نزف معنى من وريد الحرف ،
الحرفُ رقمٌ موقعه بين صعوبة ِ يقين ٍ وسهولة ِ تخمين ، يتأرجح بين هذا السهل وذاك الحـَزَن مقدار ضربتين على خارطة التيه، أو حدود الضياع تفتح له نقاط الترحيب على غير عادة ، يرسمـُك قبل أن ترسمـَه ، ويضعُ جينات ِ الهوية ِ نقشا على صفحة ِ البوح ، مكونا تاريخ َ النزف ،أو نزفَ التاريخ ، فهو وشمٌ في جبين التـَّصوَّر ، ينقل صبغيات قلمك إلى جيل ِ الألم ِ عبر تناسل أدبي و إلى أجيال تتقاسم تركة الفواجع ، أو بصمات الشفق ، تتجمع الحروف الطيبة كلمات أصلها ثابت وبيانها في شرفات الخلود حزما ضوئية تنير أروقة المعاني ، لتشكل ضفيرة من لغة الروح ، تنسدل على ضفاف النفس ، مجسدة ً جمالية الصورة بحرفية مصقولة الوسيلة ، ونمنمة المشاعر تلمسُها بأنامل تذوِّق ٍ، فتسرح في أفانين المتعة السمعية حينا من الضمير، وعلى ناصية المبدأ مقدارَ إعجاب من فضيلة، تضيف لها سمة الخيال ختم الطباع.
عندما تقرأ ببصيرة الحيادية نتاج قلم، تمسك بأول خيط ٍلاستكشاف شخصية الأديب ، تـُجمعُ الحروفُ لتبنيِ في مخيلة ِ اليقظة ِ أرقام هوية الغربة ، أو الإقامة على ثرى صبر ، ومن خلال صفحة بيانه ِ تملأ ُ استمارة َ فكره ومشاعره ، وتتزاحم الصور ، متكاثفة على أطراف أواني استطراق الذات ، وفي بوتقة الإنشاء حول مركز الرؤية المنثورة ترى في مختبر الذاكرة صورة كلية تعبئ ثنايا الخيال بأوكسجين الأمل لتغرقَ المتلقي بنتيجة رسم ٍ يقترب من محيا الأديب وتصبحُ على مرمى ومضة تصديق من تأطير الحقيقة .
بدأت من أولى خطوات لجوء قلمي لعالم الألم بإنشاء سفارة للحزن ، عاصمتها تقع بين نزيف واقع ، وتدفق ذكريات محروقة ، مبنية من جمرات شجن ، تمثل دول الأنين ، حدودها دائرية ، كتبتُ شعارا لها : ولدت أنا والحزن من شظايا الألم .
كانت شروط تمثيلها عسيس َ وجد ، لقلم سكب الأسى في صك ولادته ، قابلـُتــُه دموعُ شمعة ، تراقصت على حرقاتها أحلام ُ عذارى الأمل ، ومهادُه من أشواك الحضور القسري تلبد َ يباسا على صراخ جذور .
كانت أولُ سفيرة في بلاط التنهدات المخنوقة أديبة ً، تتميز بلوعة فراق ، وندي حيرة ، تستقر على بساط طمأنينة القدر ،وقراب ٌ من ألم مدفون تحت ضلع العاطفة ، تشبع فضول الزفير بنبضات قلب متأوه على حبال اغتراب الروح .
فتشت في أوراقها لأجد :( أمي،
أعرف أنك هنا..على مقربة مني..لكني لا أعرف لماذا في كل زياراتك لي، تبوحين لي بالصمت وتمضين؟ تنبشين بعضي الراحل في متاهات الجنون، وتُقْبلين على مساءات الزيزفون التي جمعناها معا من حدائق وجنتيـك...
أمي،))
حنين يقطع نياط الذاكرة بسكين القرار ، للصمت لغة تبوح بها الأم وتمضي ،تعود إلى نبش ذكرياتها في متاهات الجنون ، رحيلا نحو مساءات العودة تنطلق ضربات قلم لتجد أعشاش الطبيعة العذرية هديلَ فاتحة التـَّصبر ، نقاء ً يقارب مطلق التعبير عنه ، وأصالة عبارة تمنح الدقة مقاييس الوصول المثــلى لسمو أصيل الرحلة حيث غياهبُ برد التساؤل ، أين أنت أمي ؟ .
ومن وثائق التصديق رأيت :
(يا عمـري !
