إعداد
أ.د. أحمد خالد شكري
قسم الدراسات الإسلامية
كلية الشريعة والقانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة (حاليا)
الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك (سابقا)
المقدمة
الحمد لله الواحد القهار، والصلاة والسلام على سيد الأبرار، وآله وصحبه الأطهار، وبعد،
فقد تعددت آراء الباحثين في إعجاز القرآن الكريم في تحديد أوجهه، وتفاوتت هذه الآراء بين حاصر لها في وجه واحد وهو الإعجاز البياني، وبين معدد لها إلى وجهين هما: الإعجاز البياني والعلمي، أو إلى ثلاثة بزيادة التشريعي أو إلى أكثر من ذلك بأوجه قليلة أو كثيرة ، ومن هذه الأوجه المختلف فيها ما يسمى: الإعجاز العددي الذي انتشر بين أوساط المسلمين وغيرهم في هذا الزمان الحديث عنه، وكثرت المؤلفات فيه، وكنت وما زلت أتابع هذا الموضوع، وأدون على حواشي النسخ التي أطلع عليها حوله ملحوظاتي الشخصية وتساؤلاتي، وكنت أجد مِن بعض مَن كَتب في الإعجاز العددي تجاوزا غير مقبول وجرأة غير محمودة، ومع التسليم المطلق بوجود تناسق وتآلف وتناغم وتكامل وتناسب بين الأعداد المذكورة في القرآن الكريم، وبين أعداد وجمل وحروف عديدة فيه، وبين علاقات عديدة رائعة بين فواتح بعض السور – الحروف المقطعة – وعدد الحروف في تلك السور، إلا أني شعرت أن عددا من الباحثين تجاوز هذا الحد المقبول من توظيف الأعداد والأرقام وعلاقاتها في القرآن إلى تأويلات بعيدة وأقوال شاذة وافتراضات مرفوضة، وتقوُّل على كتاب الله تعالى، مما جعل البحث في هذا الكلام ودراسته دراسة نقدية أمرا متحتماً ولازماً للوصول إلى الرأي الصواب فيه بإذن الله تعالى.
ولمحاولة الوصول إلى نظرة شاملة في الموضوع اطلعت على معظم المؤلفات في الإعجاز العددي، ولا تعني دراسة هذه المؤلفات ونقدها أي انتقاص شخصي لمؤلفيها، فهذا بحث علمي، ونقد موضوعي يستهدف الفكرة لا الأشخاص، ولا أزعم أني أحطت بجميع المآخذ ونقاط النقد التي يمكن أن توجه إلى مثبتي فكرة الإعجاز العددي والمؤلفين فيه، وحسبي أني نبهت إلى هذه القضايا وفتحت الباب لمزيد من البحث والحوار.
والله تعالى أسأل أن أكون وُفقت للصواب، وهو حسبي وإليه مآب.
المبحث الأول
لمحة تاريخية حول مقولة الإعجاز العددي وأدلتها
يرى بعضهم أن فكرة الإعجاز العددي بدأت منذ عهد الرسالة حين نزلت الحروف المقطعة في فواتح بعض السور، وبدأ اليهود يحسبون الأرقام المقابلة لهذه الحروف بناء على حساب الجُمَّل على أنها تبيين لعمر دين الإسلام، ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله أن بعض اليهود سمعوا النبي يقرأ فاتحة سورة البقرة، فحسبوا جمّل (الم) فكان إحدى وسبعين، وظنوا أنه عمر دين الإسلام، ولما سمعوا (المص) وحسبوها كانت مئة وإحدى وستين سنة، ولما سمعوا: (الر) قالوا: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان، فهذه إحدى وثلاثون ومئتا سنة، ثم سمعوا (المر) فقالوا: هذه أثقل وأطول، لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ وقالوا فيما بينهم: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد: إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومئة، ومئتان وإحدى وثلاثون، ومئتان وإحدى وسبعون، فذلك سبع مئة سنة وأربع وثلاثون، ثم قالوا: لقد تشابه علينا أمره .
