مسبحة من خرز الكلمات
الكاتب يحي السماوي
في مسحبة خرز من الكلمات نرى يحي السماوي مبدع يغتسل بجسد النثر الشعري أوالشعر النثري وتاره اخرى ناثرسارد يتنشف بشهَد الكلمة ...
يتحرك يحي السماوي بقوة وبجموح يعتمد الثقة فلا تأخذه في النثر الشعري او الشعر النثري المُحدَث لومة لائم..
يطالع المتلقى فيظن نصه مقاطع مفككة غير مترابطة وغير مألوفة لشعر ينبذه الكثيرون، لكن أيضاً يتمتع به الاخرون... نص السماوي آت من أشباه جزر مورقة مخضره حينا وحينا أشباه جزر قاحله ميتة، لينثرها ببراعة فوق محيطات الهذيان والتعقل، أراه كمن يهرب من رواق النثر الى الشعر ومن رواق الشعر الى النثر ببراعة تامة ، و لا يتلاعب بالمفردات ولا بالصورة كثيرا .
وهو يقدم نصه هنا إلى المتلقي كما يفضله هو ، كما لو انه حبات مسبحة وانفرطت لتسكب الحلو والمر الذى يعيشه أو من تداعيات علاقة مع المحبوبة متعاملا مع مفردات النص بكل شجاعة وبدون خشية ان يطاله نقد او ينذر به امتعاض... وكما أراه هنا أيضا جانح الى الخروج عن المألوف بعض الشئ..
ٌ
يذهب في حال سبيله :
النهر ُ نحو البحر ِ...
الوطن ُ نحو الصيارفة ...
العصفور نحو العش ّ...
الصلوات نحو الله...
وقلبي نحوك ...
يتصدى السماوي هنا بالثنائيات المصوبة نحو مصباتها في هذا المقطع لتنفرط من بعده حبات المسبحة فتصل آخر حبة الى حيث شاء..
(2)
لا الامطارُ..
لا الأنهار ُ والينابيع ُ ..
إنما: مياهُ أنوثتكِ
أورقتْ في حقل رجولتي
عشبَ الفحولة ..
من غابات الطبيعة دخل الشاعر هنا الى غابات المرأة..حيث استراح في عالمها وحل سعيدا..كحلول اللاجئ في وطن الحلم..ومن رموز الطبيعة ارتقى الى رموز المرأة وأسرارها..حيث تكتمل النشوة في احلى وأقصى مذاقاتها...
(3)
لا يرى الصيّاد من البحر
غير َ موضع الصناّرة ...
هل يرى الصقر ُ من الفضاء
غير َ الحمامة ؟
والطفل ُ ؟ هل يرى من الشجرة
غير حبل أرجوحته ؟
كذلك قلبي :
لا يرى من نساء الدنيا
إلاك ِ !
يمسك الشاعر هنا بحالته التي يترنم بها فيأتي بقلبه مبصرا الحبيبة في كل نساء الدنيا بعد ان يعطينا مبرارت على ان الاصل ثابت لا يتجزأ مابين موح وموحى اليه..
(4)
لن يكون بعيدا ً اليوم الذي ينتقم فيه :
الجرحُ من السكين ِ...
الدموع من دخان الحرائق ...
الشجرة ُ من الفأس ِ ...
الأقدام الحافية ُ
من الأشواك ..
القيودُ من صانعيها ...
الأوطان من السماسرة ...
وظباء يقيننا
من ذئاب الظنون !
لن يكون بعيدا ً اليوم ُ الذي يتآلف ُ فيه :
الخبز ُ مع الجياع ...
العشب مع الصحارى ...
الذئب ُ مع الشاة ...
الوسنُ مع الأجفان المسهدة ...
هذا ما قرأته في كتاب عشقي
المكتوب على فمي
برحيق رضابك !
هنا يدلف بنا الشاعر الى مرمى القطيعة ظنا ويقينا ..فيأتي بالمتناقضات في تقريري الأخذ بالثأر من جراح الظنون وإيلامها الى اقباله على المجتمع والانسان والحياة بمصالحة النقائض هكذا :تآلف الخبز مع الجياع وتآلفت الذئاب مع الشياه حتى تآلف العشب مع الصحاري والوسن مع الاجفان المسهدة ليبين لها اكتشافه حقيقة عشقه لها من منطق ممارسته صبابات ولذات معها يعزوها الى نظرية العشق التي ابتدعها لنفسه..
(5)
ثمة بياض
أكثرُ عتمة ً من قعر بئر ٍ
في ليلٍ يتيمِ النجوم والقمر...
بياض الأكفان مثلا ....
ثمة سواد ٌ يشعّ ُ نوراً
كصباحات الفردوس ..
الحجرُ الأسودُ
وشاماتك مثلا !
يعود الى المتناقضات ابتغاء الامل فأمام كل متناقضة هتاف بالامل واشتهاء وامنيات .. البياض والعتمه..ليل يتيم النجوم والقمر..بياض الاكفان..سواد يشع نورا..الحجر الاسود وشاماتها..
(6)
كيف سألتقيك
لو أنّ الله
خلق الدنيا لي وحدي
ووحدي خلقني للدنيا ؟
عودة الى حالته اللاهثة للالتقاء بها بتمني الاختباء في دنيا الله وحده واياها..
