المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لميس الامام
شجيرة ونهير
هل ستصمد هذه الصغيرة الغضة أمام تقلبات طقس جديد عليها؟
فمنذ أن أتى بها, آملا أن تترعرع هناك في المدينة الكبيرة الصاخبة , وهو يشعر بفرحة مشوبة بالقلق.
في أصيص فخم , تعب كثيرا حتى وجده , , وضع شجيرته الحبيبة وأحاط جذرها الناعم الزغب , بشيء من الطين والماء, وفي زاوية الشرفة المطلة على الميدان الكبير, تخير له أفضل مكان.
كم يعشق أريجها , ويحب لونها ,فهي فرع طيب ريان من شجرة وارفة هناك في البيت الكبير في جنوب الأرض, ترعرع فوق أغصانها, ورضع سكر ثمارها الطازجة.وكم لعب, وقرأ,وغفا, وعشق, تحت ظلالها الحنون .
********
كان لابد من خادمة تسهم في الجهد ’وتملأ عليها بعض الوقت. حين يتركها وحيدة ساعات
طوال منذ البكور وحتى الغروب , منشغلا عنها بعمله المضني.ليأتيها مساءً (وفي القلب عاصفة من حنين ,وفي اليد شيء من الخبز والورد والفاكهة .)*
****
دلف إلي الشرفة في لهفة يطمئن على شجيرته الغضة الأثيرة.لاحظ تدلي فرع من اللبلاب من أعلى , ربما من الشرفة العليا , وربما من مكان أخر بعيد.لكنه على وجه اليقين , لا يعلم من أين أتى.كان لونه الأخضر ويفاعة عوده عاملان أساسيان في جعله يتركه حيث امتد.لف ذراعيه حول شجيرته الغضة , تمتم بشيء غير مفهوم .ثم أفاض عليها الماء.
***
الخادمة .... تنبئ عن أنوثتها بلا حياء . وترى في ذلك أمرا بديهيا.يسترق بعض النظر إليها . (يا إلهي أو هو نظري الذي يسترقني.)
******
أزاح بيده وسادة صغيرة ,وضعت في المكان الخطأ فوق الأريكة الجديدة.
- صاح : من وضع هذه هنا هكذا ؟
- قطعت طبخها وهرولت إليه, بيدها شيء من الثمار وسكين وعلى جبينها الأسمر لؤلؤتان من عرق : أنا!!!
- أكثر من مرة قلت يجب أن تعرفي كيف يكون تمييز الألوان.
- انسحبت في دهشة وصمت.
- تقدمت الخادمة , وببراعة عدلت وضع الأشياء .
******
فرع اللبلاب يزداد زحفا إلى الأسفل. النور يقل صفاؤه في بهو الشقة الصغيرة.
******
- من وضع المزهرية هنا؟
- أنا .... قالتها بدهشة وبتردد.
- ليس هذا مكانها. قالها بعنف دون اكتراث لشيء بدا في مقلتيها وصفاء عيونها.
- انسحبت في صمت.
- تقدمت الخادمة في هدوء, وببراعة ,عدلت وضع الأشياء.
******
لاحظ أن شجيرته الغضة يشوبها اصفرار غير معهود.فرع اللبلاب صار أفرعا كثيفة,وزاد تدليه من أعلى ليغطي ثلث الشرفة,ويقطع الطريق أمام النسيم والنور. ثلث الضوء يمر الآن عبر الشرفة لبهو الشقة الصغيرة , وثلث النسيم.
******
- أين قميصي؟
- هذه الأزرار ليست مكانها؟
- نفخ في وجهها .ارتبكت , و ربما غامت عيناها المجمـَّلتان بكحل جنوبي , بشيء من ماء الحزن.
- لملمت بعضَها ... و ...انسحبت في هدوء .
- وببراعة, كانت أصابع الخادمة تعدل وضع أزرار القميص, بل وتعينه على ارتدائه !