وأرى أن الربط بين هذه الحادثة ونحوها وبين الإعجاز العددي غير دقيق، ولا يخلو من تكلف ظاهر، سواء حصل هذا الربط من دعاة إثبات فكرة الإعجاز العددي أم من دعاة نفيها، فالفريق الأول يسعى من خلال الاستشهاد بها إلى تثبيت مبدأ استخدام حساب الجمل وتوظيفه للوصول إلى معنى ما، وإن كان مستخدموه في هذا المثال قد أساءوا في محاولة توظيفه لقصد خبيث وهدف سيء، وهو محاولة كشف عمر أمة الإسلام، ظنا منهم أن الحروف المقطعة في أوائل بعض السور إشارات لهذا الأمر، ومع ضعف سند هذه الرواية ، ففي متنها نكارة من جوانب، منها أن معظم الحروف المقطعة نزلت قبل فاتحة سورة البقرة المدنية، وهذا يستدعي تقدم معرفة أهل الكتاب بها، ومجموعها سيعطي رقما أكبر بكثير من الرقم الذي حسبوه لأربع فقط من فواتح السور الأربع عشرة، هذا إذا لم نكرر العد مع تكرر ورود الحرف في الفواتح.
والفريق الثاني يسعى من خلال الاستشهاد بها إلى الطعن في مثبتي فكرة الإعجاز العددي بأنهم يسيرون على نهج اليهود في هذا الأمر، ويستخدمون الطريقة المتعارف عليها بينهم وهي حساب الجمّل، ويوظفون الرواية – مع علمهم بضعفها – لتكون دليلا قويا لهم يردون بها على دعاة الإعجاز العددي، وأنه لا يؤدي إلى نتيجة كما حصل مع هؤلاء اليهود الذين صرحوا بأن أمر محمد ألبس عليهم بهذا الحساب ولم يتوصلوا معه إلى أية نتيجة.
وبعيدا عن أي انحياز أو تحامل، فإني أرى إبعاد هذه الرواية عن ميدان الاستشهاد بها لصالح أحد الفريقين أو ضده، فضعفها كاف لردها، والميدان الذي يبحث فيه الباحثون في الإعجاز العددي والأفكار التي يطرحونها ويحاولون إثباتها ليست بهذه البساطة التي رأيناها في الرواية، وقصارى ما يؤخذ من هذه الرواية وما أشبهها أن الناس في ذلك الوقت كانوا يستخدمون حساب الجُمّل، ولم يكن استخدامه مقتصرا على اليهود وحدهم، ولكن استخدمه في أزمنة متعددة المؤرخون والشعراء والأدباء والعلماء، استخداما محمودا، ويتفاوت الهدف من استعمال هذا الحساب بين كون هذه الأرقام مفاتيح أسرار الحروف يتوصل من خلالها إلى كشف أمور غيبية وأسرار خفية ، ولذا يستخدمه السحرة والمنجمون والمشعوذون ومن أشبههم، وهذا استخدام لا شك في حرمته وعدم جوازه، وبين استخدامه في مقاصد حسنة نبيلة، منها: التأريخ لحدث ما بحروف أو عبارات، وبيان عدد أبيات نظم أو عدد آي سورة وما أشبه ذلك ، والهدف منه سهولة حفظ الحروف بدلا من الأرقام، لأن الأرقام إذا كثرت تشابهت وصعب حفظها.
