إن الظلام الذي يجلوك يا قمر له صباح متى تدركه أخفاكا
منذ القديم والنقاد يفكون العمل الأدبي إلى عنصرين يسمونهما : المبنى والمعنى ، أو الشكل والمضمون ، وأراني هنا في إبداعات أديبتنا السامقة أسماء حرمة الله سأخرج عن حيز الشكل والمضمون لأغوص في حنايا حروفها ونفسها الشفافة ؛ لأخرج من الصورة القديمة للبلاغة التي تتبدى صورتها على أنها بحث يحترز به عن التعقيد المعنوي ، وعن الخطأ في تأدية المعنى ، إلى صورته الحديثة التي تتبدى في الدرس الذي يعلم الأحسن والأجمل من الكلام ، وفيه درس فني شقيق الموسيقا ، وصنو سائر أفراد الأسرة الفنية ، من سمعية وبصرية ، حتى تبدو أبهى قسمات؛ إذ هي تعبير عن الإحساس بالجمال ، تتصل من ذلك بأرقى وأنبل وأصفى ما تستطيعه الروح الإنسانية .
ومع أسماء حرمة الله نعيش الخيط الخفي الذي يربط الفن بعلم الجمال ، وأصول التفنن ، فتنتظم خلاصة المشاعر في الفن وأصوله ، ومكانه في المعرفة الإنسانية ، وصلته بما سواه من ألوان المعرفة كالفلسفة والعلم والجمال.
وقد صدق من قال : إن لكل شيء قيمتين : روحية ومادية . لكن في الحياة ما ليس إلا قيمة روحية ، ومن ذاك الأدب الراقي.
(إن ظلالا لنفس شاعرة تضرب بجذورها في أعماق نصوصها،فينبثق قلقُ طاغٍ يستولي على أحاسيسها،ويغدو النص حينها نوعاً من تغليب الداخل الحدسي على الخارج الملموس)،وبمعنى آخر فإن النص يغدو منفذاً تطل الأديبة من خلاله على النفس التي لا يستطيع محاكاتها أو مقاربتها بغير حساسية الأدب وملكاته، ففي نصها هطول دائما اقرأها وهي تناجي العمر قائلة:
يا عمـري
يلهـثُ صبري مُصابِـراً كيْ أبقـى حبيسـةَ حرفي . أبني بجوانحـه بيتـاً من صمْتٍ، أسافـرُ إلى أقصى غيمـةٍ صنعَـتْ منّي أشواقاً لا يتوقّفُ هطولُـها، وهي لا تعلـمُ أنّـها قدْ هطلَـتْ قبـلَ ذلكَ بعمْـرٍ لاينبضُ إلاَّ بـكَ وفيـكَ ولـكَ!
إنها تقترب من عمرها الذي تناجيه ، على أن هذا الاقتراب من معانقة الروح يصل بها أحياناً لملامسة الجو الصوفيّ الذي تتلبّس فيه كينونة الأشياء وتخرج من ألفتها ومن قالبها المعتاد، وبهذا تستطيع أديبتنا من خلالها تقديم حالة شعورية متكاملة بما يكتنفها من حشد لمفردات ترتبط بوشائج مميزة مع بعضها لتقديم الحالة المنشودة تقول في ( حنانيك):
هي رسالـةٌ أخرى كتبَهـا صوتُـكِ وهو يطرقُ مسامعَ قلبي كلّ حيـنٍ، كتبتْـها ارتعاشـةُ أنامل فقدَتْ هدْأَتَها بغيابِـكِ
!البيـتُ تتعاورُه عطورُكِ، بسماتُـكِ، ذكرياتٌ تستلقي في كل زاويةٍ مرةً، قبلَ أنْ تعودَ لقلبي الذي كتبَتْـه باسمكِ!
البيتُ .. تتعاورُهُ رياحُ الحنين وهي تجتثُّ هدوئي عن دابرِه، تحرمني إغفاءةَ دمعةٍ عشقَتْني مذْ غادرْتِ، إغفاءَةَ جفنٍ صارَ مزهريةً مُريحة لبوحِها. وكلّما ابتسمـتُ لأحرسَ بسمتَكِ التي ودّعتِني بها: أراكِ !! فتراني كلُّ الدموعِ المغتربة بمراياهَا!!
