قراءة في واقع الهزيمة....!
لا نستطيع أمام الحرف الجميل أن نقول أنه جميل وكفى! بل لا بد من الوقوف لنقول هاهنا يتبدى الجمال ويتبرج..!
وهنا يضعف اللفظ ويخبو النور....!
هذه قصيدة جميلة جدان وتدفعك رغما عنك للقراءة والتدبر، والوقوف متأملا أمام جمال الحرف وحرفية شاعره...!
العنوان:
نعترفُ ...الآنَ هُزمنا ..!!
الاعتراف حالة من حالات الصحوة، أو حالة من حالة الخنوع والذلة..! وهنا الاعتراف خنوع و ذلة..، فنحن نعترف بهزيمتنا، وهذا الاعتراف لا يحرك فينا ساكنا، كيف والهزيمة أصبحت جزءا من حياتنا اليومية وبتنا نتعاطاها صاح مساء.!
المقطع الأول: تأوه وحزن..
الوجعُ اتّسعَ ..امتدّ ..احتدّ ....اشتدّ
اتسّخت كل خيوط الشمسِ
وكلّ صفات الثوارِ ..
سقطَتْ كلّ الأسماءْ .
بهذه الأبيات الأربعة بدا الشاعر قصيدته، الوجع(مبتدأ) يبدأ باسم، ولا يبدأ بفعل، كأنه يقول لنا أننا خارج إطار الفعل..بل يسند الأفعال إلى غيرنا، إلى الوجع الألم، اتسع...حتى طم الأمة برمتها، وامتد حتى اشتد ..
ومن وجعنا بتنا نرى خيوط الشمس متسخة، كيف ذلك! فخيوط الشمس هي اشعتها التي ترسلها إلى الأرض، وهي التي لا يمكن أن يصيبها وسخ، ولا شئ...! ولكن وجعنا قد طال حتى العلو والمرتفع، حتى هذه الشمس التي فوقنا قد أصابها من هزيمتنا وذلنا شئ من هذا..، وهذه كناية عن استطالة جرحنا وعموم بلوانا..!
ومن ذلنا و وهننا حتى الثوار لم يسلموا من هذا الشنار، فأصابهم شئ منه..!
ثم يعرج في المقطع نفسه إلى وطنه المكلوم..
لم يتبقَ يا وطني ....في وطني
إلاّ بعض الأشلاءْ
هذه الأشلاء
تنزف في لغتي كلّ حروف الجرّ
وترتعد فصول النحو على نحوٍ خسر كرامته
في أول جملة إنشاءْحتى لغتنا لم تعد فصيحة، بل تدنست بهذه الهزيمة النكراء..!فقد أصاب حياتنا كل هذا الفساد، وعمها البلاء...! .
من رئتي ينزف جرحك يا وطني
في ذات الرئة يصبّ دماً ...
لولا انه بعض دمي الفاسد
" ليس بفعل ممرضة بلغارية "
لكن ثوار الأمس يدوسون على التاريخ
الشعب ، الأطفال ....وعلى دمنا وكرامتنا
يدوسون على جثث الشهداء ...
تنكر واضح من هؤلاء ...لبني جنسهم، أي الم مضن نحن نحياه..!
المقطع الثاني:
ينادي غزة المدينة المعروفة..ويتكلم عن فضائح بعض أهلها وبعض عربانها، وهناك لمحات وغمزات نلاحظها هنا..
يا غزة هاشم قومي نعلن أن صقور بنيك
يخونون السفح الشاهق .. من لا يعرف نزق السلطة ..
فليختبر الطير على رأسه ..
حين تسيل على عينيه بيوض حمائم
من يجرؤ أن ينبئ هاشمك
بأن صفيح الثوار تهدّم
فلا ثورة ولا فدائيين، ولا عمل جهادي، بل بيعت القضية، واستبدل بها:
كي ترتفع على البحر فنادق خمس نجوم
أو تتخذ قرارات الحسم بحانات دحلاسية
نحرق جامعة في غزة
كي نبني ...داراً للعجزة ..داراً للفتوى ..
أو داراً لنؤكد فيها فحولتنا
بليالٍ أوضح من دمنا ..حمراء .
فالفحولة عندنا هي هذه الليالي الحمراء التي يرمي فيها بنو يعرب الآلاف تحت قدمي بغي لا تساوي نعلا..!
إنه لشئ مخجل، مخجل جدا هذا الذي نفعله، نريد أن نتوارى منك ياغزة، (ف)
كيف أخبئ وجهي منّي يا غزة.......إنه الخجل من التاريخ، ومن الأسلاف، لا بل من نساء السلاف...!
إذ تجرحني بالنظرات المرآة
كرامة أهلي بيعت بالبخس
على " بسطة أحذية " في السوق السوداء .........ذل وهوان يدمي القلب..!ثم يتساءل تارة أخرى:
كيف أخبئ وجهي من مقبرة فيها أمّي.........ثم يلتفت بالحوار إلى أمه،
قالت قبل الموعد بدقائق أوصيكم بالأرض
ونامت تحتضن مفاتيح البيت المحتل بحيفا..
و انظر إلى شاعرنا كيف صور القضية بصورة رائعة،تحتضن.....كناية عن الحفاظ والحب ،وكلمات هذه الأم قوية جدا، ومؤثرة جدا،
...إياكم أن تأتوا للجنة
فيما قبضتكم فارغة من حفنة رملٍ كالحناء .