ويحاول بعض دعاة الإعجاز العددي توثيق رأيهم وتأكيد قِدَم البحث فيه بروايات عن السابقين فيها ذكر للأرقام واستعانة بها على التفسير، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس في تحديد ليلة القدر بقوله: "(ليلة القدر) تسع أحرف، ومذكورة في السورة ثلاث مرات فتكون ليلة سبع وعشرين" ، وما روي أيضا في تحديد ليلة القدر وأنها ليلة سبع وعشرين من كون عدد كلمات سورة القدر ثلاثين، واسم الإشارة (هي) اللفظ السابع والعشرون بينها ، وما روي عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) فيجعل الله له بكل حرف منها جُنّة من كل واحد" وبما ذكره عدد من العلماء من ظواهر لها صلة بالأرقام، منها ما ذكره الباقلاني عن ظاهرة تتعلق بالأعداد التي في حروف فواتح السور، وهي ظاهرة استخدام نصف حروف اللغة العربية في الفواتح ، ونصف حروف كل صفة من الصفات، ففيها خمسة من حروف الهمس العشرة، وتسعة من حروف الجهر الثمانية عشرة، وأربعة من حروف الشدة الثمانية، واثنان من حروف الإطباق الأربعة ، وثلاثة من حروف الحلق الستة، وتبع الباقلانيَّ في التنبيه على هذه الظاهرة الزمخشريُّ ، وزاد هو وابن المنير على ما ذكره الباقلاني أن فيها ثلاثة من حروف الاستعلاء السبعة، واثنان من حروف القلقلة الخمسة، واثنان من حروف الصفير الثلاثة، واثنان من حروف اللين الثلاثة، ويلاحظ أن التنصيف في الصفات ذات العدد الفردي تقريبي.
كما يحاولون الاستدلال بنقول ونصوص عديدة عن العلماء السابقين في إحصائهم عدد كلمات القرآن الكريم وحروفه ، المهمل منها والمعجم، وتقسيمه إلى نصفين وأثلاث وأرباع وأخماس وأسداس وأسباع وأثمان وأتساع وأعشار وأحد عشر واثني عشر وثلاثين وأربعين وستين ومئة وثلاث مئة وستين جزءا ، وببعض الحوادث التي فيها تحديد أحداث ومواعيدها من خلال معادلة رقمية مستنبطة من الآيات، منها حادثة استنباط المفسر ابن برجان أن القدس ستفتح في رجب سنة 579، وكان قد كتب تفسيره في سنة 520، وقال إنه استخرج هذه المعلومة من تأمله في فواتح سورة الروم، واعتمد على كلام هذا المفسر قاضي دمشق محي الدين زكي فقال مخاطبا صلاح الدين بعد فتحه حلب:
وفتحكم حلبا بالسيف في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب
إلا أن هذا كله لا ينهض لهم دليلا على ما سعوا إليه من التأصيل لفكرتهم، فقد كان استخدام الأرقام قديما لغايات الإحصاء أو الإشارة إلى اللطائف والتناسق بينها، ولم يتطرق أي من السابقين إلى تسميته الإعجاز العددي أو الرقمي ولذا فإني أؤكد أن فكرة القول بالإعجاز العددي حديثة غير قديمة.
ومن أوائل من أشار في العصر الحديث إلى وجود تناسق بين الأرقام والأعداد، وإلى لطائف تتعلق بعدد مرات ورود ألفاظ معينة وما يحمله ذلك من دلالات الإمام الكبير بديع الزمان سعيد النورسي (ت 1960م)، وهو أحد أئمة الإصلاح والدعاة إلى الخير في العصر الحديث، فقد حوت رسائله بعض الإحصاءات المتعلقة بهذا الأمر، وجعل الحديث عنه تابعا لحديثه عن التناسق اللفظي الذي كان يرى فيه نقشا إعجازياً، وأنه أحد الوجوه الأربعين للإعجاز .
وفي تلك الفترة بدأ عبد الرزاق نوفل (ت 1984م) بالبحث في الأرقام والأعداد في القرآن، حيث ضمّن كتابه: "الإسلام دين ودنيا" الذي صدر عام 1959 الإحصائية التي أجراها، وتبين له فيها تساوي عدد مرات ورود لفظي الدنيا والآخرة في القرآن، حيث ورد كل منهما 115 مرة، وأتبعها في عام 1968 في كتابه: عالم الجن والملائكة بإحصاء عدد مرات ورود لفظ الملائكة والشيطان، وأنهما متساويان تماما، حيث ورد كل منهما 68 مرة، ثم أصدر في عام 1975 كتابه "الإعجاز العددي للقرآن الكريم" ، وفيه إحصائيات عديدة حول تساوي عدد مرات ورود ألفاظ متقابلة أو متضادة.