ولا أريد أن أخوض في غمار هذا النص المبدع الذي نتسلق على عرائشه السامقات في رحلة مدارجها الروح ، ومآلها الروح في رسالة هي الأسمى لأنها توجها إلى الأسمى في عالمها ، وهو المفقود الحاضر ، وأقصد بها الأم، والحديث عن الأم في أدب أسماء حرمة الله أثير أثير، لابد أن يفرد له دراسة خاصة به ، ويكفي أن أشير إلى أن عالمها المحيط بها يشاركها ذلك الارتقاء الروحي ، فيتعانق المحسوس بالمعنوي في صياغة الحرف .
أن تكون صديقا لأدب أسماء حرمة الله يعني أن تكون صديقا للمطر والعواصف في شتاء مهجور.
صديقا للبحر والزهر ، صديقا للرياح واليمام والجبال والوهاد وكل ما تقع عليه عين الكاميرا الداخلية لأسماء والخارجية على حد سواء:
أمي،
أعرف أنك هنا..على مقربة مني..لكني لا أعرف لماذا في كل زياراتك لي، تبوحين لي بالصمت وتمضين؟ تنبشين بعضي الراحل في متاهات الجنون، وتُقْبلين على مساءات الزيزفون التي جمعناها معا من حدائق وجنتيـك...
أمي،
لا هديل بعدك يشدني سوى بقايا الأرق...مازلتُ أتذكر حين كنتِ تغنين لي والنجوم بيننا تغرد كعادتها، والليل المكتمل قد وضع الكحل في عينيه ليبدو أجمل مما كان..مازلتُ أتذكر يوم عانقتني وابتسامتك تحطّ على قلبي كعصفور صغير لمّا يذقْ رحيق الورد بعد..ما زلتُ أتذكر يوم أهديتني قلبك لأضعه في قلبي الصغير جدا أخفيه عن جراح اليمام..مازلت أتذكرك قادمة كالمطر، وقصيدةُ الحب تشتعل في شمعتنا..ما تزال على مكتبي غارقة في صمتها...كل يوم تحدّق فيّ ..كل يوم تسألني عنك..أسألها عنك..والليل لماّ يذكرْ بعد آخر عودة له من الرّماد...مازلتُ أتذكر يوم ألقيتُ بصمتي بين ذراعيك وصرختُ ملء جرحي، كيف أغرقتِ خوفي ومحوتِ عني غبارَ الألــم..مازلتُ أذكرُ يوم فرحتِ بقطاف دراستي ووقفنا معا في محراب الشكر، نسقي قحط المكان بسجوم الحمــد والانكسار..لله..
مازلت أذكر يومها (...) ..يوم ألفَيْتُك صامتة على فراش الرحيل تعاتبينني على الرقاد بين أفنان الحزن..مازلتُ أذكر آخر نَفَسٍ اصّاعَدَ إلى النجمة الأولى..التي كانت تعشقك..مثلي.. وأقسمتِ حينها على العودة..إليّ.. كلما هجع الليل ورحل الصبح مُغَاضِبًا..
مازلتُ أذكر خوفك، كلما اقترب الليل مني..وتلكَ الشمعة الوردية التي كانت تتوهج كأمسنا الجميل..ما زلتُ أذكر أحلامك التي كانت تراقصني على أنغام قوس قزح..وأذكر فتاةً زهوتِ بها ..خبّأتها في جفنيك وغطّيتِها بالصدَفِ وبدعاء البحـر ورداء القلب..مازلتُ أذكر همسك صباح مساء..وأنت ترسمين بريشة الفجر لوحةً كتبتِ فيها كلّ قصائدك قبل الرحيـل....
وتبقى الطبيعة متحركة وساكنة في عمق نصوصها ، فنظرة واحدة إلى الجزء المقتطع من النص السابق نجده يحتشد بعناصر الطبيعة بعنصريها المتحرك والساكن: ( مساءات الزيزفون- حدائق وجنتيك- النجوم – الليل – رحيق الورد – الرماد – قحط المكان – أفنان الحزن – أمسنا الجميل – أنغام قوس قزح – غطيتها بالصدف – بدعاء البحر – صباح مساء – ريشة الفجر – الهديل ، تغرد – عصفور – اليمام ....)
وبهذا فإن أسماء مسكونة بالطبيعة بكل ما فيها من جمال ، وبكل ما فيها من عصف وسكون ...
