عبقرية الالتفات لغةً وإيقاعًا
قراءة في نص :"عزف منفرد
للأديبة البارعة : الأستاذة : أهداب الليالي
https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ad.php?t=17368
===
"ما تزال بلاغتنا العربية الزاهرة قادرة على العطاء وسبر أغوار النصوص الإبداعية الرائعة"===
مصطفى
أولا: النص:(( عــزف منفــرد ))
--------------------------------------------------------------------------------
أرصفــة غربتـي عنـوان ليـلي الداكن ، يـولد العمـر ، وبـرعشة لحظاتـه تـولد شهـقة علـى حـدود الـروح ، مبللـة الأنيـن فـي كـل زفـرة وجـع .
اقتـربت كـي ألتمـس فـي حنايـاك نهـراً يغسـل وجـه أحزانـي ، فوجدتـني منفـياً فـي مـدائن غربتـك ، ينتحـب صبـري علـى صـدر أحزانـك .
أترانـي أتحسـس بعضـاً مـن قلبـك خلسـة دون وجـه حـق ؟
أترانـي أبصـر طريقـاً لأتلمـس مواطـن الوجـع بداخلـك ، وأجفـف دمـوع قلـبك بـأكفـف الـروح ؟
أهـداب ماعـاد لأمواجهـا هـدوء تسكنـه !! ، أو لفضائهـا العـاري سمـاء تحتضـن الحلـم ، ترتبـك في صمـت اللحظـة ، تفيـق لحظـة اشتعـال الجليـد بليـالٍ حبلـى برمـاد التعـب ، تطحـن حطـام نبضهـا لتـذروه فـي درب غربتـك ، فاجمـع فتـات القلـب واعجنـه بأحزانـك .
يا أنــا :
سنابـل القمـح المنهكة مـا عـادت قـادرة علـى حمـل بـذور البقـاء ، فـكـم نحتـاج مـن العمـر كـي نرمـم أمسنـا المهشـم ؟
أتعلـم يـا سيـد الحـزن .. بـدأت أكبـر بـحرفي ألـف عمـر ، بـات الخـريف يحاصـرني كلمـا تساقـط ربيـع مـن عيـون الكلمـات ، و أصبحـت أسابـق فوضـى فصولـي لأتسلـق روحـي لعينـين لا تزهـر بتـلات العمـر إلا بهمـا ، ولا يبتسـم الفجـر إلا لهمـا .
فـاعـزف .. يا فتنة الألـق المقـوس قزحـاً عـزفـك المنـفـرد على أوتـار قلـب يئــن حين يعود لحن الصبي إلـى ناي أوردتك ، وبين النبضة و النبضة .. ذات الـوفـاء روح تستوطـن روحـك وصـدر يضـج بـعـبـيـر مـدادك الأزرق ، أهيـم بسـواد عـيـنـيـك وأتـوشـح منـها حـدادي ، حيـن تـغـيـب .. أشـواقـي تـشـتـعل علـى عتـبـة انـتـظـارك ، تـركـض علـى صـدر الـزمـن ، تـستـجـديـه أن يـسرع عقـاربـه ، وحيـن ألـتـقـيـك .. اغـلـق أبـواب العـالم ومنـافـذ الفـضـاء ، عـش خـارج نـطـاق الـوقت لـن أسـمـع سـوى صوتـك فـي عـالم لا يـسكـنـه سـواك .
:
:
الع ــنقاء
==
ثانيا: القراءة:
للولوج إلى قلب هذا النص الثريّ السنيّ أكثر من مدخل
بيدَ أنني آثرت منها بابا من أبواب البلاغة العربية الزاهرة ، يسمى عبقرية الالتفات
بما يؤكد أنها ماتزال رغم مر الليالي وكر العشي قادرة على العطاء وسبر أغوار النصوص الإبداعية الجديدة الرائعة
والالتفات أسلوب من أساليب لغتنا الجميلة يقول علماء البلاغة :
"واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه (على ما ذكر الزمخشري) هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن نظرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بلطائف " (القزويني:الإيضاح في علوم البلاغة)
ويعرفه العلماء بأنه نقل الكلام وصرفه من حالة إلى حالة فيكون من حالة التكلم والخطاب إلى حالة الغيبة أو العكس ، لتحقيق أغراض بلاغية ومناسبات تظهر بالتدبر في مواقع الالتفات،
وهذه الأغراض تختلف وتتعدد بحسب سياق النص وطبيعة التجربة.