ثم أعلن الدكتور محمد رشاد خليفة سنة 1972م ، اكتشاف ما أسماه: معجزة القرن العشرين، وهي معجزة الأرقام في القرآن الكريم، وذلك في مقال نشره في مجلة "آخر ساعة" المصرية تحت عنوان: "في أمريكا بالعقول الإلكترونية يفسرون القرآن الكريم"، وأصدر كتيّبا أسماه: "عليها تسعة عشر"، وكتابا أسماه: "دلالات جديدة في القرآن"، وألقى محاضرات عديدة ضمنها فكرة الإعجاز العددي المرتبط بالرقم 19، في عدد من الدول منها الكويت ، وأعجب بما طرحه كثير من الناس، ثم تبين لهم أنه بهائي وأنه يقدس الرقم 19 بسبب بهائيته، ثم ادعى أنه رسول الله، وكانت خاتمته القتل في منزله بأمريكا في حدود سنة 1990 .
ثم كثرت المؤلفات والمقالات والمحاضرات في الإعجاز العددي، وخاض في هذا المجال كثيرون، وتبين لي من خلال الاطلاع على مؤلفاتهم إمكان تصنيفهم إلى صنفين: الأول: المتخصصون في الشريعة وهم قلة، الثاني: المتخصصون في العلوم الأخرى، وهم الأكثر، وتتفاوت تخصصاتهم ما بين الهندسة والرياضيات والطب والكيمياء الصناعية والقانون وغيرها من التخصصات، وأكثر الذين وقعوا في أخطاء من هذا الصنف، كما أن بين الباحثين في الإعجاز العددي – حسب علمي بحال بعضهم - من هو راغب في الخير وخدمة كتاب الله تعالى، ومن هو مستور الحال غير معلوم التوجه والقصد، ومن هو سيء النية خبيث القصد، مثل محمد رشاد خليفة.
ولعل من المناسب في هذا المقام التنبيه إلى أنه ليس لأي أحد أن يخوض في علوم القرآن الكريم وإعجازه وتفسيره، دون أن يكون ملما بالعلوم التي نص أهل العلم على وجوب تحصيلها قبل ذلك، وعالما بالشروط التي اشترطوها فيه، لئلا يقع في الخطأ والخلل، ومن هذه العلوم والشروط:
1- مراعاة البدء في تفسير القرآن بالقرآن وبالمأثور.
2- الاعتناء بالقراءات القرآنية.
3- الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه كلام العرب.
4- الأخذ بمقتضى الكلام وما دل عليه الشرع.
5- عدم الدخول إلى التفسير بمقررات سابقة.
6- عدم اللجوء إلى التأويل والمجاز إلا عند تعذر حمل اللفظ على معناه الظاهر.
7- العلم بقواعد الترجيح ومسائل النسخ .
8- عدم التوسع في التفسير العلمي ومراعاة الشروط التي نص عليها العلماء لمن يرغب في التفسير العلمي، ومنها: عدم التكلف في التفسير للتوصل إلى موافقة الآية للحقيقة العلمية، وعدم الدخول في التفاصيل العلمية الدقيقة، وعدم الخوض في القضايا الغيبية .
المبحث الثاني
عدم مراعاة الاختلاف في علم القراءات ورسم المصحف وعدّ الآي
وأثره في عدد الحروف وتناسقها
تعد هذه النقطة من أهم ما يؤخذ على الباحثين والكاتبين في الإعجاز العددي، حيث أهملوا هذا الأمر تماما، ولم يراعوا في حساباتهم الكثيرة ما يبنى على اختلاف أوجه القراءة والرسم وعد الآي من اختلاف في عدد الحروف ، وفي الواقع فإن الاختلاف الحاصل في هذه العلوم الثلاثة والمثبت في الكتب المتخصصة ينقض كلاما كثيرا للباحثين في الإعجاز العددي، ويجعل النتائج التي توصلوا إليها غير دقيقة أو غير صحيحة، وليت الأمر وقف عند حدّ عدم الاطلاع على هذه العلوم، فقد تعداه بعضهم إلى الإفتاء بغير علم، والاجتهاد بلا برهان ولا دليل.