يلهـثُ صبري مُصابِـراً كيْ أبقـى حبيسـةَ حرفي . أبني بجوانحـه بيتـاً من صمْتٍ، أسافـرُ إلى أقصى غيمـةٍ صنعَـتْ منّي أشواقاً لا يتوقّفُ هطولُـها، وهي لا تعلـمُ أنّـها قدْ هطلَـتْ قبـلَ ذلكَ بعمْـرٍ لاينبضُ إلاَّ بـكَ وفيـكَ ولـكَ!))
مناداة عمر، أضيفَ للذات ، ومناجاة ٌ على صداه تترنح همسات الوديان ، وتساحلُ الصبر َ نجودٌ الأقاصي محملة حكايا السفر ، تصنع من حرير أشواقها هطولات بشرى ، تسح ربيعا على ربى نبضها المورق قلبا لمن تناجيه،
هنا تم قبول القادم على أجنحة نوارس الحب في دولة تموسق علمها على رفع وتيرة الأسرار ، فكانت أولى الخطوط تكوين َ تصور حول الألم في شخصية إنسان ، وأضفت لصورتها مستقيمات ممزوجة ببراءة بديع الألوان ، منحنيات تقوست بقزحية الرؤية بحرا ، وإذا بلوحة القدر تبسم لريشة الأمل وثغر تصديقها ينطق بـ:( أنا نعم ).
تابعت رحلتي معها، فوجدتها تحمل حقيبة الماضي مملوءة بشفافية المشاعر ، تضعها بين الحنايا والأنين ، بطاقة تعريف لها ، تجنح إلى الآفاق الممتدة عبر أثير العاطفة الصادقة ، وعلى ناصية حزنها ندبة ٌ من وجع ، تحاول إسدال جديلة الواقع عليها ، لكن يأبى الجرح إلا نزفا .
يشعل الوجدان بجمرة من محفظة الأسرار .
ومن البراهين على ذلك تلك الحروف الملتهبة الجوف ،فهي نيران تحت أنات، لا يراها إلا من أظهر بطاقة الاستئذان لعبور تلك القسمات الهادئة على سواحل نبضها ، فينجرف مع تيار الشجن قلما وفكرا ، ويغرق في بحر من واقع حياتها .
هناك فقط تكتمل الحدود الظاهرية لصورة الأديبة ..... وتمس حواف الخيال بريشة التآخي لمصير مشترك الأقواس بينها وبين دائرة اليقين ، تتسع ضمن أقطار متعامدة مع ألوان حياة ، إلا من الأبيض ، تحدد جغرافية السعادة بأمواه محيط الآهات ، مطمئنة لقدر الله ، ونفسٌ لا تضج بجزع ، صافية كنجوم أفق تعير أهلة القمر ميلاد بسمة .
ومن شاطئ جرح إلى بحر هموم تتكون ملامح الصورة لأدب يتسم بمصداقية ممالك الأشواق المنثورة على سواحل الأقمار ، يرشح من حروفه فيض عواطف تنبجس عيون حب على سريرة طبعت بعفة القصد ، فتبوأت مكان السمو في شرفة الأحلام ، وعن موعد النجوم تأخذ المعاني إذن سفر إلى حيث النوى زمن :
يا ليت شعري والنّوى غُصصٌ =تشكو نحولَ الغصن والشجـرِ
هلْ أرتدي ليـلا يخاصمنـي =أسقيه من سُهْدي ومن سهري؟
أم أنّ أحـزانَ المسـا قَـدَرٌ =َعْطُو قلوبَ البَـدْو والحَضَـرِ
أرقتْ جفونُ الورد قد رحلتْ =في طوق أسراري وفي عمُري
أَرِقَتْ جفونُ الوردِ في دعـةٍ =ياليتها قـد أعْتقـتْ سفـري!
هنا تتجسد الأمنيات حقيقة وليست على جانح خيال تسرج شواردها ، بل هي التي تضخ في أنهار الشعور زلال الغصص تحملها أشرعة الهجرة على زورق عشق تسبر أغوار الليل ،وتغوص في معترك الرؤيا ، ترفع سارية السهاد في أعين يقظة العواطف ، تجري في بحار تخاصم الندم ، وملوحة المسافات ، تقطع منها وريقات الرحيل إلى حيث مدارات الشوق ، حاملة بحقيبة نيتها صورتـَها التي ابتسمت للحزن ، فأصبح رقم تعريف لها .
من ساحل المنى تطلق يمامة الفجر لتحلق في فضاءات وردية الألم ، تخط على قوادم سفرها خفايا عمرٍ أرقَّ الجفون دموعا حتى أطفأتْ شموع ميلادها بزفير جاء لتهنئتها بإطلاق مركبة الهموم إلى فلق استكشاف عوالم المحب ، لنصبه سفيرا معتمدا في مملكة التمني .