أن تكون قارئا لأسماء ؛ يعني أن تكون تلميذا يافعا متيقظا ومشاكسا في مدرسة الخصوبة.
قارئا لأسطر الشمس الملتهبة في الصيف، وملامسا لحروف العبق في الفصول الأربعة.فهي تعزف على شفاه الشمس ، وتنفض عنها سحابة الألم، وتسكن جفون البحر، وتعلم عينيها مواويل الانسكاب، والرمل يطوق خصرها بالياسمين ، و تنتظر أن يهديها البحر قلادة خلاص تحفظ لها ما تبقى من كرامتها....
يا إلهي . كيف بمقدور أسماء أن تسكن دهشة نصوصها الحالمة ، وتصل إلى أماكن يقبع فيها سر يستحيل لأحد أن يتقنه سواها ...
فلهذه النصوص تقاليد خاصة وطقوس غريبة... لا يستطيع مثلي أن يغوص فيها؛ لأنني لا أتقن فنّ العوم،لأنها تحتاج إلى غوّاص بارع يمخر إلى العباب عله يأتي بحفنة رمل أو محارة.
وإخالها تأخذنا إلى محطات لم تطأها قدماها ، وتكتب عن مدن لم تكن فيها قط ، وهي المسافرة دائما.
تختصر المسافة بين الحياة بما فيها من ماديات مسرفة ، وبين الروح الحالمة المتألمة بمنظار كاتب.
من أراد أن يكون صديقا لحرف أسماء لابد له أن يحسن الارتقاء إلى عالمها ليرى قمرا تحت كل حجر وحمامة بيضاء على عتبة شرفتها ...يحاصره الكلام الذي لم تقله ، والذي تضعه في طيّ الكتمان ولا تحدث عنه أحدا ،تكتبه في عزلتها ، تؤطره في جغرافية النص سرا و سردا ، ليهيم غريبا في عالم آخر فوق أرض خيالية حيث هي وحدها البطلة الرئيسة الهاربة من حصار مدينة إلى أخرى .
للإحساس بأدبها لابد أن نصل إلى تخوم الروابط الخفية ،و التراكيب التي لا يشبهها بها أحد ، لنصنع لوحة للحلم وأخرى للوطن وأخرى للأم ، ذلك لأن كل مكان يملك حلمه الخاص الحميم الذي قدمته أسماء على طبق من جمال..
مع أسماء تغدو الكتابة فعل تستر وفعل انبعاث ، وفي نصوصها تتكرر مفردات (....الحزن....) عشرات المرات ، و لا يكاد يخلو نص من هذه المفردات.
أجلسُ كزنبقـةٍ تهاوتْ على كرسي خوفِـها، تضيءُ سهرَهـا المرتعشَ ببسمـةٍ اغرورقَـتْ بعينيْـكَ، وهي تضمّخهمـا بحبّ زلال، تنقشُ على صفحاتهما العذبـة اسْمِـي، تاريـخَ أشواقي ومسقِطَ رأسِها!
هاهـو قلبي يغسلُ وجهَـهُ بصوتكَ المتهدّجِ نقـاءً، بصوتكَ وهو ينهـرُ جراحي التي أبتِ الارتحـال.. لكنْ ! كيْفَ أكفكـفُ عنْ حرفي مِلْحـاً تعَتّـقَ على خدّيّـه؟ كيفَ أعيشُ طفولـةَ النجماتِ .. وقدْ لمحـتُ أغنيتَـكَ القريبـة تؤثّـتُ لحـناً بقلبـكَ، تصنع له أوتـارَ حلـمٍ، تهدهدُ رجـاءً وسِـعَ الدنيا وما فيهـا، وتصنعُ قاربـاً مِنْ أمـلٍ مكسورٍ، مجدافُـه ذكرياتٌ تساقطـتْ تتْـرَى؟؟؟ مازلـتُ أراهـا، تملأ دفتـرَ قلبِـكَ بعتْبٍ خائـف، وأنـا أستنِـدُ إلى ظلّـي ، تغتالنـي أنفاسُهَـا؟؟!
فنصوصها ذاكرة للحزن النبيل، وذاكرة لواقع يعكس ألوانه على مخيلتها، ولشظايا طالت نصوصها وتشظت معها جدران المدن المستباحة.