وسأذكر فيما يلي أمثلة تبين أن عدم مراعاة هذه العلوم الثلاثة يقلب نتائج الأعداد ويغير المعادلات والمبادئ المعتمد عليها، وبالتالي تصبح النتائج المذهلة والباهرة التي توصلوا إليها بحاجة إلى مراجعة، وإعادة نظر.
أمثلة تتعلق باختلاف القراءات:
من أوجه اختلاف القراءات تبديل حرف مكان آخر، مما يستدعي اختلاف مجموع عدد مرات ورود الحرف في السورة، حال ضبط اللفظ حسب إحدى القراءتين، ففي قوله تعالى: (والله يقبض ويبصط) [البقرة:245] يقرأ بالسين وبالصاد، وقرأه بعض القراء بالوجهين ، فكيف يعد لهم سينا أو صادا أو كليهما؟ وقرئ قوله تعالى: (ننشزها) [البقرة:259] بالراء وبالزاي ، وقوله تعالى: (لنبوئنهم) [العنكبوت:58] قرئ بالثاء بدل الباء، وبالياء بدل الهمزة .
ولم ينتبه بعض من بحث في الإعجاز العددي لمثل هذه الأمور، فقد قال فريد قبطني: " إن نتيجة الاختلاف بين قراءات القرآن هي أن بعض الآيات في إحدى القراءتين أقصر أو أطول مما هي عليه في القراءة الأخرى بينما يبقى عدد الكلمات هو نفسه بين القراءتين" ، وهو هنا يقصد المقارنة بين روايتي حفص وورش، وفاتَه أن عدد الكلمات اختلف بينهما في قوله تعالى: (فإن الله هو الغني الحميد) [ الحديد: 24] حيث قرأ نافع بروايتي قالون وورش عنه – ووافقه أبو جعفر وابن عامر -: (فإن الله الغني الحميد)، وقرأ باقي القراء بإثبات (هو) ، وهذا الاختلاف يؤدي إلى نقص كلمة أو زيادتها ويؤثر على عدد كلمات السورة.
ومن الأمثلة التي وردت في كتاب المعجزة على تساوي ركنين متناظرين تماما: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)، (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [الأحزاب:40] كل منهما مكونة من 23 حرفا، ولكن على قراءة لفظ (النبيئين) بالهمز سيختل التناظر لأن الجملة الثانية ستصبح 24 حرفا، حيث إن هذا الكاتب يعد الهمزة التي لا صورة لها، مثل (شركاءي) [فصلت:62] عدد حروفها عنده 6 أحرف ، و(رءا) [الكهف:53] عدها ثلاثة أحرف .
وحين أحصى أحدهم حروف سورة نوح كان عدد التاءات فيها 34 ، وهذا العدد حسب رواية حفص ومن وافقه حيث يقرؤون: (خطيئاتهم) [نوح:25] بالتاء، ولكن حسب قراءة أبي عمرو: (خطاياهم) تنقص التاءات عنده واحدة لتصبح 33.
أمثلة تتعلق باختلاف رسم المصحف:
من المعلوم عند العلماء المتخصصين في رسم المصحف وجود مذاهب متعددة في رسم بعض الكلمات، ويرجع ذلك في معظمه إلى اختلاف أوجه القراءة، ومن أمثلته اختلاف عدد الحروف والرسم في لفظ (أنجيتنا) [الأنعام:63] فعدد الحروف سبعة على هذه القراءة، وفي قراءة (أنجانا) ينقص عدد الحروف واحدا لتكون ستة، فهذا اللفظ مختلف في قراءته وفي كيفية رسمه بين المصاحف ، وكذلك الحال في كثير من أوجه القراءة المتعلقة بالزيادة والنقصان ومواضعها كثيرة ومتفرقة في المصحف، ويؤدي الاختلاف في رسم بعض الألفاظ إلى تغير عدد الحروف، مثل خلاف علماء الرسم في لفظ (صراط) حيث يرسم بالألف وبدونها ، ولفظ: (وسقياها) [الشمس:13] يرسم بلا ياء ولا ألف في مصاحفنا، حسب الراجح عند أبي داود، وبإثبات الألف أو بياء عند المغاربة ، وهذا الاختلاف في رسم هذه الكلمات سيؤدي إلى الاختلاف في عدد حروفها حسب الرسم.
