هل يحمل الشعر رسالة؟..
سؤال غريب بحدّ ذاته، وأغرب منه أن يستثير –رغم خواء مضمونه- غبار معارك ساخنة من جدال مستفيض، ما بين معارض ومؤيّد، ومتّهم ومدافع، ومجرّح ومنافح. أليس الأجدى من ذلك أن نتساءل: هل يمكن للشعر ألاّ يحمل رسالة وهدفا، وأن يكون دون دافع وغرض؟..
لكلّ ضرب من ضروب الكلام مقصد إلا إذا كان كومة ألفاظ، وهراء لا طائل تحته، إنّما قد يسمو المقصد أو يهبط، ويستقيم أو ينحرف، ويحسن أو يسوء، وقد يجتمع جمال العبارة وسموّ الغاية أو يفترقان، ولكن لا سبيل إلى الاستغناء عن غاية من الغايات، كي يكون للفظة قيمة، فتدخل بها في باب من أبواب تصنيف الكلام.
هيهات نجد شعرا له مبنى دون معنى، ولفظ ووزن دون مضمون.. أفلا نجد كيف نصنّف تلقائيّا ما نسمع ونقرأ من قصيد، أو ما يقال لنا إنّه قصيد، فما يرقى بنظمه بلاغة وإبداعا وتصويرا، وينحرف قائلُه بمقصده، يدفعنا دفعا إلى القول: شعر جميل وغرض قبيح، وما يغلب ضعفُ مبناه على حسنِ معناه، يجعلنا ننصرف عنه مردّدين إنّه شعرٌ ركيك وإن كان الغرض محمودا، ولا يكاد يجد القبولَ عبر مرّ الأزمان وتباين الأذواق إلاّ ما يجمع رقيّ الفكرة ورونق الصورة.
أليس الالتزام بالانفلات التزاما؟..
ليس بين الصدق والكذب إلا الصمت، ولا حياد بين الحقّ والباطل سوى حياد الصامتين، أمّا من يتكلّم نثرا أو شعرا، فلا بدّ أن يضع نفسه في إحدى الجبهتين مع أحد الفريقين، أو يكون وسيطا بينهما، ولكن منذا يستطيع القول جادّا إنّه يتكلّم ولا يقول شيئا!.
قد كان من أغراض الشعراء المديح والهجاء، والغزل والرثاء، والأطلال والقتال، وكان منها طلب الشهرة أو المال، والتعبير عن الذات أو التعصّب لقبيلة، ولم يُعرف عن شاعر حفظت الأيّام اسمَه أنّه كان يخوض بحور الشعر دون غرض من الأغراض المُرْضِية أو المُنْكَرة، ولم يكن ذاك لأنّ العرب امتطوا جناح الشعر ببلاغتهم الفطرية، إنّما لأنّ الفطرة البشرية تقتضي أن يكون التعبير وسيلة لغاية، فتستهجن زعم من يزعم أنّ الشعر فنّ والفنُّ –حسب ذلك الزعم- لا يحتاج إلى غاية ليكون فنّا، وإن زيّنه لفظ الحداثة، ناهيك عمّن يستغني عن المبنى لا المعنى فقط!..
ولْنمعنِ النظر في مطلب مَن يروّجُ لِشعرٍ دون التزام، وسنجد أنّ المطلوب على التحديد هو عدم الالتزام بغرض سامٍٍ رفيع، من قبيل الدعوة إلى قيم الخير وفضائل الأخلاق؟..
دعوة الشعر غير الملتزم مجرّد شعار أو عنوان، بات مضمونها في غالب الأحوال "الالتزام" بالحرب على القيم والأخلاق، ونبذ الأهداف الحميدة والغايات الجليلة، والترويج للعشوائية والانحلال وأهداف صغيرة أغلبها خبيث وغايات محدودة كثير منها وضيع، ولذا تحوّلت جولات الجدال حول الالتزام في الشعر أو عدم الالتزام إلى جولات التزام بالخير أو التزام بالشر، والفضيلة أو الرذيلة، والاستقامة أو الانحراف، والرقيّ أو التخلّف، وما صحّ ادّعاء من يدّعي إنّه طرف "غير ملتزم"، معلّق هكذا بين هذا وذاك.
أليس التعبير عن الشعور موقفا؟..
قد يزعم من يزعم أنّ شعر "الوصف" من الشعر غير الملتزم بغرض، وكأنّ استثارة نشوة الشعور بالمتعة عند التأمّل في لوحة جميلة نابضة بالحياة ليست غرضا، أو أنّ مبدعَ لوحةٍ فنيّة، صورةً أو قصيدا، لا يريد أن يطلق من خلالها لمساتِ جمال تضيء إحساسا محمودا، أو لَسعات "جمال" تلهب غريزة مذمومة. ولولا ذلك، علام نرصد على الدوام أنّ سائر دعوات عدم الالتزام في الشعر تستهدف تغييبَ استثارة الإحساس المحمود ولا تطالب بتغييب استثارة الغرائز، ولو من قبيل تغطية عورة تلك الدعوات، ومحاولة الإيهام بأنّها مجرّدة فعلا عن الغرض والغاية!
قد لا يعدو تدفّق الكلمات والصور من الوجدان إلى الأوراق أن يكون وصفا لحالة شعورية، تنطق بفرحة غامرة أو تشكو من جراح غائرة، فتتحوّل على أمواج التفعيلات إلى ألحان تمسّ بصدقها شغاف الصدور، فتتجاوب مع الأفراح والأتراح، وتتلاقى القلوب مع القلوب، فإذا بقصيدة شعرية من قبيل "لمثل هذا يذوب القلب من كمد"، تنطلق من أعماق تاريخ الأندلس إلى واقع مأساوي نعايشه، فتتردّد على الشفاه، وتتدفّق مع الدموع.. وقد تتلاقى بتأثيرها القلوب مع القلوب، والعزائم مع العزائم، فتصنع في هذه الأيّام ما شكت من افتقادِه أجيالٌ رحلت كانت تعايش حكم الطوائف، كمثل ما يشكو جيلنا الحاضر من أوضاع مشابهة.
وقد لا يزيد شاعر عن الشكوى بقيثارته من ظلم وقع به، أو حبّ صادق حُرم منه، أو حزن على فقيد عزيز، فتتحوّل نفثاته من تنهيدات "شخصية" إلى مدرسة تربّي على رفض الظلم، ونشر العفاف، ومواساة المحزونين، فيساهم الشعر في تكوين مجتمع يبرأ من أسقامه، ويكسر أغلاله، وتتعزّز وشائج أهله، في ظل حياة كريمة سويّة سعيدة.