|
سرادق الموت والتقتيل قد نصبـت |
عند المساجد , في الأحياء في المدن |
|
|
أولاً: إنني حاولت أن أحدد الموقع الإعرابي لكلمة "سرادق" فأنا وقعت في حيرة.. الكلمة لها استعمال عامي، واستعمال فصيح، وقد يعاتبني بعض من يقرأ هذه النظرة لي الآن، ولكن أنا من أهم مشجعي أن يكون كاتب القراءة قريبا من الشاعر، وأنا لمست كثيراً مما يدل على التأثير العميق في الشاعر من ناحية استخدام الكلمات والأساليب بروحها الشعبية فهو حين أطلب إليه أن يدعو لي يدعو لي بروح الدعوة من أعماق العامية السورية ودلائل أخرى، ولذا فأنا توقعت من ضمن احتمالات الكلمة هنا أن تكون تأثراً بالعامية السورية ، ولعل أحداً يقول ما الذي حدا بي إلى مثل ذلك الاحتمال، والإجابة بسيطة وهي إن قرأنا "سرادق" في موقع "مبتدأ" والفعل "نصبت" خبراً " عنها، فإن المعروف في الفصحى أنها مذكر، ولكن الفعل هنا مؤنث وهو المعروف في اللغة السورية أو ما عرفته من أحد أصدقائي السوريين أنهم يستخدمونها هكذا مؤنثة في الكثير من كلامهم..
هذا كان أحد الإيحاءات الغنية التي تحملها نفس الشاعر أو قدراتها واعية كانت أو غير واعية على الالتحام بالتراث وتلبسه لدرجة لا تمنح الشاعر فرصة إلى التفكير في التشكيل الفصيح بقدر يسمح بالانعتاق من سطوات التمازج العمري الذي يقضيه الإنسان في أحضان لغته العامية بما تحمله هذه اللغة من مواقف بالتأكيد هي تحمل المشاعر المختلفة الكثيرة والعميقة، ولعلنا نستنتج هنا ملمحاً من شخصية الشاعر العظيم هذا الذي لم يخط كلمته هنا ولكن رسمته الكلمة أو ارتسمت بما يمكنها من أعماقه البهية السخية الجميلة الرائعة، والملمح هو صدق الشعور وتعمق الإحساس بالموقف الحياتي الذي عاش به الشاعر في بيئته التي استخدم فيها الكلمة العامية / الكلمة بروحها وأسلوبها وحالتها الاجتماعية الشعبية.. فقد شكوت ذات مرة إلى أحد أساتذتي عبر الماسينجر من قصور ذاكرتي فقال لي: أنجع علاج للذاكرة هو صدق الإحساس والكلمة فإن الصدق يطبع في الذهن تفاصيل الموقف بما لا يدع للذاكرة مفراً من أن تتذكر الموقف كاملاً..
أما من إيحاءات الكلمة تراثياً في جلال الفصحى..
فما أسعفتني قراءتي القليلة إلا أن أصادف هذه الكلمة في بيتي شعر:
قال سلامة بن جندل يذكر قَتْلَ كِسْرى للنعمان:
هو المُدْخِل النُّعْمان بَيْتاً، سَماؤه
صُدورُ الفُيولِ، بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ
فبالتأكيد دلت الحروف التي نابت عن "سرادق " هنا –عن العظم والبهاء والامتداد الذي وصف بهم البيت..
وفي البيت الآخر:
قال رؤبة:
يا حَكَمُ بنَ المُنْذِر بن الجارودْ،
أنتَ الجوادُ ابنُ الجواد المحمودْ،
سُرادِقُ المَجْد عليك ممدودْ
وهنا كان من صفاته الامتداد
قال لبيد
يصف حُمُراً:
رَفَعْنَ سُرادِقاً في يوم رِيحٍ،
يُصَفِّقُ بَينَ مَيْلٍ واعْتِدال
وهنا أتى ذكر "السرادق" في موقف اضطراب الريح وقلقها، وهو هنا بمعنى الغبار الساطع
أما الأهم فهو إيحاءات الكلمة في المواقف القرآنية وهذه الإيحاءات أجلى في أحقية الكلمة بمعنى معين دون غيره..