إنني وبعد قراءة متأنية لحزنها ألمح وراء الكلمات شخصية رهيفة تمزج بين الروائية والقاصة والشاعرة وصائدة اللحظات والخواطر الجميلة..فالبوح بهذا المعنى فن نبيل..زاخر باللحظات الموحية دون الوقوع في فخاخ السردية والمباشرة، ،كيف لا وهي تمتلك موهبة أدبية لا تجارى تمكّنها من العبور إلى نفس القارئ بسحر المفردات التي تتميز بموسيقاها،وبفضائها الحساس الذي يتجاوز القاموس الأحادي إلى فضاءات أكثر رحابة وسحراً..
نقرأ مثلاً في ": دخلتُ حجرةَ نومي، لاأدري لماذا خيّمَ الصمتُ على بوحِ أشيائـها؟ لماذا هطلتْ فجأةً كل الحكايا من لوحاتها المعلّقـة بالجدار؟؟ لماذا صمتت يمامتي البيضاءُ عنْ مداعبةِ أحلامنا وذكرياتنا، واعتزلتْ قصائدَنـا بالشرفـة؟؟ لماذا بدأَ تغريدٌ غريبُ اللحنِ، منكسِرُ الإيقاع؟؟ لماذا نعِسَتْ على مكتبي وردةُ البنفسـج وقَلَّدَتْـها زهرةُ الياسمين؟؟ لماذا صارتْ مزهريتي التي أهدتْها لي زوجةُ أخي، تهجرُ ألوانَ نيسـان؟؟ لماذا باتتْ تخاصمُ ما تقاطرَ عليها من ألوان الورود التعِبـة، زرافاتٍ ووُحدانا؟؟
جلستُ أحدّقُ طويلاً في لونٍ شاحبٍ حاصرَ أركانَ حجرتي، وخلفَ النافذة تتغزّلُ الأمطارُ بذكرياتٍ تساقطـتْ بِتساقـطِها، لم يوقِظني من صمتي المضرّجِ بحيرتي، وبألمٍ مُبهَمٍ لم أُلفِ له تفسيراً، إلاّ صوتُ والدي يطلبُ منّي الإسراع بارتداء ملابسي، كيْ لا نتأخر على زيارتنا، زيارةٍ ذاتِ نكهة خاصة هذا اليوم.
أما لغتها (فلغة تستفز المعاني ولا تطمح إلى مغامرات الألغاز ، وفي الوقت نفسه لا تقع في الاستسهال والكلام العادي، إنها لغة قادرة على تقديم فضاء أو حقل دلالي تتنفس فيه المعاني بشيء من سحر البيان الذي يضفي على الصور مسحة من روح الكاتب بحيث تدخل المشاهد والصور في مزيج ساحر مع الوجدان وتمتزج بنفثات الروح الإنسانية التي تطلق الأمكنة والمواقف من عقالها الرتيب الاعتيادي،وتخرجها في صور أكثر إشعاعاً،وأشد تأثيراً وخلباً لذائقة القارئ):
سألني والدي وقدْ زقزقتْ بقلبه حيرةٌ حرّى: "ما بكِ صامتة ابنتي؟؟"
نظرتُ إليه، أحاول أنْ أقنِعَ صوتي بالصُّلح، بأنْ يُنقِذَني من بئرِ الصمت الذي سُجِنتُ فيه..لكنّه أبى وكأنه يستلذُّ بتعذيبي.
ووصلنا بيتَها: قبرٌ مغطّىً بالصمت والبوح، بالمطر والشمس، بالورد وزقزقـةِ النبضات، وكان بجوارها رفقاء آخرون، زرعوا بقلوبِ أحبَّتِهمْ سنابلَ الشوق والألـم والأمـل باللقـاء أيضا.
جلستُ علـى أريكةِ الشوق، وبيدي باقـةٌ من الكلمات العطشى، وبمزهرية القلب زهورٌ تحاولُ النهوضَ مِنْ عطرِها. لاحتْ مني نظرةٌ إلى والدي، ألفيتُهُ واجماً، وبعينيْه لمعَتْ دمعةٌ مهترئة، وذكرى أقسمَتْ أنْ تحافظَ على غضارةِ شبابها، وأنْ تزهو كلما نظرتْ في مرآةِ الروح..أمّا أنا، فعدتُ إلى حديقةِ حنانها، أقطفُ منها نبضاً يعزفُ لها وحدها فقطْ، يعزفُ شوقاً بلْ أشواقاً، وعهداً أبيضَ كلآلئِ الطّلّ: "على العهدِ حبيبتي، على عهدِ حبِّكِ حتى اللقــاء.."
