طرق بالباب ينهمر ، أخشى ذاك الطرق وأرتعد ، أخبئ نفسي في نفسي ، أتوسل للفراغ الممتد من مكاني الى الباب أن يخفيني داخله ، أستمد القوة من جذور عائلتي التي تمتد إلى القرن الثالث الهجري، أبي الأول كان سيداً للقبيلة ، بينما كانت أمي الأولى جارية سوداء ، وأنا في هذا القرن ، قرن ما بعد الحداثة أحمل سوادها ، كما أحمل ذاك التاريخ الدموي فوق كتفي ، أرتعد الآن بسبب الطرق المنهمر ، يتوغل خوفي إلى الأعماق ، تقفز أمام عيني جثثا وحيات وعقارب ، ويتجسد الرعب كشيطان منتفخ الأعضاء يصرخ في قائلا : هل أنت خائف ؟ هل أنت فزع ؟ هل أصابك الهلع . وأجيب خشية أن يبطش بي ، أنا مصاب بالهزع ، ربما من ارتباكي ، أو كان مقصدي أن اجمع بين الفزع والهلع ، ربما .
يختلط صوت الطرق بأصوات كلاب تعوي ويمتزج ، كانوا ثلاثة أو أربعة ، ربما أكثر أو أقل ، لكني على يقين بأن جميعهم كانوا سودا ، لذلك تمنيت بعد النهشة الأولى أو قبلها، اختلط الأمر على ذاكرتي الآن، تمنيت لو قتل منهم كل بهيم أسود .
كما الأطفال حين يلعبون، اختبأت أسفل السرير ، والطرق يتواصل دون انقطاع ، قفز من صدري طفل صغير، شق ضلوعي ، وانطلق يهرول في أرجاء المنزل، لا يأبه بالصوت ، أجزم انه لا يسمعه ، فكل من يسمعه يأبه به طوعا أو كرها ، الطفل يشبهني تماما ، ينادي أمه ، تسرع لتحتضنه ، تقبله بين عينيه ، تحميه بين ضلوعها ، أمه تشبه أمي تماما ، هو يشبهني تماما ، أنا هو ،وهي هي ، هي أمي وأنا هو ، أقترب منها ، أحدق في عينيها الدافئتين طالبا الدفء ، أماه أنا ابنك ، اترك الطفل فأنا طفل كبير ، ورجل صغير ، أمي الطرق يزداد والخطر يلامسني ، الكلاب السود يا أمي لا ترحم ، أقترب أكثر، أمسك بذراع طفلها أحاول أن أنزعه لأحل محله ، تدافع عنه بشراسة ، تضرب صدري بقوة ، الطفل يضحك وكأنه انتصر ، ألح عليها أستجديها أستعطفها ، بقلب الأم الشفاف ، أو ربما شفقة على رجل بائس فزع يطلب النجدة ، تعترف ببنوتي ، يقفز الطفل إلى كينونتي ، يتأكد لأمي صدق كلامي ، أنا هو ، وهو أنا ، تحتويني تربت على ظهري ، أبك وأشعر لوهلة بالأمان ، أعود إلى نقطة البداية ، نقطة الميلاد ، أدعو الله أن يتوقف الزمن ، وكاد الزمن أن يستجيب؛ لولا أن عاجله أبي ، أبي الذي يشبه جدي شيخ القبيلة ، دخل شاهرا سيفه ، لا يتردد ، يضربني فيقسمني شطرين ، يجذر أمي مئة وسبعين قطعة ، خائنة تحتضن رجلاً غريباً ، يدخل فقط ليعيد للزمن حركته بعدما توقف ، ليتك انتظرت يا والدي أنا ابنك ، دم أمي الصافي يروي زهوراً حمراء قانية، وحقولاً خضراء ذات بهجة ، بينما نباح الكلاب السود يخترق الأوصال، ويشيب بقايا شعري الأسود، أنا القابع أسفل السرير أتمنى لو كنت نملة تختفي في ثقب الأرض ، لا يخيفها طرق الباب ، ولا يفزعها نباح الكلاب ، لكنني استدركت ربما كانت بصقه واحدة كفيلة بهلاكها .
الضابط الذي خلقت البومة على شاكلته، بعدما دك السرير فوق رأسي ، والكلاب تحاصرني صرخ قائلا : أو تختبئ مثل النساء يا ابن الجبانة .
