طبق من الحكمة لسيدة القلوب - الطبق الأول
"إن قلوبكم تعرف في السكينة أسرار الأيام و الليالي. و لكن آذانكم تتشوق لسماع صوت هذه المعرفة الهابطة على قلوبكم.
غير أنكم تودون لو تعرفون بالألفاظ و العبارات ما تعلمونه بالأفكار و التأملات. و تتوقون إلى أن تلمسوا بأصابعكم جسد أحلامكم العلوي."
جبران خليل جبران
العقل الذي كرم الله سبحانه وتعالى به الإنسان وفضله به و بسببه على سائر الخلق. العقل, هذا القيمة الإنسانية الكبرى, هو النور الذي وضعه الله تعالى فينا, لنعرف و نتعرف على ذواتنا... و نعرف و نتعرف به على الآخرين, وبالتالي نصل إلى معرفة خالقنا. فلا شيء يصلنا بالله و يوصلنا له إلا نور العقل (التفكير), الذي هو القبس الإلهي فينا.
المنفعة من المعرفة مساوية تماما لمقدار مساهمة هذه المعرفة في إتخاذ القرار الصحيح , من خلال التفكير السليم وصولا للتصرف الصحيح, مع إعتبار سيَاق الأحداث ذات العلاقة.
المنفعة بالتعريف تشمل كل الآثار الإيجابية التي تلقي بظلالها على حياتنا, قراراتنا, تصرفاتنا و أقوالنا.
المعرفة لا تشمل فقط ما في بطون الكتب و زوايا العقول من معلومات, و لكنها تشمل كل ما يمكن أن نستخدمه لإثبات أو نفي صحة الأحداث و القرارات التي تأخذ من حياتنا مسرحا لها... دون إغفال أهمية و دور الإحساس الصادق في توصَلنا و تواصلنا مع المعرفة.. و لا بد لهذه المعرفة أن تكون حقيقية ليعتمد عليهاو يعتد بها.
القرار لا بد و أن يرتكز على تفكير سليم ليكون صحيحا. فالقرار الصحيح – و كل التصرفات تبدأ بقرار– هو القرار الذي لن نندم على إتخاذه في لحظة ما في المستقبل القريب أو البعيد.
أما التفكير فلا بد أن يرتكز على معرفة حقيقية, مرورا بذكاء القلب العقل معا, وصولا للقرار الصحيح في سيَاق ما هو ذات علاقة... و بحدود المنطق ليكون تفكير سليم.
التفكير السليم... هو الحد الأدنى من التفكير الذي لا بد لنا جميعا أن نسعى للوصول له. فبه نرتقي بأنفسنا عن الترَهات, نبتعد بأنفسنا عن الإساءة و نبعد إساءتنا عن الآخرين, به تحى الروح و الجسد بتناغم, به يعيش الإنسان في وئام مع الآخرين, و به تسمو أرواحنا عاليا فنرى حقيقة ما يحيط بنا... من أفكار – و كل الأشياء تبدأ بفكرة – , و من أناس و مشاعر.
لا يمكن الوصول للحد الأدنى من التفكير السليم إلا بتوفير أدوات هي: الحس, المعرفة الحقيقية, و ذكاء العقل و القلب معا... أما الواقع فهو المسرح الذي نولد على ظهره و ندفن فيه.. فوجوده محتوم كما الوجود نفسه.
لا بد أن يكون التفكير كالهالة, يحيط بنا من كل الجهات و في كل الأوقات ليكون تفكيرا سليما, فهو ليس متركز في العقل أو في القلب فقط. و لا يجوز تجزئته, فلا يختص العقل بأمور الحياة العادية كالحسابات, و يختص القلب بأمور الحب و العشق. و إنما لا بد لهما من العمل معا و طوال الوقت, و إلا فلن يقوم كل منهما بعمله كما يجب, مما يضعف قدرتنا على الوصول لقرار صحيح...
معرفتنا تبقى عديمة القيمة حتى نستخدمها في إتخاذ قرار صحيح و ذات علاقة ضمن سيَاق الأحداث الموجود. و قيمة هذه المعرفة مرتبط بمدى صحة القرار الذي اتخذناه. و لنضمن المنفعة القصوى من معارفنا, فلا بد من إستخدامها لنصل لقرار أقرب ما يكون من الصحة, و بالتالي إلى تصرفات و أقوال أقرب ما تكون صحيحة, لأن القرار هو الأساس لكل التصرفات و الأقوال.
عناصر التفكير السليم هي: الحس, الواقع المحسوس أو ذات الأثر المحسوس, العقل, و المعرفة (السابقة).
أما المقصود بالحس فهو, الحواس الخمس: البصر, السمع, الذوق, الشم, و اللمس.
الواقع المحسوس هو كل ما يحدث حولنا و نحسه من خلال حواسنا (يؤثرماديا فينا سلبا أو إيجابا). و أحيانا لا يكون هذا الواقع محسوسا بحد ذاته, و لكنه يترك أثرا محسوس, و هكذا نعلم بوجوده. أما الافكار التي لا يقع عليها الحس ولا تستند الى واقع مادي محسوس مثل العدل والظلم والحق والخير والمحبة والبغض, فأن الانسان لديه احساس داخلي كما لديه إحساس خارجي: و هو ما جاء عن طريق الحواس الخمس، أما الاحساس الداخلي او ما أصطلح على تسميته بالشعور: فهو إنفعالنا الداخلي بنتائج هذه الأفكار سلبا أو إيجابا.