ويقع الاختلاف في بعض الكلمات بين الإفراد والجمع، وتكتب هذه الألفاظ بما يحتمل قراءتها بالوجهين، وتعد حسب الرسم عند كثيرين فلا يعدون الألف الملحقة باعتبارها ليست من الرسم، فلا يؤثر هذا الوجه عند هؤلاء في العدد، ومن الأمثلة عليه: (ذريتهم) [نحو: الأعراف:172] قرئ بالإفراد وبالجمع ، و(سراجا) [الفرقان:61] قرئ بالإفراد والجمع .
ومن الأمثلة التي يمكن أن تؤثر في عدد الحروف: الألفاظ المهموزة، حيث إن علماء الرسم لم يكونوا يثبتون الهمزة في الرسم ، استغناء عنه برسم صورة لها من ألف أو واو أو ياء، أو للعلم بوجود الهمزة في الكلمة من كثرة استعمال اللفظ، والعادّون للحروف لم ينتبهوا لهذه المسألة مطلقا ويعدون الهمزة غير المرسومة كما يعدون المرسومة، وهذا مخالف لمبدأ العد وفق الرسم العثماني، ومن الأمثلة عليه أنهم يعدون: (رِءيا) [مريم:74] و(للرُّءيا) [يوسف:43] و(قروء) [البقرة:228] أربعة أحرف، وهي حسب الرسم العثماني ثلاثة أحرف، ويعدون: (سوء) [الأعراف:167] و(ملء) [آل عمران:91] و(الخبء) [النمل:25] ثلاثة أحرف وهي حسب الرسم حرفان لأن الهمزة لا صورة لها في هذه الألفاظ.
ومن الأمثلة على عدم مراعاة اختلاف الرسم من العادين، ما جاء في كتاب: "إرهاصات الإعجاز العددي" أن مجموع جُمَّل حروف: (المسجد الأقصا) ثلاث مئة وواحد وستون، ولفظ: (بنوا إسرائيل) الذي يرسم في المصحف بحذف الألف مجموع جمله كذلك ثلاث مئة وواحد وستون، وهو حاصل ضرب 19×19، وأن لهذا التساوي أكثر من دلالة. . . ، ويلاحظ أن الباحث اختار (بنوا إسرائيل) بالواو ولم يختر (بني إسرائيل) بالياء لأن الحساب سيختلف معه ، مع أن ورود (بني إسرائيل) في القرآن أكثر بكثير من (بنوا إسرائيل) الذي لم يرد إلا في موضع واحد [يونس:90]، كما أن في رسم لفظ (إسرائيل) وجها آخر وهو كتابته بإثبات الألف على مذهب أبي عمرو الداني، وهو المعتمد في مصاحف المغاربة ، والهمزة التي قبل الياء لا صورة لها فتكتب حسب قواعد الضبط على السطر، ولا ينبغي أن تعد لعدم رسمها.