ومن الملاحظ أن كل مفردات اللغة وتراكيبها تجندها الكاتبة لخدمة الموضوع..موضوع البوح ونادراً ما تخرج المفردات ساهية عن خلق فضاء المعنى إلى شأن آخر،وهذا يعني أن الكاتبة تمسك بخيوط النص من أول حرف فيه إلى نقطة النهاية،دون أن تخرج اللغة إلى مهمات أخرى لا تزيد فنية النص شيئاً،ودون أن تستعرض مواهبها في الإطالة ،أو الاستعراض الكمي الفارغ لمفردات لغوية خارجة عن قياس الموضوع إلا في بعض نصوصها التي يستطيل بها النفس فتسبح في ملكوت الكلمة ، فتكرر مشاعرها في قوالب جديدة من الألفاظ.
ولأن الأسلوب في رأيي لا ينفصل عن التكوين الشخصي الداخلي للكاتب فنصوص أسماء تعد انعكاساً صادقاً لشخصيتها الشفافة البعيدة عن التكلف والصنعة، ومن هنا فإن الانعكاس الأهم يجيء على صعيدي اللغة والمواضيع،فمواضيع النصوص بعيدة عن التفلسف والتعقيد،وهي موضوعات بسيطة تتناولها الأديبة بكاميرا داخلية تلتقط أدق التفاصيل،وتضعها في سياقها المكمل للبناء الجمالي العام،واللغة من الجهة الثانية تساير الموضوع فلا تسرف في التقوقع والمعجمية، بل تنساب انسياباً كما لو أنها نفثة أو تنهيدة عميقة صادقة لا تبتغي شيئاً سوى كينونتها العفوية،تقول في : هاهي من جديد ملامحُكَ، تسترقُ النظر إليّ، وهي تستفزّ بكلّ برودٍ قطراتِ المطر النازفة على زجاج نافذتي، وكأنكما اشتركتما في زفِّ ألفِ شتاءٍِ إليّ، ودونَ أن أدري
!
ألنْ تهدأَ محاولاتُكَ الدائمة – يا شتـاء - لإبعادي عنّي ؟! ألنْ ترمّمَ ولو لمرةٍ واحدة مراياكَ المكسورة، بدلَ أنْ تستمرَّ في غرسِ شظاياها بضلوعنا، بحروفنا، وبرائحة المطر !؟ أراكَ مستلقياًً، كجمراتِ الدّمع على أهدابي وهي تنثر بعضي، وبعضي الآخرُ مازالَ محبوساً بين ضلوعك !
لِمَ ياشتاءُ ؟ ! لِم تستمرّ في التوغّل حتّى بينَ حرفي وشهيقه، وتصرّ رغمَ انفلاتي من ساعاتكَ الطويلة أنْ تحطّمَ ساعاتي، أن تُطفِئَ أنفاسَها، أنْ تمسخَها وحشةً ؟! وكلّما داويتُ معصمَ الأمنياتِ من بعض الجراح، تقفُ حائلاً بينه وبينَ الشفاء، بلْ وبكفّكَ القاسية تطرد الألوانَ عن ثغري وثغره، وتملأ مدفأةَ الذكريات بالبرد !
(إنها علاقة جدلية تؤسس للذاتي الخاص ، و للآني العام ،ولما هو كائن وسيكون . إنها اللحظة الفارقة التي تعتمد اللغة أداة يقظتها، وتعتمد التشكيل النفسي للذات وحالاتها لتحقق انزياحاً لتفرد الأنا وتحقق التجربة عن طريق الاتساق مع الآخر دون نفيه أو إزاحته، وبذا تتحقق الذاتية الخاصة للكون والإنسان وذلك في محاولة للقبض على لحظة التجربة الشعورية الفارقة وعندئذ يبرز السؤال : كيف تتحقق للحظة التجربة الخاصة تفردها بعيداً عن الأنساق المتساوقة بين الأنا والمتخيل والعالم ؟!