فنحن لا نحس احساس خارجيا بالخير مثلا ولكننا نحس به احساسا داخليا, أي نشعر به وننفعل بنتائجه سلبا أو ايجابا .
ليس المقصود بالعقل الدماغ فقط, و إنما الدماغ و القلب معا. فكلاهما له دوره الذي لا يستقيم التفكير الا به.
أما المعرفة.. فلا بد أن تكون موثوقة, ذات علاقة, و متواجدة بالوقت المناسب لتكون حقيقية... أي ذات نفع.
و عليه, فإن التفكير ما هو إلا عملية الربط التي تتم في عقولنا بين واقع نحسه أو نشعر به و معرفة سابقة ذات علاقة, نصل (نستنتج) على أثرها قرارا يكون أساسا متينا لتصرفتنا و أقوالنا.. و بالتالي لوجودنا في هذا العالم... و في حياة الآخرين.
إن الهدف من هذا البحث المضَني عن معرفة حقيقية, نُعمل فيها عقولنا و تفكيرنا لنربطها بواقع نتَلمس معالمه و آثاره, و نستشعر نتائجه, هو أن لا يأتي يوم أو لحظة في المستقبل القريب أو البعيد نندم فيه على قرار إتخذناه مهما صغر أو كبر, و ترتب عليه تصرف أو قول معين.
فلا يأتي يوما نقول فيه لأنفسنا.. لو أني لم أقل... لو أني قلت... لو أني ما فعلت... لو أني فعلت.
أحيانا يقودنا التفكير السليم إلى آلام كثيرة و دموع عزيزة... و ربما إلى فقد حبيب, و لكنه دائما يجعل منا كتَاب للأغاني... و ما يهم و من يهم هو من يكتب الأغاني و ليس من يغنيها. و دائما يجعلنا أقوياء أمام الحزن.. و أمام الحب. فحتى خسائرنا تكون كبيرة.. بحجم أحلامنا.
لم يكن و لن يكون القرار الصحيح خاليا من الألم أو الأحزان.. و لكنه سيبقى دائما الملجأ الأخير الذي نحتمي فيه من عثرات الأصدقاء... و حضور الذكريات.. سيظل دائما مكانا نعتق فيه أحزاننا.. و أحباءنا.
ربما خسرتك, لا أعرف... و لكنك ستظلين كما العقل, منارة تشرق حين تغيب كل الشموس... و شمس تطل حين يغيب القمر.
ما الذي يمنعنا من الوقوف قليلا للتفكير؟ أليس الأولى بنا أن نفكر قبل حتى أن نتنفس؟
ألا نملك عقولا؟ ألا يعاني معظمنا من تخمة من المعلومات؟ ما فائدة معارفنا؟
لماذا نعذب أنفسنا بالتعلم و نجهدها بالمعرفة؟ أليس أحرى بالكثيرين منا أن لا يتعلموا... أن لا يعرفوا؟
هل غابت حواسنا؟ أم تجمدت عقولنا و قلوبنا؟ ألا يوجد أمور تستدعي التفكير و التفكَر فيها؟ ألم نؤذي أنفسنا.. و الآخرين بحماقاتنا؟ ألم يحن الوقت لنؤذي الناس... بتفكيرنا؟ أم اننا نفضل الموت جهلا.. و العيش قهرا؟ ألا يوجد من يستحق منا العناء... و الوفاء؟ أم أن الجميع... ناموا.. ماتوا, و لم يتبقى إلا أجساد... تحارب أصنام؟
أرجوكم... فكروا...
أرجوكم... لا تقولوا أي شيء... لا تفعلوا أي شيء... فكروا أولا.
أرجوكم... دعوا عقولكم تتنفس... و قلوبكم تنبض.
أرجوكم... دعوا أرواحكم تحلق عاليا.. دعوا معارفكم تسمو بكم.
أتركو أنفسكم لتفكيركم... دعوه يُعمَل فيها... فرشاة ألوانه.
فكروا... ثم قرروا... ثم تكلموا أو إفعلوا... و لكن إن لم تفعلوا... فلا تفعلوا... شيئا.
فقط.. اصمتوا.. جمُدوا أطرافكم.. و ناموا.. أو موتوا.. و لكن, أليس الصمت قرار... و الموت قرار؟!
أما أنت آنستي... فكوني كما أنت.. و لكن...
و في الختام لا يمكنني إلا أن أقول...
"يا سيِّدتي:
لا تَضطربي مثلَ الطائرِ في زَمَن الأعيادْ.
لَن يتغَّرَ شيءٌ منّي.
لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريانْ.
لن يتوقف نَبضُ القلبِ عن الخفقانْ.
لن يتوقف حَجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ.
حين يكون الحبُ كبيراً ..
و المحبوبة قمراً..
لن يتحول هذا الحُبُّ
لحزمَة قَشٍّ تأكلها النيرانْ..."
نزار قباني
يتبع... الطبق القادم (الطبق الثاني)
أحمد صالح