شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
إن فلسفته كانت مونولوجا داخليا متوترا، وكان يريدها "أن تكون تعبيرا عن وجوده الخاص الذي هو نسيج من المتناقضات، وان يستخرج من اعماقه ما يشعر به من ألم وعذاب ومعاناة ليكون نظرية عن الانسان بصفة عامة، فما يعانيه من قلق ويأس وشعور بالخطيئة ومرض نفسي... الخ ليس حالة خاصة به وحده، لكنها تمثل عوامل تتألف منها الذات البشرية "* لقد كان كيركغارد يعتبر مؤسسا حقيقيا لفلسفة الذات باعتبارها مركز الوجود، انه الاب الروحي للفلسفة الوجودية المؤمنة في القرن التاسع عشر، وهو بهذا فتح المجال امام المفاهيم الوجودية في القرن العشرين.
لقد اقلق كيركغارد معاصريه ومازال يقلقنا حتى الآن لانه عالج مقولات فلسفية وجودية تخص جوهر وجود الانسان وذلك من خلال علاقتها بحياة الفرد واختياراته الواعية والتي مازالت تمتلك حيويتها.
ولا يمكن فهم فلسفة كيركغارد إلا بوضعها ضمن مفاهيم عصرها بسبب التغيرات التي طرأت على الكثير من مجالات الفلسفة وموضوعاتها في الوقت الحاضر، حيث يفصلنا عنه اكثر من قرن ونصف القرن.
إن سورن كيركغارد عاش حياة معلقة على وتر فوق هاوية الوجود الهامشي، وقد كان يعي العمق السحيق لهذه الهاوية، لذلك فقد كانت مهمته تكثيف شعور الانسان من خلال القلق والرعب تحذيرا من السقوط في الهاوية. وبما أنه حاول دائما العمل على تحويل الفكر الى ممارسة عملية مرتبطة بالحياة فان معاركه الفكرية كانت دليلا على امتزاج الفكر بالحياة، سواء كانت هذه الصراعات في المجالين الفكري او الديني وخاصة معاركه مع الكنيسة الرسمية آنذاك، بحيث منحت الفكر العملي امتياز التفرد في الحياة والابتعاد عن الفكر الغيبي. لذلك فان الكنيسة شنت هجومها العنيف ضد افكاره اللاهوتية المصيرية الصائبة ولم يكن لديها سلاح فعال سوى محاولة غير مجدية في تحويل افكاره الى ثرثرة في الشارع الغوغائي.
إن معاركه كانت متمركزة حول الذات البشرية من خلال ايمانها وعلاقتها المطلقة بالله المطلق بدون اي وسيط آخر كالكنيسة او الرهبان الذين كان يعتبرهم موظفين لدى الدولة. لكن الكثير من رجال اللاهوت والكنيسة درسوا فلسفة كيركغارد بروح غير متحيزة بعد ذلك، فاكتشفوا اهمية فلسفته وامكانية عقله الفلسفي التركيبي والتحليلي، وذلك فقط عندما انتشرت فلسفته خارج وطنه "الدانمارك. وهذا قدر المفكر المتفرد الذي يرى المستقبل بشكل واع ".
إن الفلسفة الوجودية تعرضت للكثير من المغالطات والادراكات الهامشية لذلك تحتم الضرورة على دراستها بشكل اكاديمي ونقد واع. وقد قام بهذه المهمة الدكتور عبدالرحمن بدوي. اما الدكتور امام عبدالفتاح امام فقد درس فلسفة كيركغارد بكتابين مهمين (1) حيث حلل في كتابه الاول فلسفة كيركغارد باعتبارها فلسفة للذات البشرية المتفردة من خلال مناقشته للكثير من الفلاسفة والباحثين اضافة الى تحليل الملامح الشخصية للفيلسوف الدانماركي باعتباره "ذاك الفرد" والعوامل المؤثرة في بناء شخصيته. وقد اسهب الدكتور امام في دراسة حياة كيركغارد بشكل كبير، ويعتبر هذا مدخلا مهما للوصول الى العوامل الاساسية في تكوين عقله الفلسفي، والمتناقضات التي عاشها في حياته الخاصة. وقد استعرض أيضا قضية اساسية هي المعارك الفكرية التي خاضها الفيلسوف وخاصة معركته الشهيرة مع صحيفة "القرصان" وصراعه مع الكنيسة الرسمية التي اتهمها بالتزوير والتزييف لمهمتها الدينية، حيث اخذت على عاتقها آنذاك مهمة مشابهة لمهمة ارسال الناس الى الجنة مقابل خمسة دولارات كما يسخر كيركغارد ذاته من وظيفة الكنيسة الدينية.
أما الكتاب الثاني والذي نحن بصدد قراءته تفصيليا فان د. إمام استعرض فيه بشكل دقيق مكونات فلسفة كيركغارد وتأثرها بالفكر الهيجلي في بداية حياته ثم اعتماد مبدأ الشك والرفض لكل فلسفة أخرى (ما عدا التهكم السقراطي) من اجل تكوين فلسفته الوجودية المتفردة، التي يحاول من خلالها طرح منهج او فكر فلسفي يناقش فيه امكانية خلاص الانسان، حيث اعتبر نفسه كالشوكة التي تغزنا وترعبنا دائما (لان الفلاسفة عندما يأتون، يرعبون الناس، لكنهم يطهرون الجو).