أمثلة تتعلق باختلاف عد الآي
ورد في كتاب: "أسرار ترتيب القرآن قراءة معاصرة"، أن السور التي عدد آياتها زوجي عددها ستون، وأن السور التي عدد آياتها فردي أربع وخمسون، وأن السور التي عدد آياتها زوجي تنقسم إلى ثلاثين سورة رقمها في ترتيب المصحف زوجي، وثلاثين سورة ترتيبها في المصحف فردي، وأن السور التي عدد آياتها فردي تنقسم كذلك بالتساوي، فسبع وعشرون منها ترتيبها زوجي، وسبع وعشرون ترتيبها فردي، وهذا ترتيب لافت للانتباه، حيث تقسم السور فيه إلى قسمين: متجانسة في الترتيب وعدد الآيات، أي أن يكون كلاهما زوجيا أو فرديا، وغير متجانسة، ويشكل كل قسم من هذين القسمين نصف عدد سور القرآن الكريم، أي سبع وخمسون سورة، وفي حال جمع عدد آيات السور المتجانسة مع أرقام ترتيب السور يكون المجموع ستة آلف ومئتين وستا وثلاثين، وهو مجموع الآيات، وفي حال جمع عدد آيات السور غير المتجانسة مع أرقام ترتيبها يكون المجموع ستة آلاف وخمس مئة وخمسا وخمسين، وهو مجموع أرقام ترتيب سور القرآن الكريم، وهذا يثبت وجود علاقة بين رقم السورة وعدد آياتها .
ونقل هذا الكلام مؤلف آخر وعلق عليه بقوله: " حتى ندرك عمق المسألة نقوم بإنقاص سورة البقرة آية واحدة فتصبح 285 آية، وبالتالي تصبح فردية الآيات مما يعني أن السور الفردية ستصبح 59 والزوجية 59 عندها ينهار كل شيء..." وخلص إلى أن هذه الدراسة تؤكد أن ترتيب السور وعدد الآيات هو وحي من الله العزيز الحكيم.
والافتراض الذي افترضه الكاتب واقع فعلا، فإن عدد آيات سورة البقرة 285 آية حسب المذهب المدني والمكي والشامي، و286 حسب المذهب الكوفي، و287 حسب المذهب البصري .
وكثرت أخطاء الكاتبين في الإعجاز العددي في موضوع البسملة، وكثرت آراؤهم فيها، فمنهم من يعدها ومنهم من يترك عدها، ومنهم من يخلط ويغير الرأي فيها حسب النتيجة التي يريد الوصول إليها، ومن الأمثلة على أخطائهم ما فعله مؤلف سلسلة: "بدأ العد التنازلي" فهو يرى أن البسملة هي الآية الأولى من القرآن، وأن (الحمد لله رب العالمين) هي الآية الأولى من الفاتحة ، فهو يرى أن البسملة آية فذة لا تندرج ضمن سورة الفاتحة ولا غيرها، وهو قول ضعيف وإن قاله بعض العلماء، فهو غير معتبر عند علماء العدد .
ويرى مؤلف كتاب: "الإعجاز العددي في سورة الفاتحة" أن البسملة وردت في القرآن مئة وثلاث عشرة مرة، لأن البسملة التي في الآية 30 من سورة النمل جزء من آية وليست آية تامة، وهو يعد البسملة ضمن الآيات حين يرى ذلك خادما لما يريد الوصول إليه، وحين يتعارض عد البسملة مع ما يريده لا يعدها، فيقول مثلا: " عدد آيات السورة – سورة مريم – هو ثمان وتسعون آية، فإذا أحصينا البسملة أصبح المجموع تسعا وتسعين . . " .
ويرى آخر أن البسملة آية من سورة الفاتحة فقط، ومختلف في كونها آية من كل سورة سواها، وهو من الأقوال غير المعتبرة عند علماء العدد كذلك، ومع هذا فهو حين يحصي الحروف في السور يعد حروف البسملة مع كل سورة منها سوى التوبة .
وعد آخرون البسملة الآية الأولى من الفاتحة بلا خلاف، ولعل الحامل لهم على هذا ما رأوه في المصحف المنتشر برواية حفص عن عاصم من عد البسملة الآية الأولى في سورة الفاتحة، وظنوه مذهبا وحيدا لا ثاني له.