فوق دالية الصمت ِ تورق جمرَ أنين مكبوت ، وتخضب بواكير الآهات بأصابع طل ، لأوانس زهور تحمل صفات عذراء ، ومن سلة تأويل الضيم إلى نفحات أسى يشردُ عتب خافت ينكر الغصن إذا لم يغرد بحلاوة ذائقة التنهيدات ، فتنشر على أجنحة الريح همساتها المغسولة بدفقة البيان ، نورا يتشكل على ناصية السحب ضفائر ميلاد حالة لاشعورية يتنفس من رئة التفاؤل هواء آلام .
تنسج من جزئيات الروح المتناثرة معانيَ محصَّنة ً بالشهيق على نول العفاف ، وبأنامل الزيزفون تحلم بزرع ريحان الفلق في ثرى الأصيل ، وتشرع للشمس وجها تكلل بحياء الشفق ، فتبدو للغلس فصاحتـُها عروسة ً من نور فرشتْ لها قواميس النجوم هالات بشرى ، تـَسـِمُ شفاه السهد بطيف وسن ، يضم خيال المحبوب بين جفن خوف ، ورموش حراسة مهد تصابى لعرش الحب .
ومن شرفة الحلم تطل بعد أن لملمت نثيرات تنكير الأنا، أهدابُ القمر تناجيه بحبال شكوى صوت دافئ التعبير ـ يمتد شطر المشرق ترافقه برحلة الأنين سيارة ، وقراصنة تطفل على أفكار مغامرتها ، وعلى بساط الليل تسجي ملاءة َ الفضاء الفطري عبر أثير اتصال الروح آهات ِ براءتها ، فتتمازج روحا بلا جسد مع هيام صوفي الوصل ، لتتحول إلى جزيئات عشق عذري تدور في فلك النقاء ، ترسل إشارت النسيم من نافذة التوجس مترددة على شابكة التحديث ، بتغيير كلمة السر خشية قراصنة التطفل، وتعيد رسم موجات الهيام متلاحقة َ البث على كهربية المشاعر ، تلتقطها آذان الخليج القابع تحت أحلام السكون ، ومع انقطاع حبل اللقاء تدور في أفقِ حالة شعورية بآلام تقض مهاد اللحظات ، وترتسم على صفحات خجلها ورودا تقطفها كفارة إثم ظني ، فتنزف توبة ،ثم نقاهة ورجم باليقين أن ما يحدث خللٌ في موجات التردد ضمن دائرة الروح ، لتبقيَ تبريرَ الرجاء حبال أعذار يتأرجح عليها تأويل مفترض ، يتهادى على رقصات محيط ٍ زوارقَ إياب ٍ ورقية العذر فتستقبل موانئ سعادتها حمولة قلب ومثلـِه معه .
ونحو كواكب يوسف تجنح بحلمها ،لا تخشى كيدا ، وتنطلق عبر صحارى بني عامر ومعها كوكبة لم تسجد لوثن قلم ، في رحلة حيث مضارب الليل تمتد عبر نزق الرمال وغضب العادات ، وقيس يلوح بجنونه ، كلما عنـَّتْ له قافية شعر تمرَّغت كلماته بنثيرة عطفها ، فتربتُ على ناصية إبداعه ، فتنتظم القوافي جمانات عهد ٍ يفجـِّر خيال العبور إلى ضفة الإبداع ، تلعقُ الصبر من معجم العادات ، مثلما تطبع على آثار المسير خطيات الحداء.