أمي التي انشطرت وتجزأت إلى مئة وسبعين قطعة من أجلي جبانة ، أي جبن هذا يا أبله .
قبيل الطرق كنت أقرأ الجريدة ، أتنقل من حين لآخر بين قنوات التلفاز ، أبحث عن مجرى لنهر ، بعيدا عن مجاري الدماء المراقة ، قطتي تقفز فوق صدري تغرس أظافرها في قميصي، تداعبني ، لا تتركني أشرب السجارة وحدي، لابد أن يكون لها منها نصيب ، لكنها فجأة التفتت يمينا ويسارا، ثم قفزت مرتبكة تجاه الشباك ساكبة فنجان القهوة على الصورة ، صرخت فيها نونا نونا نونا _هذا هو اسم قطتي _ لكنها كانت قد ألقت بنفسها ، هل كانت تستشعر خطر الكلاب السود ، أم أنها مخلصة لدرجة لا تستطيع فيها أن تعيش بدوني ، بكيتها بكل ألوان البكاء ، وحزنت عليها بكل ألوان الحزن ، بكل قلوب الرحماء ، وضاعف حزني ضياع معالم الصورة ، على الشاطئ أقف على اليمين، وتقف بجانبي ابنة عمي علا بملابس البحر ، تلك التي صارت بعدها بأعوام زوجة لي ، أختي هدى تتوسط أبي وأمي وتشير بكفها الصغير آخر إشارة لبائع الأيس كريم، بينما ابتسامتها الملائكية تغمر وجهها .
نعدو بعد التقاط الصورة، نضرب أمواج البحر بأرجلنا وأيدينا ، فترد لنا الكرة كرتين والصفعة صفعتين ، جلسنا أنا وعلا ومحمد وياسر وآخرون ، حفرنا حفرة عميقة، غرسنا هدى فيها ، فقط رأسها يظهر ، ضحكنا وضحك الجميع إلا هي ، عشرات المرات غرسنا في تلك الحفر وأشباهها ، وضحكنا وما متنا ، لماذا ماتت هي ؟ لا أدري حقا لماذا ؟
فررت أنا وعلا خشية ماذا؟ لا ندري ، هل خشية بطش الأهل ؟ لا ندري ، كنا صغارا فهربنا ، لم نكن نعرف طعم الفزع ، طعم الخوف ، طعم الموت ، فتذوقنا تلك الطعوم ، بكينا طويلا ، واختبأنا من أنفسنا ، قالت والدموع تموج بعينيها : هل ماتت هدى .
أطل الليل بسواده واصطحبنا أحد المصطافين إلى المسجد، ونادى المؤذن وكرر النداء ، ولم تفلح أكياس الشبسي ولا العصائر أن تعيد إلينا ابتسامتنا ، كنا مضطربين نرتعش ، نحن من تسبب في موت هدى ، هدى أختي ، نحن لا نريد الذهاب ، لا نريد أن يتعرف علينا احد ، كم مرة تذكرنا ذاك الموقف أنا وعلا ونحن زوجين ، كم من مرة ارتعشت جلودنا ثم توحدنا ليحتمي كل منا بالآخر .
نعم حزنت على قطتي ، نعم استرجعت أحداث الصورة الأليمة ، نعم تذكرت ما مضى ، نعم فاضت عيناي بالدمع، حدث ذلك في دقائق معدودة قبيل الطرق .
وربما كان الطرق محض تخيلات ، وربما لم يكن هناك نهش ولا سواد ، هكذا اخبرني الضابط إذا سئلت أن أجيب : جئت هنا بمحض إرادتي ، أنا خائن وأقر بخيانتي ، وخائن لزوجتي إذا أردتم ، كما أنني عميل لخمسة آلاف دولة أو يزيد .
أخبرني الضابط أيضا : أن عوادم السيارات في مدينتنا دعم من قبل الحكومة، للحد من غلاء السجائر ، وان غلاء الخبز يعود إلى تآمر الكون علينا ، في الحقيقة لم يكن يخبرني بمفردي ، كان معنا جمع غفير ، كلهم قالوا آمين ، فقلت معهم آمين
لكني مازلت متحيرا هل نحن المغضوب عليهم أم الضالين .