****
كانت أفرع اللبلاب تزداد كثافة وتشابكا وكان بهو الشقة الصغيرة يزداد عتمة, وكان النسيم مختنق الأنفاس. (يالجمال الأفعى الصاخب بين شجيرة ونهير !!! )
****
هرع إلى شجيرته الأثيرة , رآها بصعوبة بين أذرع اللبلاب التي التفت حولها وتشابكت, صافح أنفه أريجها وكأنها تبوح به استغاثة , كان كابوسا رهيبا .راح يصارع الأذرع الثعبانية ,أريج شجيرته يبعث فيه طاقة جبارة, أخرج شجيرته الأثيرة بصعوبة شديدة .كان هناك شرخ في الأصيص . لا بأس , لا بأس . لكن على أية حال لكنها مازالت نابضة ببعض حياة, رغم اصفرارها . لا ضير .. لا ضير فما زال هناك الكثير من ماء النهير الجنوبي , صافيا رقراقا , لم يختلط بعد بغبار الميدان الكبير.
*****
عقد عزمه , وركض نحو باب عشهما الصغير ,فتح بابه على مصراعيه بعنف, وطرد الخادمة.frame]
**********************
شجيرة ونهير..تصغير شجرة ونهر.( حلم ينمو وعطاء يتزايد)
قدرة كاتب القصه القصيرة او الروايه القصيره على الاستبطان الذاتي سردا ، والحوار الخارجي الممتزج بنـزعة دراميه ،والذي أتاح للكاتب محمد نديم التعبير عن تبعات وجوب تحمل مسئولية محببة له بالرغم من الجهد المرافق للوفاء بهذه المسئوليه.. وبعد تصوير المأساة وأحداثها والتي جرت كمجرى فطري طبيعي بعد سنين العمر ...
روايته القصيره جاءت تصويراً إنسانياً شاملاً، لا يقف عند حدود الذات ، بل تجاوزها إلى إطار شامل وعميق الأغوار، تتداخل فيه الأصوات وتتشابك مع ايقاع حركي ونموي يكاد يكون مرئي وغير مرئي ليزيد من التلاحم في تيار الرواية وفي بنيتها الأدبيه ، وهذه المؤثرات ترتكز على تلك النـزعة الدرامية التي تجسِّدها المشاهد وتطورها والتي تضيء احيانا وتغير مجرى السرد احيانا أخرى كيتعطي النص إثارة وشرحا وتبريرا، ولتجسد الوشائج بين الأصوات المتحاورة.
لقد افاد الكاتب محمد نديم في اقصوصته هذه من أساليب الفنون النثرية -أسلوب القصة القصيرة-، ما جعل المجريات تأخد- تارة- الشكل النثري وتارة اخرى تأخذ صفات البناء القصصي، وإحكام الحبكة القصصية بشخصياتها المرسومة بعناية على الرغم من مهارته في ايقاعنا بوهم المشار اليها في البداية وترميز ماهيتها ففي البداية فوقفت حائرة بين ان تكون بالفعل نبتة لبلاب ام تكون ابنة أو قد تكون تكون صورة لزوج، والتي بانت مكنوناتها الداخلية والخارجية لاحقا بما يتوافق مع العنوان (شجيرة ونهير)
فهو في شجيرة يشير الى بطلة القصة
وفي نهير يشير به الى نفسه
وكأنه كان جدولا غير جزيل العطاء
الى ان اصبح نهيرا
يضخ عطاءه
ليروي الشجيرة الوحيده في حياته
وهذا يؤكد مرة أخرى أن اسلوب الراوي هو الذي يستطيع تحويل ما يتصل بقضايا النثر كالتوضيح، والتقرير، وعقلنة الأفكار، والعواطف ، إلى شحنات استفزازيه لعقل القارئ جاءت مكثفة لتوجهه إلى مواصلة البحث عن وظيفة السرد وهي الوظيفة الجمالية المفتوحة التي تستجلي بشكل كنه الرمز وما أراد الكاتب توظيف الرمز من خلاله، لقد توائم أسلوب السرد هنا في قصة شجيرة ونهر مع اللغة المستخدمه باستقامتها مع المألوف ومع القواعد المتواضع عليها في قوانين الرواية المعيارية ، حين وجد النديم نفسه مضطراً للتمسك بها والنسج على منوالها في أغلب الحالات ، وبهذا اصبح السرد نسيجاً لغوياً امتلك طبيعة إيحائية أقرب الى الحقيقة والتي لم تبتعد كثيرا عن التقرير والتوضيح والتصريح. وهذا ما لاحظته على نصوص الكاتب والشاعر محمد نديم التي قمت بقراءتها مسبقا.