إن حديثنا سيتمركز على الخلل الذي يصيب الذات والذي يشكل شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد، وذلك من خلال كتاب الدكتور امام عبدالفتاح امام الاكثر اهمية - كيركجور -رائد الوجودية - فلسفته - الجزء الثاني.
إن فلسفة سورين كيركغارد تحدثنا عن الفرد كمركز للوجود وكمنهج حياة الذات باتجاهها نحو المطلق، نحو الله، ولا يتم هذا الا عندما يمتلك الفرد "الوعي الذاتي"، وهذا يعني امتلاك الوجود الذاتي، لان الوجود هو الوعي والاختيار الحر.
بدون هذا فان الذات البشرية ستعيش في حالة من الاضطراب وعدم التوازن، وتصاب بامراض روحية مختلفة.
ان تشخيص امراض الذات اي الشيزوفرينيا الروحية يفترض وعي الانسان بذاته اولا. بدون هذا الوعي فان الذات ستعيش بشكل هامشي ولا معقول وعبثي في الوجود، وحتى تكون لحياة الذات معنى، لابد ان تواجه مشكلاتها - امراضها - بكل قلق وتوتر وجدية.
فمهمة الفلسفة الوجودية هي التأكيد على ان الانسان لا يولد انسانا وانما يصير كذلك من خلال وعيه، وتحقيق مشروعه الحياتي، بمعنى ان يكون انسانا، اي ان يكون ذاته من جديد. وقد يفشل في تحقيق هذه الذات - هذا المشروع. لقد اخذ كيركغارد على عاتقه مهمة تعقيد مشكلات وظاهرات الوجود امام الانسان، وهو على حق، لان تعقيد المشكلة فلسفيا يعني وضعها امام المجهر لرصدها ومن ثم حلها، لكن التعقيد متأت نتيجة لتعقيد الحياة ذاتها.
من هنا تأتي أهمية دراسة فلسفة كيركغارد باعتبارها فلسفة مهمتها إعادة وعي الذات بنفسها من جديد. لانه من السهولة ان يفقد الانسان ذاته، فهذا لا يثير ضجة كبيرة (كما هي الحال عندما يفقد الانسان ساقه او ثروته او زوجته) لكن من الصعوبة ان يقوم الانسان باسترداد ذاته من قلب المسببات التي تحاول تهميش حياة الفرد، بمعنى ان يختار الانسان ان يكون انسانا من جديد. وهذا يتطلب وعيا وجهدا كبيرين، لأن الذات الواعية هي الذات التي تقوم بنضال شاق لمعرفة نفسها، بعكس الذات غير الواعية، فانها تبذل جهدا متعمدا لنسيان نفسها وسط ضجيج العالم. ان هذا الوعي يعني النظر من خلال الذات الى العالم.. الى الخارج.
لذلك فان كيركغارد عدل من مبدأ سقراط الشهير (أيها الانسان اعرف نفسك) الى (ايها الانسان اختر ذاتك) وهذا يعني ان اختار ذاتي بوعي وهي في شرعيتها الازلية من اجل ان تصل الى خلاصها وسعادتها الابدية عند اعتمادها الكلي على المطلق. وهذا هو الاختيار الايجابي في حياة الذات.
لقد بذل كيركغارد جهدا شاقا في دراسة العوامل الانطلوجية (3) التي تكون الذات البشرية، حتى يتوصل الى الاجابة على السؤال الذي طرحه على نفسه وهو: كيف يمكن للانسان ان يكون انسانا؟ اي كيف يمكن للانسان ان يختار ذاته ؟
وبكل وضوح يجيب، ان على الانسان ان يكون مؤمنا وان يعتمد اعتمادا كليا على الله، بهذا فقط تكون له القدرة على امتلاك ذاته واستردادها من جديد. لكن كيف تمتلك الذات وعيها؟ وهل لها القدرة على حرية الاختيار؟ ان هذا السؤال الذي يورده د. امام اعتمادا على كيركغارد يفترض الاشارة الى مراحل تطور الذات البشرية، حيث يؤكد بان هنالك ثلاث مراحل لتطور الذات الفردية في علاقتها بنفسها وبالعالم ويسميها كيركغارد (مراحل الوجود الثلاث الكبرى).
1- المرحلة الحسية الجمالية المباشرة - والحسية التأملية.
2- المرحلة الاخلاقية.
3- المرحلة الدينية.
ان كيركغارد يضعنا دائما امام خيار واحد، إما ان تختار ذاتك بوعي او ان تضيع. وهذا يعني عليك أن تختار بين ان تعيش في المرحلة الحسية الجمالية والتي يعتبرها مرحلة دنيا من الحياة ينغمس فيها الانسان بالحياة الحسية او ان يرتقي الى مرحلة أعلى هي المرحلة الاخلاقية، اي ان يلتزم فيها الانسان بالقانون الاخلاقي، او ان يعيش في المرحلة الدينية التي يصبح فيها الانسان واعيا في اختياراته، لانه يعي ذاته ويعرف خلاصه.
منقول \
فاضل سوداني (مسرحي واستاذ جامعي عراقي يقيم في الدانمارك)