" أحاطَ بهم سُرادِقُها" في صفة النار أعاذنا الله منها
وقال
بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وظِلٍّ مِنْ يَحْمومٍ؛ هو من سُرادِقِ أهل
النار
إن الكلمة هنا في هذا البيت جاءت غنية بدلالات شتى حاول الشاعر قاصداً أو مدفوعاً بما تحمله ذكرياته من مخزونات أن يشرحها لنا في القصيدة، فهي تحمل معنى العذاب والتوجع والاختناق الذي يكاد يقتل من يسجن في جو من الدخان والحريق، وأكثر من هذا ما حمله لنا بيت شعر لبيد من انتفاضة الغبار وما يوحي به من جو المطاردة أو الحرب ..
إن أرض العراق مليئة بكل هذا، بالغبار والدخان والعذاب والحريق والتوجع في السين بحركتها الصوت المصفرة كأنها أصوات الحديد الضارب (ولعل في هذا استلهام لأصوات السيوف، وما يوحي به عند هذا أيضاًم مما يجري في بعض الدول العربية المغلوبة على أمرها حيث لا يملك أهلها من العرب سلاحاً إلا ما تبقى من تراث الأجداد، وهو الآن لا يملك مما مضى إلا حركة السين في صفيرها الحاد الرفيع الذي لم يلحق بالصاد في سمعي أنا على الأقل وأنا أشاهد القصيدة تتحرك أمامي في مشاهد تصويرية كفلتها لي إيحاءات الكلمات ودلالاتها المتناثرة هنا وهناك تناثر القتلى في السرادق وعند التقاطع وما بالقرب منها) وفي تجمع وضخامة وكثافة الغبار والدخان والقتلى وعملية التقتيل ذاتها التي توفرها لنا حركة حرف "الراء" والتي سبقت أن تكلفت بإيجازها أصوات "الراء" في كلمة "مجزرة" من قبل..
وفي صوت القاف قلقلة الجو المثار في حضن السرادق، ولئن زعم قائل أن "سرادق" لم تكتسب معاني العذاب وغيره من ذاتها ولكن من سياقها ، وبالرغم من امتدادت المعاني التي نفثتها في آذان العقل هنا أصوات الحروف، فإن الشاعر كذلك لم يكتف بدلالات أصوات الكلمة في إبانة إيحاءاتها ، ولا اكتفى بموروثات الكلمة من النص القرآني وإنما أضافها إلى "الموت والتقتيل" بما في كلمة "الموت" من معنى النوم والسكون والبلى.. فإنه جمع في هذه الكلمة أجواء أعمق بكثير مما تحمله استخداماتنا لهذه الكلمة في حيواتنا ومواقفنا بل وأشعارنا التي لم نكتبها بموازين رجل كيمياء يستخدم الموازين الدقيقة في معامله.. ولذا أنا أشهد أن تحليلنا لكلمة سرادق من كل هذه الوجهات (ولا زال في تحليلها بقية) كان ملائما تماماً، وما هذا المشهد السينمائي المتحرك فهناك من نام أو أصابه الجنون مما يؤديه الاشتقاق "موتة" بضم الميم، وهناك من سكن لا تبين شاشة السينما هل مات أو نام أو خاف الحركة لأي سبب أو أو، ولكنه سكن ، وهناك من بَلِيَ وأكثر ما يأتي فاعلاً لهذا الفعل هو السفر والهم والتجارب إنها والله عبقرية لكلمة وعبقرية الحركة التي ترسمها آفاق الإحساس عبر الانتقاء الواضح والموزون في الكلمة إن هناك نيام والنوم قبض للروح ومنها ما يعود ومنها ما يبقى في قبضة الله، فما يسبب هذا النوم هنا، إننا في وقت الحزن ننيم الطفل الصغير وينام بعضنا من ثقل الموقف إذ يذهب قدرتنا على التحمل فهو أن يغمى علينا، ومن ينام قسمان: قسم يعود إلى الحياة، وآخر يبقى هناك في نومه إلى أن تقوم الساعة، وهناك ما تؤثره في بعضنا الحرب والمجازر وهو ما توحي به كلمة "مُوتة" من فقدان العقل في غمرة الجنون، وهناك السكون الذي يجمع مشاهد التعزية ولحظات التدبر والعجز و و و ، وهناك أخيراً البلى ذلك الذي يشمل بلاء الثوب، وكذلك بلاء الإنسان، وما إيحاءات البلى في ذهن التراث اللغوي على الأقل بالنسبة للإنسان: إنه بلى السفر، والتجربة والهم .. أو الهجرة والمطاردة واللجوء إلى البعيد، ومشاعر الحرب وتجربتها القاسية ، وما يتخفى أو نعلنه في نفوسنا من حزن..