كما سنرى هنا حيثُ وفقت الكاتبة في توظيف طاقاته توظيفا بارعا وفي استثمارإمكاناته استثمارا موفقا للانتقال من حالة إلى حالة حيث يجسد الضميرُ المستخدم في كل حالة ما يناسبها ويتسق معها .
كما سنرى أنه جاء متسقا مع الأداء الإيقاعي للعزف في انتقاله من صعودٍ إلى هبوط ، ومن ثورة إلى هدوء ، فكان في ذلك تنويعا جماليا ودلاليا ، و البعد عن الوقوع في رتابة الإيقاع الواحد، والنغمة المتكررة.
1 . الانطلاق من الذات في محاورة الآخر:
بدأت كاتبتنا عزف كلامها مستخدمةً ضمير المتكلم (غربتي – ليلي ) إحساسا بالمعاناة وتجسيدا لها فقالت:
"أرصفــة غربتـي عنـوان ليـلي الداكن "
ومن ثم جاء خطابها
"اقتـربتُ كـي ألتمـس فـي حنايـاك نهـراً يغسـل وجـه أحزانـي ، فوجدتـني منفـياً فـي مـدائن غربتـك ، ينتحـب صبـري علـى صـدر أحزانـك . أترانـي أتحسـس بعضـاً مـن قلبـك خلسـة دون وجـه حـق ؟
أترانـي أبصـر طريقـاً لأتلمـس مواطـن الوجـع بداخلـك ، وأجفـف دمـوع قلـبك بـأكفّ الـروح ؟ "
فصار الخطاب هنا انطلاقا من الذات في علاقتها بالآخر ، وتلاحظ كثرة ضمير المتكلم(
مسندا إلى الأفعال مثل : اقتـربتُ- ألتمـس - فوجدتـني - أترانـي (مرتين) - أتحسـس - أبصـر
ومضافا إلى الأسماء كما في: (غربتي – ليلي أحزانـي- صبـري )
في حين كان ورود ضمير الخطاب أقل
: ( حنايـاك -غربتـك - أحزانـك - قلبـك(مرتين) - بداخلـك "
يتبين من هذا إن الإحساس بالذات هنا أقوى حضورا ، وأكثر بروزا
كما نلحظ إسناد ضمير المتكلم إلى الأفعال للدلالة على إيجابية المتكلمة وفاعليتها أما الآخر فضمائره مضافة إلى أسماء . وبالرغم من أنها إضافات توحي بالروْح والسكينة، تظلّ ثابتة ساكنة بلا حركة ولا حيوية.
وبعد هذا الحضور الطاغي الفاعل المُرسِل للذات، في حوارها مع الآخر المستقبِل تنتقل الكاتبة بنا إلى مرحلة أخرى
2. تأمل الذات (ضمير الغائب):
انتقلت الكاتبة هنا إلى والكلام عن الذات(ذاتها) من بعيد لإعطاء فرصة للتأمل ، فكأن الانتقال إلى ضمير الغائب دلالة على إحساسٍ ما بالغربة عن الذات ومعاملتها معاملة الغائب ،
فقد جردت من ذاتها ذاتا أخرى تتحدث عنها كأنها غائبة (وما هي بغائبة) ولكنها
"أهـدابُ ماعـاد لأمواجهـا هـدوء تسكنـه !! ، أو لفضائهـا العـاري سمـاء تحتضـن الحلـم ، ترتبـك في صمـت اللحظـة ، تفيـق لحظـة اشتعـال الجليـد بليـالٍ حبلـى برمـاد التعـب ، تطحـن حطـام نبضهـا لتـذروه فـي درب غربتـك ، فاجمـع فتـات القلـب واعجنـه بأحزانـك ".
وفي هذه المرحلة لم يرد للآخر ذكرٌ إلا في آخر المطاف(بأحزانك) . وكأنها تطمئن نفسها وتطمئنه بأنه لم يزلْ حاضرا.