وكأنني بأسماء لا تكتفي بتأسيس علاقة بينها وبين العالم، أو المحيط أو الطبيعة .... بل تتجاوز ذلك إلى حد غير ملموس، لتقف في نقطة تضعها بين الواقع والمتخيل، وبين الرفض والبوح، وبين الحقيقة والحلم، تقول: لو تعلمُ أيّها الشتاء المُعذِّب لأحاسيسي، الناهبُ لعالمي، يا أكبرَ من هذا المدى وأطولَ من ساعاتِ الصبر ! لو تعلمُ إلى كمْ قطعةٍ توزّعني، وأنتَ تنسلّ خفيةً إلى عظمي لتسكنََه، إلى روحي مشتِّتاً بها الفصولَ والألوان والأزمنة، وأنتَ تندسّ بينَ أوراقي الحالمة وحبْري الغافي في حضن بسمة، لتقتلَ الحياةَ ! وما كفاكَ سلالُ البنفسج التي دُستَها، ولا القصائدُ التي أبكَيْتَها، ولا الزمن الجميل الذي خنقتَه بداخلي، ولمّا يزلْ بعدُ عصفوراً يفرحُ بأجنحته الحالمـة !
ياشتائي الغاضب .. لن أركـعَ لك !
(إنها تخاطب المتخيل لتحقيق معادلة العبور إلى المشتهى، ولكنها تحاول أن تعبر بالأنا المحملة بالقيم وبالهم الإنساني وبنكران الذات، فنراها تنشد الحقيقة، وترتضي بالبقية الباقية، إلا أنها تسلم حقيقتها العليا للزمن لتندمج فيه لتؤسس للأنا كينونة مثالية، وإن كانت متخلية، ومع ذلك تظل اللغة هي التي تقوم بفعل اليقظة للحظة الأدبية، ولولا اللغة وتكثيفها هنا لانطفأت اللحظة الأدبية ولتوارت خلف الأنا، دون عبور إلى المشتهى، أو الحقيقة العليا لديها.
ولو نظرنا لعناوين النصوص وبدون ترتيب: "مساءات الزيزفون- عزف على شفاه الشمس – هطول – شتاء – بدون عنوان – طقوس – حنانيك – قوافل الوجع – مذكرات روح – سأستظل بطوقك – مولد الشمس ..."
أقول : لو نظرنا إلى هذه العناوين منفصلة فإننا نراها تؤسس للأنا مساحة متأرجحة بين القهر والحزن، و بين الجراح والآلام، وكأنها بذلك تحيلنا من أول وهلة إلى ذات حزينة، مقهورة ولكنها غير مستسلمة تحاول أن تجابه الزمن دون أن تتماس معه، وتحاول أن تتخيل عالماً آخر، ولكن دون أن تند فع في الخيال، فكأنها تقف على عتبات أولى بين الحقيقة والخيال، وبين الحلم والواقع ، وتبقى اليمامة البيضاء رمزها الأثير ، بل والمعادل الموضوعي لأسماء الإنسانة؛ انظر إليها وهي ترسل إليها برسالة تقول فيها:
إليــكِ..يمامتي البيضـاء..
أكتب إليكِ، كما وعدتُكِ ..أكتب إليك وكل جراحي نائمة، ووردتَا البنفسج والجوري جالستان إلى جانبي، تبلغانكِ تحاياهما، وتعدّان لكِ، زجاجةَ عطرٍ من نوع خاص، ستصلكِ مع خيوط الفجـر الأولـى.
لاتقلقي، لقد أقفلتُ الباب كما طلبتِ مني، ورتّبتُ حجرتي، وأعدتُ الزهورَ إلى مزهريتها المكسورة على مكتبي، حتى قناديلُ البيتِ أطفأتُها إلاّ قنديلا أخرس، ظلّ يرقبني وأنا أوزّع تفاصيل أحلامي على كل نجمةٍ ساهرة، وأوزع معها أوجاع العالم أيضا..!!
أنفّذُ ما طلبتِ مني حرفيا.. فتحتُ خزانةَ ملابسي أيضا، وأخذتُ، كما أوصَيْتِني، المعطفَ الذي صنعَتْه لي أمي، لأنني أعرف أن الخريف سينتقم مني ومنكِ، وقدّمتُ لذكرياتي الراقدة كوبا آخر من الحليب الدافئ، كي لا تسمع بوَقْعِ أناملي على الورق، واليراعُ يحاصرُ خـوفَ الحروف المشتعلة فيه..
