الجنة المستباحة
قال لها منفعلا : انظري . ومد ذراعه بحركة عنيفة جفلت لها ، مشيرا بيده إلى الأضواء المتلألئة عن بعد ..ها هي على مرمى النظر !! نطق الكلمة الأخيرة بصوت مختنق بعبرة بذل جهدا كبيرا كي يبقيها حبيسة عينه .
لم تحاول النظر إليه لإحساسها بأنها لو فعلت لأجهش الرجل الكبير الصلب بالبكاء ، وهو مشهد ما كانت تحب رؤيته ، لأنه سيُبكيها .
اكتفت بالإشارة بيدها دون أن تلتفت إليه أن اهدأ ، ولا ضرورة للانفعال ..
كيف لا أنفعل؟ بل كيف لا أنفجر؟ قال الرجل بنبرات أخذت تحتد وتتصاعد ، حتى استرعت انتباه الآخرين ودهشتهم ، فنظرت باتجاهه لتلفت نظره إلى ما يجري ، فتفاجأ
بالتفاتتها ونظر باتجاه آخر، وأخذ يمسح حبات العرق التي كانت تتدحرج من قمة رأسه
الخالي من الشعر لتستقر فوق أنفه ومن ثم تتساقط هنا وهناك فوق الأرضية اليابسة ، مع حركة رأسه العصبية ،وما أن تصل إلى الأرض حتى تكبر وتتسع مشكّلة دائرة غامقة فوق الجفاف الباهت .
صمت ، لا يقطعه سوى الصوت الذي تحدثه أحجار الشطرنج على الرقعة المصدفة ،
التي قضى والدها سبع سنوات وهو ينتظر أحدهم ليبتاعها له من مسقط رأسه ، هناك حيث يبرع الحرفيون في صنعها ، وغيرها من القطع النفيسة التي يتسابق الزوار الأجانب لشرائها من تلك الأسواق الدافئة الخافتة الأضواء إلا ما تسمح بمروره الأسقف نصف الدائرية التي تمد ظلالها تحتضن المكان . تلك كانت إحدى المدن الدافئة كما كان
يحلو لوالدها أن يسميها ، وهذه من أقدمها . ها هي تدل عليها بعض الأضواء البعيدة المتلألئة. انتهت لحظات من سََفَر الروح التي عادت لمكمنها على جنح نسمة رطبة تصعد الجبل متثاقلة محملة بعبق الجنة الممتدة على طول الحد الفاصل بين الجفاف
والخصب . وتتسلل بحذر بين هبات الهواء اللافح المحمل بذرات الغبار التي كانت تلسع منها الوجه والمآقي منذ بدأت السيارة انحدارها من المدينة الأثرية الرابضة في أعلى الجبل ، تلك التي شهدت من علٍ أحداثا صنعت تاريخ يعرب في اليرموك وحطين
وعين جالوت .
استمر لسع الهواء حتى وصل الجميع إلى هذا المنزل الريفي الكبير ، بيت المزرعة ،
حيث كل وسائل التسلية والترفيه ، مجمدة ،تعلوها طبقة من غبار الانتظار ، وحيث المسبح الفاخر الذي ما يزال لون أرضيته الزرقاء يقول ، كان هنا ماء.
نظر الرجل إليها وقد فشل في ضبط دمعات طفت فوق حزن العينين ، وانهمرت مع حبات العرق .
- انظري .. وأشار للمنطقة المرتفعة خلفهما ، حيث كانوا جميعا قبل المجيء إلى هنا ،
منطقة جبلية جميلة ، وأثرية..
- لقد كانت هذه الجبال والسفوح مكسوة بالأشجار الحرجية ..
- وهذه المزارع في السهل كانت جنانا وارفة ، قبل أن ينال منها الجفاف .
لا ماء .
والماء هناك على مرمى النظر يجري ويسيل ، فتخضوضر الأرض ، نحس بشوق إليها ، فنمد أقدامنا .. ولا نطالها . أرضنا القريبة قرب الدمعة من العين ، والبسمة من الشفتين ، البعيدة بعد الحب عن الكره ، والحياة عن الموت .
حانت منه نظرة إلى الأرض ، فوجد بركة صغيرة وسط التراب قرب قدميها ، وتذكر أنه لم يسمع صوتها ، فرفع رأسه ونظر إلى وجهها .. كان محتقنا والدموع تنهمل بغزارة تروي جفاف المكان.
___________
حنان الأغا