ولعل أول ما يصادفك في كلمة "والتقتيل" حرف العطف.. وما أثقله باعتبار ما بعده إن كان ما قبله ثقيلا .. ما بعده "التقتيل"
- من الفعل "قتل" على وزن فعّل" وهو ثلاثي مزيد بحرف عبر التشديد.. وفيه إيحاء بشدة القتل والإمعان في تجربته سواء من قبل القاتل أو من قبل المقتول الذي لا تكون قتلته عادية ولكنها صعبة أشد الصعوبة أو من حيث عدد المقتولين..
- "تق"ـــ"تيـ"///"تَكْ"ــ"تِكْ"ــــ"تيـ"..
أتجد تشابها بين تيكما؟
بعد صلاة الفجر وأنا عائد من المسجد أعدت هذا البيت على لساني وتمعنت.. ووجدت هذه النغمة تفرض نفسها عليّ، ذكرتني بساعة الحائط في البيت، وصوت الساعة على حاسوبي، وحكت لي صوت النبض "دق القلب"، ووصوت المطرقة، وصوت الضرب لأسمع صداها فكأن الضرب إصدار الصوت صوتاً كاملاً والصدى رجوع الصوت بغير كمال.. وكذلك ضربة "تق",, فإن صداها يرجع بحرف التاء وحدها.. فهل أرادت عبقرية الفكرة الموزونة عند الشاعر أن تقول إن الضربة الأولى تكون شديد واضحة في الأذن "تق"، حتى أن الضربة الثانية لا يحتاج قاتلها أن يكملها ويكتفي منها بحرف "ت/التاء" فقط.. وما حرف المد هنا في تصوري إلا كالهوة السحيقة التي تنزلق فيها روح القتيل أو المنحدر الذي ينزف منصباً من خلاله دم المسفوك دمه في الـ"ـتقـ"ـ"ــتــ"..
وما أغرب اللام وقد تخيلتها بقمتها العالية إلا تحكي مدى ارتفاع نافورة الدم المسيل فوق لينزل في صحن اللام المقعر فيما بعد، ومع أني أرى صحن اللام هنا خالياً من الدم إلا أني أراه كأنه معادل كتابي أن ما يسيل من الدم مخفي عن الأعين، ويحدث أكثره في الظلام..
ولذا تبدو تقعيرة اللام هنا فارغة..
والفعل نصبت باعتبار "سرادق" مبتدأ أراد الشاعر الإخبار عنه، مستأنفاً جمله الاسمية المتتابعة، مستغلاً ما للجملة الاسمية من ثبات المعنى في النفس وتوقد آثاره في الذهن.. فالفعل هنا مبنيّ للمجهول.. فالسرادق –بالعامية- مؤنث عاد عليه الضمير الكامن في "نُصبت"..
وأحسب أن هذا -بالرغم من انسياقي وراء نظرتي في احتمال وجمال الروح الشعبية في الاستخدام- أحسن من أن أجعل "سرادق مفعولاً به للفعل نصبت "ويكون الفعل مبنيا للمعلوم وفاعله في البيت السالف على ما نحن في رحابه من "أطراف وبقايا" فكأن الأطراف –مجازاً نصبت هذا السرادق، ورأيي هذا لأنه لو كانت مفعولاً به والفاعل ما قلنا من "أطراف/ بقايا" لاضطررنا إلى التنازل الجبري عن كثير من معاني "السرادق/ الموت/ التقتيل) وما تؤلفه لنا من حركة سينمائية رهيبة ولقطات متسارعة شديدة الوضوح وقادرة على الحكي المرئي المسموع...
ولأني أطلت في هذا البيت فأكتفي بالتلميح إلى جمال دقيق أثبتته ظرفية الفاء في "في" بتكرارها مرتين..
أما الألفاظ والمعاني فللوهلة الأولى اعتقدت أن بعضها يغني عن بعض، ولكني اكتشفت خطل اعتقادي.. ويكون هذا ببعض التدقيق..