يخجلني أني خنت وصية أمّي ..
كيف خان وصية أمه! نعم لأنه رأى هذه الشعوب تتخبط بترهات فيسودها بنو صهيون، بل يفتك بها أبناؤها قبل عدوها...!
المقطع الرابع: حوار مع الجيل القادم، بعد أن رأى الجيل الماضي يطالبنا بالحفاظ على الأرض..!
مبلغ همّي أن أتوسّد قبراً بين الأشباه الأحياء .
وأخبئ وجهي أمام الشاشات فيسألني ابني
" من هذا بلثام ....
من ذاك المجروح ينزّ هناك ؟
ثم يتساءل الولد باستغراب شديد، وحق له ذلك..
لماذا إطلاق النار ..لست أرى الإسرائيليَّ..........قتال الأخوة، أيكون ذلك! كيف وقضيتهم واحدة، وأرضهم واحدة، ودينهم واحد...!
ولكن الأب في صمم، كأنه لا يسمع، وكيف يسمع وهو يرى هذا الذل ولا يستطيع أن يجيب، وكيف يجيب؟ وماذا يقول؟ ايقول نحن أضعنا الأرض؟ أم زرعنا الشوك؟ أم ماذا يقول..! السكوت يبدو أفضل في حالته هذه...ّولكن الولد يريد إجابة على تساؤله، فيقوم يعبث بوجه أبيه، كما عبثت يهود في الأرض..!
أبي ..هل تسمعني ؟
أتشاغل عنه ولكن يغرز إصبعه في عيني ..قل لي :
--- لكن الدمعة تسبقني ...
دمعة حزن وغضب وأسف وحرقة............!فيزور الأب عن الجواب، ويحيد
هذا يا ولدي ..درسُ مناورة ..لا تقلق ..!!
مصر العربية تختبر السلطة بعطايا سلاح أمريكي .. بالمجّان ..
فلا تقلق ........سلاح بالمجان لقتال الأخوة....ولكن لا يهنأ الولد، فيترد متسائلا:
- لكن ذخيرتهم حيّة ...قال ..
- فقلت ..وقتلى أيضاً ...
كيف سيجيب؟...يبدو أنه لم يستطع صبرا فانفجر صائحا...
إن السلطة .. أعني الأكذوبة يا ولدي ..فضحتهم
تفصح عن قلّة ماء بوجوهِهِمُ ...
تكشفها ناصعة من غير حياء ......................فضيحة عربية تسود الوجوه...!
المقطع الخامس:
تكملة لتبيان قتال الأخوة الأعداء.......ينادي غزة للنهوض لوقف هذا القتال،
يا غزة ..قومي ،
ثم يكون الاعتراف بالهزيمة النكراء المخزية، التي جعلتنا أضحوكة وألعوبة أمام العالم..!
نعترف الآن أمام الله ..وكل شعوب الأرض
بأنّ الهندي الأحمر يقتل هندياً أحمر منه .. لأجل حذاء ..........(أحمر منه) لفظ له دلالته السياسية القوية المعبرة..!
فليهنأ قابيل فلسطين بقتل أخيه ..
وليكتب مع فاتحة الشاهد ..
كيف انتصر الجرح على الأشلاء .
المقطع السادس:
ينادي وطنه، قائلا: يتبرئ مما حدث لأنه لا شأن له به، فالقضية أكبر منه ومن الشعوب، فيقوم يبرئ من فعله..
إني يا وطني بريء من وجهك يغرق في الوحل
لذقن الطين
أتنازل عن حقّي ..بالعودة ، كي لا تذبحني ذات السكّين
لست أخاف الموت ..
الموت الذليل، والعيش الذليل
ولكن اخجل من موتي على هذا النحو ... ومن تهكمه من هذا الواقع يصفه بالحمل الكاذب، سخرية واضحة جدا.. فواقعنا الكاذب يتقابل مع الحمل الكاذب,,,
كما تخجل بعد الحمل الكاذب سيدة
من زوجٍ داعبها بحذرٍ ...
لا نعرف أيهما ..بعد خواءٍ ..صار المسكين ..!!
المقطع الأخير لوعة تامة وألم مخز،
هاتوا كل لصوص الفرح ..سأخبرهم :
بين سلامٍ أعوج ..
ومقاومةٍ عرجاء ...
ضيّعنا من أيدينا وطناً .. ..
كنا نسمّيه فلسطينْ .!!!
فنحن قد ضيعنا كرامتنا وأرضنا، بهذا السلام الأعوج الذي لا يفيد في شئ، وهذه المقاومة العرجاء برجل واحدة، ضاعت فلسطين ... وكلمة الضياع دليل اللاعودة، فقد تاهت هذه الديار عن أهلها، ولكن نحن من أضاعها.........هذه الأرض التي أضعنا جهلنا حتى اسمها، فقد كنا نسميه فلسطين، كأن الشاعر يريد أن يهيش القارئ هذه اللحظات المحزنة فقال (كنا نسميه..) أليس في هذا لوعة وأسى وحزن طويل..!
لمحات نستشفها من هذه الألفاظ الموحية...ولا أدري هل أدركت ما أراد الشاعر؟ ولكن يبقى هذه قراءتي التي قرات فيها هذا الجمال المحزن....................!