وذكر بعضهم أن الحديد ذكر في الآية 25 من سورة الحديد، وأن العدد الذري للحديد 26، فبين الرقمين فرق يمكن من وجهة نظرهم تجاوزه بعدّ البسملة الآية الأولى من السورة فيصبح رقم الآية موافقا للعدد الذري للحديد ، ولا يصح هذا الاقتراح إلا على المذهب الكوفي الذي انفرد بعدّ (وظاهره من قبله العذاب) [الحديد:13] ورقم الآية التي ذكر فيها الحديد عند باقي علماء العدد 24 ، فما الحل في مثل هذا الحال؟
وبعد أن أجرى مؤلف كتاب: "أسرع الحاسبين" مجموعة من المسائل قال: "المسائل السابقة كانت مرتبطة بأعداد الحروف دون أن نضيف إليها حروف (بسم الله الرحمن الرحيم) في كل سورة، أما المسائل اللاحقة فستكون مع إضافة حروف البسملة أي أننا سنضيف إلى كل عدد رقما يساوي تكرار الحرف من البسملة حسب الجدول التالي . . . " .
وكان أحدهم يعد البسملة مع حروف السورة أحيانا كما فعل في سورة النصر، فعدد حروفها مع البسملة 99، وتكرارات حرف السين في سورة النمل مع البسملة 94، ويترك عدها أحيانا فعدد حروف سورة الماعون 114 بدون البسملة .
وقال مؤلف "المنظار الهندسي": "وتسلسل الآية لكلمة (مرقوم) الثانية هو 20، وهو 10+10، وإذا أردنا إدخال البسملة كآية فيصبح العدد 21 وهو يساوي 10+10+1 . . ." .
وأورد آخر جدولا ذكر فيه عدد آيات السور مقارنة بين ما أسماه: القراءة الشرقية ويقصد بها رواية حفص، والقراءة الغربية، ويقصد بها رواية ورش، وأخطأ حين ذكر فيه أن عدد آيات سورة الملك في القراءة الغربية 30 آية ، والصواب أنه 31 آية حسب العدد المدني الأخير المعتمد في رواية ورش .
بناءً على ما سبق يتبين لنا أهمية الرجوع إلى هذه العلوم الثلاثة وملاحظة الاختلافات بينها وأثر ذلك في الأرقام والأعداد، وقد يقال إن هؤلاء الباحثين اعتمدوا رواية حفص باعتبارها المشهورة والمنتشرة عالمياً الآن كما اعتمدوا الرسم الموجود في المصاحف الشائعة وعد الآي المعتمد فيه، وبما أن معظم هؤلاء الباحثين ليسوا من المتخصصين في علوم القرآن والتفسير، ولا في أي من علوم الشريعة فليسوا مطالبين بتتبع أوجة القراءة والرسم وعدّ الآي، ويكفيهم ما يكفي المفسرين المعاصرين الذين اكتفوا برواية حفص0
والرد على هذا الدفاع عنهم، أن رواية حفص إنما تمثل إحدى الروايات الصحيحة الثابتة، وليست أقوى ولا أثبت ولا أصح من غيرها إنما كتب لها الذيوع والانتشار في هذا العصر، فالاكتفاء بها في الدراسات القرآنية المعمقة والدقيقة قصور، ويقال الكلام نفسه في مسألتي الرسم وعدّ الآي ، وينبغي أن تتسم الدراسة القرآنية بالشمول والإحاطة ، ولذا عِيب على المفسرين المعاصرين اقتصارهم على رواية واحدة في التفسير، إلا إذا كان المخاطب عامة الناس وبسطاءهم فلا بأس في هذه الحال بالاقتصار على وجه واحد، وما يقوله المؤلفون في الإعجاز العددي ويثبتونه في كتبهم ليس موجها إلى العوام والبسطاء، ويحتوي على مسائل ومعادلات وعبارات في غاية الدقة والصعوبة، مما يقتضي منهم التعمق والشمول، وعدم الاكتفاء بإحدى الروايات، والاطلاع على المذاهب المتعددة في الرسم وعدّ الآي ليكون بحثهم خاليا من القصور، وغير معرض للنقد والتتبع.