وجد محمد نديم لنفسه هنا، وسيلة من الوسائل المهمة في تجسيد رؤيته القصصية المتفاعلة مع عالم خاص بشخوصه ، وتصوير مشاعرهم وسلوكياتهم المتضاربة بأسلوب مبطن ، مما يؤدى بالمتلقي (حسب رؤيتي الخاصة) الى اعادة التركيز مرات بالتفكير لاستنباط الفكرة المراد ايصالها .
الفن القصصي صورة حية من صور الحياة الإنسانية، تتجسَّد من خلال البناء والحبكة والشخصيات ، التي تتحاور وتتحرك في عوالم يمتزج فيها الفكر بالعاطفة، وهذا بدوره يؤدي إلى تعميق معرفتنا بالإنسان عن طريق التغلغل في وعيه أو لاوعيه وصولاً إلى إدراك المقصد، ومما يؤكِّد أن الرواية الحديثة "إشباع شهوة إلى تعريف أدق" ، ومواصفات أبْيَّن لإشارات الحياة يتجاوز الكاتب الذاتية المعبَّره بطريقة الراوي ، إلى التعبير بحوار شخوص أبطال قصته بشكل يجعل أصوات الحوار تتمثِّل الى حد بلوغنا الإحساس بحياة واقعية، إحساساً فعلياً .
تُعدُّ قصة محمد النديم " شجيرة ونهر ، المستندة إلى مساحة محدودة البيئه والتي تمزج بين علاقة فياضة من العلاقات العاطفية البشرية وبين الانسان وعمله الحفاظ على أعز ممتلكاته سواء كانت نبات يرعاه مذ كان يراع او لنقل من ابنة يعهدها تربية وحماية او تمسك بحبيبة امتلكت فؤاده أو حتى رعايته ا لحلم ترعرع داخله الى ان تحقق او كاد...حفاظ جاءت تداعيات رعايته له على شكل غيرة فطريه
من ان تمتد يد خفيه أو عابر سبيل للاستيلاء عليه ..
وبين سلوكيات فرديه لغيظ يفجره في وجه
خادمه او من تحت حوزته والتي رمزت هذه الشخصيه لكابوس مزعج ..قرر ان يخلعه نهائيا في نهاية المطاف.
من اجمل ما قرأت للشاعر اولا ومن ثم القاص والكاتب محمد نديم ثانيا حيث سلك النديم في بنائها مسلك الكاتب القصصي في توظيف السرد التسلسي من بين سرد و "حوار" ، باعتبارهما أساساً بنائياً في تشكيل القصة، وفيهما استطاع رسم أبعاد الشخصيات المتحاورة ومواقفها البشرية التعبيرية بعناية ، يسبر من خلالها أغوار الذات ، ويكشف عن بناء فكري أو فلسفي يعمّق معرفتنا بالحياة وبالقضايا الإنسانية التي يبغي النديم من خلالها توصيل الفكره الينا، حيث نثر مسطحٍ خالٍ من التعقيدات -إلا حالة التكهن التي اصابتني لاترجم ماهية القصة بداية- لكنه وبمقدرته الفذه على على تطوير حقيقي للحدث القصصي ، جذنبني- بصفة شخصيه - من خلال السرد والاحداث المتواليه وحوار الاشخاص الى عالم بعيد عن حياتنا الواقعي، حيث ظهروا بجلاء من خلال المفردات وأدوات السرد، أو على الأصح لنثار من عوالم اخرى.
تحياتي
لميس الامام