ماذا عليّ أن أفعل أيضا قبل أن أغادر إليكِ ؟ حسنا، جمعتُ أوراقي ودواتي، وخبّأتُ دفتر مذكراتي بأدراج القلب، وهاأنذي الآن مستعدة، للرحيل معكِ، قبل أن تحسدنا الشمسُ وتحبسنا هنا، بمنتصف الحزن..
إليــكِ..يمامتي البيضـاء..
أكتب إليكِ، كما وعدتُكِ ..أكتب إليك وكل جراحي نائمة، ووردتَا البنفسج والجوري جالستان إلى جانبي، تبلغانكِ تحاياهما، وتعدّان لكِ، زجاجةَ عطرٍ من نوع خاص، ستصلكِ مع خيوط الفجـر الأولـى.
لاتقلقي، لقد أقفلتُ الباب كما طلبتِ مني، ورتّبتُ حجرتي، وأعدتُ الزهورَ إلى مزهريتها المكسورة على مكتبي، حتى قناديلُ البيتِ أطفأتُها إلاّ قنديلا أخرس، ظلّ يرقبني وأنا أوزّع تفاصيل أحلامي على كل نجمةٍ ساهرة، وأوزع معها أوجاع العالم أيضا..!!
أنفّذُ ما طلبتِ مني حرفيا.. فتحتُ خزانةَ ملابسي أيضا، وأخذتُ، كما أوصَيْتِني، المعطفَ الذي صنعَتْه لي أمي، لأنني أعرف أن الخريف سينتقم مني ومنكِ، وقدّمتُ لذكرياتي الراقدة كوبا آخر من الحليب الدافئ، كي لا تسمع بوَقْعِ أناملي على الورق، واليراعُ يحاصرُ خـوفَ الحروف المشتعلة فيه..
ماذا عليّ أن أفعل أيضا قبل أن أغادر إليكِ ؟ حسنا، جمعتُ أوراقي ودواتي، وخبّأتُ دفتر مذكراتي بأدراج القلب، وهأنذي الآن مستعدة، للرحيل معكِ، قبل أن تحسدنا الشمسُ وتحبسنا هنا، بمنتصف الحزن..
إننا نقف أمام علاقة بين الأنا الحقيقية، و الأنا المتخيلة في صورة اليمامة، وهذه الأنساق الجدلية التي أمامنا تحيلنا إلى اللحظة الشعورية ومقارباتها (أكتب إليكِ، كما وعدتُكِ ..أكتب إليك وكل جراحي نائمة / ماذا عليّ أن أفعل أيضا قبل أن أغادر إليكِ / جمعتُ أوراقي ودواتي، وخبّأتُ دفتر مذكراتي بأدراج القلب، وهأنذي الآن مستعدة، للرحيل معكِ، قبل أن تحسدنا الشمسُ وتحبسنا هنا، بمنتصف الحزن..
وكأنها تؤسس لعلاقة مع العالم ، بل لا تكتفي بتأسيس هذه العلاقة الجدلية إذ تسأل هنا سؤال من لا ينتظر الإجابة , ولكنه سؤال من يؤطر للوجع مساحة تتماس مع الأنا الحزينة لديها ، لذا كانت تسأل وهى تحترق ، وكأنها تتماس مع الحزن ثم تنشطر عنه في حالة من الانزياح والوحدة فتتكور على معادلها الموضوعي( اليمامة) ولكن لماذا ؟ ربما لترسم ذاتاً ثالثة لوجه نوراني تشكله بأوجاعها التي انسحبت عنها في حالة الانزياح الأولى ، لتخاف منها في الحالة الثانية ، ثم لا تكتفي بذلك ، بل تفتح مساحة للأوجاع مع العالم .
فأي جمال هذا الذي تصنعه اللغة ؟ وأي مساحة رحبة أشبه بهذه المساحة التي معينها اللغة الشاعرة ومدادها الوجع وأفعال الذات، وهي تنصهر في المتخيل لتؤسس للحظة التجربة يقظة وديمومة عبر الأفعال الأدبية في النص .