لحقتُ بهم بعد مسير صفحات على قلم لجوء أدبي ، فاعتذرت عن تقصير لم يكن إلا مديدا من حياء ، وجهتنا مضارب العشق العذري ، تنبشُ بين رمال التاريخ لتستخرج صوتها المدفون هناك في حنجرة الزمن ، تعيد استنساخ العوسج ، وشيح الغربة، أمامنا تتأبطأ نهج بلاغة، وصفحات من هوى يمثل صورتها مع تباين الأدوار ، ودبيب قلمها يزحف بانعقاد خصره على أنملة الخجل ، وأنا بين نفير فكرة ، وجاهزية عبارات، وهي على مهرة الفصيح تغرق الخيالة بعاصفة من أبواب الأمل ، تحمل هما وهدفا ، وأنا أحمي ميمنة القافلة بقلم تواطأ النسيان على غطائه فصدأت عليه كلمات أتمتْ عدة الغياب ، نتابع حركة الرمال المتصابية ، تحث الأقلام وعلى انتفاضة الحروف نتحرك شعرا ونثر حلم ،فتنسج بساط التفاؤل بخيوط من نور يراع ، تسلمت حزمة سيره بزمام مواصلة حركية الزمن ، فتقلب الصحارى ونحن نشد أقواس الخيال، لتنطلق أصوات الفرح عند ضربة سبب خفيف أو ثقيل في إبداعات شعرها ، تسعى بين القوافي تثير فكرة استنهاض الهوى المدفون ، سلاحـُها بلاغة ، وزوادتها بديع في كنانة الصياغة ، وفجأة سمعت منها عبر شريط الأخبار عاجلَ نبأ :
يا قيسُ ! أغنيتي بالقلبِ أُخفيها=سِــرّاً ألَحّنُهــا، همْســاً أُغنّيهـا
ما عدتُ أكتـــمُ أشواقــاً تقتِّلُنــي=اَلْقلبُ يحبسُها والدمــعُ يحكيهـا
أمضي إليكَ، وشوقي زادُ قافلتي=والقلبُ حارِسُها دوْماً وحَاديهــا
أمضي إليكَ وطيفُ الخوفِ يتبعني=والخَطْوُ مُنشطِرٌ، يزدادُ بي تِيهـا
أدري بأنَّ مصيري في قبيلتـنـا=موتٌ، لأنَّ قصيدي سوفَ يُشقيها
مُذْ أحرَقَتْ صحفَ العشقِ العفيفِ وَمَا=باحتْ بهِ المُهَجُ الكلْمَى مآقيهـا
مُذْ أهدرَتْ قصصَ العشّاقِ عامدةً=فالحبُّ كـانَ لها عـاراً وتشوِيهــا
لـولاكَ مَا عُرِفَـــتْ يوماً قبيلتُنـا=لـولاكَ ماخَلَــدتْ حُبّـــاً قوافيهـا
وهاهي الشمسُ أيضا تستعدُّ للرّقـاد، تتثاءبُ فيتثاءبُ رقادي ..فهلاَّ حملتِ، يا شمسُ، قصيدتي بأهدابكِ إلى قيس ليلـى ؟؟؟
تلهج بنداء القريب بعيدا، لم يكن قيسها على جـِنـَّة ٍ ، تستنهض أغنيتـَها المخفية بين ضلوع نبض ، عل فيها ما يترجم شوقها نغما على لحن الهمس ، بعد أن وصل الشوق إلى حافة الدمع ، وتناثرت شذرات قافية الوجع صداح قمر ، يواسي بها أهداب شمس شدت عليها زيم الوداع سرج دفء ، لرحلة ليلية تلجم أشعتـُها ظلمات ِ الكمد ، وتظهر خلود الفكرة أديبتنا بعلم اليقين ، أن صحف العشق تخلدها مآقي العفة ، وكأني بها تسبر أغوار من تعشقه بحروف التحريض باستعمال : لولاك ما عـُرفت يوما قبيلتنا ، راجية من وراء القصد بيان حب منه ، لكنه صمت مطبق على شفاه قلمه إلا من تلويح برداء جمل لا تطفئ جمرة هيام ، فتأخذها ومضة رقاد تتثاءب على مهاد قصيدة ليل طويلة ٌ معانيها ، تستجر العطف بأهداب الصدق .
تميل على حانات التغاضي وتقرع كؤوس الصحوة بأنامل السريرة ، فيهب الساقي من بوابة الوسن ، وعلى قسمات خمرته نشوة نور ، سرعان ما تخبو تحت طائلة حجر المشاعر في مرآب السكون ، بموجب قانون اعوجاج النقش على صفحات الروح تأثرا برياح عادات ، وعواصف أعراف ، فتمسك بتلابيب أسراره تحل عرى قصائد قيس ، وتستنطق جنوحه المسكون بصورة البراءة الحسية ، وعفوية الفطرة ، بطريقة تستبدل قيسا بأنينها ، وليلى بتجاهله ، عندها تضرب ريشة الخيال آخر همسة على لوحة الحقيقة ، وتبوء بحبها ، لتدفع كفارة تكسير مجاديف قلبها على شواطئ الرومانسية ، ولكن لم تستطع تغيير اتجاه حركة العشق لدى قيس ، فتدور معه في زاوية أحلامه ،فتعلن عبر أثير الانسحاب قرار الترقب عن بعد ، لأنها لم تقدر على فك معصم قيسها من حبال ظروف .
تابعنا معها،وأراكم بيننا ، وهنا اعتراف بقصر المعاني مهما أطنبت في توثيقها عن مسايرة جلدها على قيس ، فقد تبدلت الأدوار ، وكأني بها تبدأ رحلة إلى مضارب ِ من تحب تستحضر ليلى بكل جرة ألم ، وقيسها .....
ــــــــــــــــ
هنا أتوقف وللحديث بقية بنفوسكم