هو على جناح الهَجرِ؟؟!!
أرأيتَ محبّاً تزورُه البسماتُ ، ولكنهُ يلجُمُها أحياناً ليلقيَها في صفحتِهِ الأخرى، فهناك يُمكِنُهُ أنْ يملِكَ الموانئَ المُستحيلَةَ، وهناكَ يمكنُهُ أن يخلعَ روحَهُ ليسبَحَ وحيداً دونَ أنْ تصادِرَهُ الأعينُ ، فيعيشُ طموحاتِ سَفرِهِ الشّفّافِ ، وفيها تكونُ الشّمسُ مُلكَهُ والنجومُ...حينَها يقولُ خذوا الدنيا وخلّوني هنا في لُجّةِ صفحتي فلصفحتي هذه تُخومٌ من عالَمِ السُّفّارِ ، يَرْقُبُ فيها الآتي ، وأحلامُهُ مُشْرعَةٌ للريحِ ، وفيها فسحَةٌ للروحِ لتهذيَ ..!!
أتَدرِي أيّهَا العَظِيمُ: عَنْدمَا أَقْرَأكَ أَجِدكَ تَعِيشُنَا ، فَأنتَ تَعيشُ بَينَ حَنايَا حُرُوفِنَا ، بَلْ بَينَ الشّفَةِ والأذُنِ أحْيانَاً أرَأيتَ إِلى قَولكَ عَلى لِسَانِهَا: ... أَسْأَلكَ أنْ تَتَكلّمَ ، فَإِنَ مَدَامِعِي هَذهِ عَرضَتْ لِي كَالمطَرةِ السّانِحةِ فِي حَميمِ القَيظِ مِنْ صَميمِ الصّيفِ على أرضٍ مُغْبرةٍ مُقشَعرِةٍ تَثُورُ سَخطاً على كُلِ قَدمٍ تَطَؤهَا، و إنْ فِكْريّ لَيُكلِمُني السّاعَةَ بِلسَانِكَ كَمَا يَدْوِي النّاقُوسُ بِصَوتِهِ العَالي الرَنْانُ بَعدَ أنْ كَانَ هَذا النّاقُوسُ مختنِقِاً فيّ بما يُطِيفُ بِه مِنْ الضّغطِ ، فَكانَ لا يَدُقُّ إلاّ دقّاتٍ مُصْمَتَةٍ رنينٌ فيها كأنّهُ ناقوسٌ مِنْ الخَشَبِ!"
وأنا لا أريدُها أن تأتيَني بِصمْتِ حمامَةٍ مهزومَةٍ ، بلْ أريدُها أنْ تختارَ الحياةَ ، وأنْ تراها جميلةً وإنْ كانَ جمالُها مُخبّأ في جُفونِ المُسْتَحيلِ ، لا يتهدَدُهُ الذّبولُ ، وألاّ تراني مِنْ نَسْلِ ريحٍ لا يَقِرُّ لها مُقامٌ ...!!!
وأنا بينَ صفحتي الثانيةِ ، والبحثِ عن علاماتِ التّرقيمِ ،أُبْحرُ في شرايينها مُيمِماً شَطرَ القلبِ!!
مَنْ للمُحِبِّ ومَنْ يُعينهُ والحُبُّ أهنأُهُ حَزينَه أنا ما عرفتُ سوى قَسا وتِهِ فقولوا كيفِ لينه؟ إن يُقضَ دَينُ ذوي الهوى فأنا الذي بَقيَتْ ديونَه