أما العناية فكانت منصبة هنا على التأمل الهادئ ، في شخصية (أهداب) التي ابتعدت عنها الكاتبة قليلا لتراها ولنراها معها بصورة أفضل.
وكان هذا تصرفا موفَّقا جعلنا نتابع الحديث بشوقٍ ؛ لأن الحديث بضمير المتكلم يسبب إحراجا للمتكلم وإضجارا للسامعين.
وكان في هذا تأثير على اللحن حيث مال إلى الهدوء بعد أن بدأ ثائرا مضطربا، وكأنه سينفونية كما لحظ الأديب البارع الأستاذ خليل حلاوجي قائلا "سمفونية جديرة بأن تكون النشيد الوطني لمن تبقى من ثلة ... الصابرين"
أجل إنها حقا سينفونية ثرية بالحركات والألوان لا تسير على نمط واحدٍ . بل تتدفق كموجات لحنية .
3. الالتقاء:
هنا آن لضمير المخاطب أن يأتي ممتزجا بالذات حيث تناديه الكاتبة قائلة:
"يا أنــا :
سنابـل القمـح المنهكة مـا عـادت قـادرة علـى حمـل بـذور البقـاء ، فـكـم نحتـاج مـن العمـر كـي نرمـم أمسنـا المهشـم ؟
أتعلـم يـا سيـد الحـزن .. بـدأت أكبـر بـحرفي ألـف عمـر ، بـات الخـريف يحاصـرني كلمـا تساقـط ربيـع مـن عيـون الكلمـات ، و أصبحـت أسابـق فوضـى فصولـي لأتسلـق روحـي لعينـين لا تزهـر بتـلات العمـر إلا بهمـا ، ولا يبتسـم الفجـر إلا لهمـا .
فـاعـزف .. يا فتنة الألـق المقـوس قزحـاً عـزفـك المنـفـرد على أوتـار قلـب يئــن حين يعود لحن الصبي إلـى ناي أوردتك ، وبين النبضة و النبضة .. ذات الـوفـاء روح تستوطـن روحـك وصـدر يضـج بـعـبـيـر مـدادك الأزرق ، أهيـم بسـواد عـيـنـيـك وأتـوشـح منـها حـدادي ، حيـن تـغـيـب .. أشـواقـي تـشـتـعل علـى عتـبـة انـتـظـارك ، تـركـض علـى صـدر الـزمـن ، تـستـجـديـه أن يـسرع عقـاربـه ، وحيـن ألـتـقـيـك .. اغـلـق أبـواب العـالم ومنـافـذ الفـضـاء ، عـش خـارج نـطـاق الـوقت لـن أسـمـع سـوى صوتـك فـي عـالم لا يـسكـنـه سـواك ."
:
:
اسمع معي النداء: (يا أنا)
إنها لا تنادي ذاتها بل تنادي المخاطب بعد أن امتزج الضميران امتزاجا فصارا ضميرا واحدا ، كما تؤكد التعبير عن هذا الامتزاج باستعمال ضمير المتكلمين (فـكـم نحتـاج مـن العمـر كـي نرمـم أمسنـا المهشـم ؟)
والآن صار المخاطب قادرا على العزف حين يقدم له المتكلم أوتار القلب ليجيء اللحن شجيا كصوت الناي الحزين ، ولكن اشتعال الأشواق الصادرة من المتكلم العائد عودة سريعة (.. أشـواقـي تـشـتـعل علـى عتـبـة انـتـظـارك ، تـركـض علـى صـدر الـزمـن)
تتسبب في سرعة الإيقاع وكأنها هي التي تتحكم فيه وتضبط إيقاعه ماتزال!
وكما كانت الكلمة الأولى هنا للذات المتكلمة تأتي الكلمة الأخيرة للماخطب وحده (لا يـسكـنـه سـواك .)
ليكتمل الحوار ، ويجمُل العزف الذي كان منفردا ، وظل متفرِّدا".
=============
الأديبة المبدعة : أهداب الليالي
كنت هنا مستمتعا ببهاء الحرف
وبراعة العزف
بارك الله لنا فيك وفيهما