إن أديبتنا هنا تؤسس لنمط جديد في الكتابة، حيث لا تنصهر الأنا مع المتخيل، بل تحافظ على خصوصيتها، وتتفاعل مع الواقع والعالم وتدخل معهما في صراع تنتصر فيه الأنا في الغالب عبر سرد متواتر تارة ، ومتأرجح تارة أخرى ، حيث تكون اللغة في أضعف حالاتها متألقة لتجسد العلاقات الخفية بالأفعال وبالتنامي ، و لتؤسس صورة تعادلية وتقابلية ، أو تضادية بين الأنا والأنا المتخيلة، أو الأنا الأخرى ، وأحسب أن " أديبتنا"هنا تعتمد منهجاً وأسلوباً جديدين ومغايرين في الكتابة، وفي الفعل الكتابي وهذا المنهج يجعلها فارقة عن كاتبات جيلها بصفة خاصة .
وفي تجسيدها للأنا السامقة نراها من أبرع من عرفنا في مجال الوصف ،فأي جمال للوصف نراه في نصوصها، وهي تنتقل ببراعة من وصفها للأنا إلى وصف لذوات الأنا ثم تنسحب منها إلى ذوات أخرى تصفها، ثم تعود إلى الأنا من جديد بهدوء، وبتراتب دون تشويش على الذهنية القارئة ،وأحسب أن هذه الانتقالات تشكل أسلوباً تنفرد به أسماء، وفي نصها:
هاقدْ بدّدَ الشوقُ مدّخراتِ القلب كلّها، بعدَ أن كنتُ أجمعهـا على مهلٍ مِن حدائق عينيْــه، فأصنعُ منها عِقداً، أحمرَ كأحلامي المؤجّلـة، أبيضَ كقلبِ حبيبي، ورديّاً كرحيق الأمنيات، لازوردياً كقسماتِ البحر، وهي ترتّبُ أماكنَهـا، أخضرَ كصباحاتٍ ماتزالُ ترمقني بشزرِ، مصبوغة بألوان قوس قزح، وهي تحتفلُ بقلبٍ يعودُ للأنقاض !
ياحروفي المتعَبـة ! لِمَ تصرّين على اعتزالـكِ مدادي ؟ لِمَ تقفينَ كلّ صبـاحٍ، منزويـةً، ترسمينَ على خاصرة الريح لوحاتِ النزف ؟؟
لِمَ تُقفلينَ عليّ موانئَ الكتابـة، وتتركينَ روحي المضرّجةَ بالبوح، ملقاةً على عتباتِ الصمت، تبعثرُها الريح، فتوزّعها على كلّ أوطان الجوى ؟؟
لِمَ تعتكفينَ بأقصـى غيـاب، كياسمينـةٍ غابَ عنها عطرُها ؟؟! لِمَ تُقسميـنَ على الفتكِ بالأفياءِ والألوان والأحلام ؟؟ دعيها تتنفّسكِ ! ... أمْ أنكِ مثلي ! غابَ عنكِ العبَــقُ، فغابَ الصحوُ والمطــر ؟؟؟
وهنا نراها متوجعة في غياب الحبيب وبعده ، وكان عليها أن تصبح متوجعة من نار الحزن على المفقود إلا أنها تعتمد المآل ( الحروف والكتابة )، ثم يجئ الانزياح ( غياب العبق والصحو والمطر ) لتؤسس للحزن مرجعية ، وكان يمكن للنص أن يكتمل وتؤسس نهايتها ( بحيرة حرف ) إلا أنها لم تفعل ذلك بل نراها تلجأ إلى السؤال المفتوح ؛لتعود إلى الذات المنطفئة لتصنع لها حياة ، فنراها تكمل النص الدائرة لنعود من جديد إلى قراءته بعد أن صادفتنا الأسئلة الحائرة التي تحمل إجاباتها.
أن معاجم نصوصها تطفح " بالذاتية والوجدانية الحزينة ناهيك عن حقول دلالية لا تخرج عن سياقا المعاناة والاغتراب الذاتي في المكان والزمان".
إن أسماء حرمة الله في أدبها تغزل من حرير الروح رحيق المفردات ، وهى بذلك تؤطر لها مكاناً فارقاً على مشجب نصوصها ، لتصبح في مقدمة أدباء الرومانسية
ويبقى أن أقول في نهاية موضوعي أنني أفدت من ملحوظات الأحبة الأدباء والنقد في فرع الكويت بعد أن قرأت هذه القراءة المتواضعة أمامهم ، وتبقى قراءة متذوق لا تمس النقد إلا برؤوس أصابع التذوق .
من أوراق فرع الكويت في اللقاء المخصص لقراءة نصوص الأديبة المبدعة أسماء حرمة الله