(7)
لأنك اللؤلؤة
فقد شكرت الله كثيرا
حين خلقني صَدَفَة ً
في بحر عشقك !
ليس في هذا المقطع اي قصد بلاغي وان جاءت تلك الاستعارة اللفظية الصريحة أرى ان الشاعر لم يقصد اليه قصدا.. بل هو يصف الطبيعة بما يثيره في شعوره الكامن فيه، شعور الحي المحروم بالحب والاثاره لايرى فيه سوى وجود تلك الحبيبة داخل اعماقه؟؟
(8)
للطبيعة كتابها :
الأشجار حروف ٌ..
النبعُ مداد ٌ..
والأرض الورقة ُ..
لا ثمة مَنْ يجيد قراءته
كالطيور والأطفال والعشاق !
هنا تنهال كل صفات الطبيعة على عدسة وجدانه وكلها في حالاتها عين صفات المرأة التي يحب ليقرأها وجدانه العاشق
كما صورها فلم تستعصي عليه..
(9)
فمي قلم ٌ
لا يُحسِنُ الكتابة َ
إلآ في دفتر شفتيك ِ
كل ما سرد من متناقضات ليعلن للمتلقي : الا يستحق بعد هذا الا ان يرتوي من مما ترشف الشفتان؟هذا التمازج الذي يرجوه لعالمه المشتهى وتلاشيه فيه؟؟
(10)
أعرفُ أين يرقدُ "نيوتن "
وأين كانت الشجرة ُ..
لكن ْ
في أية معدة ٍ استقرّت ْ التفاحة ُ ؟
نَعَمْ
العبيد ُ هم الذين شيّدوا الأهرام وسورَ الصين
لكن ْ
أين ذهب عرَقُ جباههم ؟
وصراخهم تحت لسع السياط
أين استقرّ ؟
هنا يختلف الشاعر ولا يتآلف مع المعطيات التي استخدم فيها أسماء اعجميه (نيوتن – الاهرام – الصين- ) بشعور متحفز لتشكيل الاشياء بكل زخم الاتهامات التي كالها وادرجها ليكون هو احد هؤلاء العظماء والعبيد..ليتوجهم ضحايا ..منسيين..في عالم بلا صفاء ولا نقاء بل ملئ بالظلم والجبروت..
(11)
السفينة غرقت ؟
لا ذنب للميناء
إنه ذنب السفينة ...
لا ذنب للسفينة ِ
إنه ذنبُ المجاديف ...
لا ذنب للمجاديف
إنه ذنب السواعد ...
لا ذنب َ للسواعد
إنه ذنب الرأس ...
آهٍ
كم مملكة عشق اندثرت
لأن رأسا واحداً
رمى فتيله في الغابة المسحورة
ليذيب الجليد المتجمد
في قلبه !
يعلن الشاعر براءته من ظنون الحبيبة جاء هنا كما ترائى له الظلم من ذنب لا يد له فيه..ونتائج تلك الظنون في شبه ذهول مطلق وأنسنة الاشياء والمعاني بدءا من غرق السفينة انتهاءا
(12)
حطبك أنت وليس تنوري
أنضج رغيف قصيدتي ...
دخان ظنونك
وليس بخور احتراقي
أسال دموع حروفي ...
ريحك ِ وليس شراعي
أوصل سفينتي الى الضفة الآمنة
نرى في بصيرة يحي السماوي- في هذا المقطع - انعكاس جديد للاشياء أبعاد صور بولادة جديده ولكي تكون المشاهده حديثا دقيقا عنها يردها الشاعر الى أعماقه ليفسرها مرة ثانية وثالثة ورابعه الى ما هنالك من ابعاد الصوره في ولادتها الجديده..
فالشكل عند يحي السماوي هنا مضمخ بمائية معينه يثيرها تعليل وحركة بممازجة خارجية بينها ،انه الحطب وليس التنور الذي انضج الرغيف وانه دخان الظنون وليس بخوره الذي أثار سيلان الدموع الريح وليس الشراع الذي اوصله بر الامان ..هذا الترميز الاحلالي للصور جاء تعليلا لما نبع من أعماقه من محتوى القصيده وهي ابعاد تأتي كانعكاس جديد للاشياء على الاشياء..
(13)
لا شيءَ عديم النفع ..
إنّ وتدا ً مغروسا ً في صحراء
قد يكون الدليل َ
للقافلةِ التائهة
وهنا يباغتنا يحي السماوي بتحطم الحواجز باللامعقول من الثوابت الطبيعية كغرس الوتد الاخضر في الاماكن المستحيلة ليحي بها مسارات الامل..
(14)
ما جئت لأختطفك ..
أنا الضائع منذ عصور النار الأولى
جئت ُ لأبحث فيك
عني .
جاء السماوي هنا ليرينا لهاثا مكثفا في الداخل اللامحدود (في: لأبحث فيك عني..) بعد ما ضاقت به اماكن الازمنة السحيقة بحثا عن الحبيبة ليبعث نفسه من جديد خلال رؤاه وأشواقه..
(15)
لم يسمعه أحد
ليس لأنه يصفق ُ بيد ٍ واحدة ٍ
ولا لأنه مذبوح الحنجرة
إنما
لأنهم اعتقلوا الريح !
وهنا الشاعر يرتل ذهول التصور فالانكسار بادٍ من تعطل وسائل نقل هتافه ضمن انهدامات موجعه تم انبعاثها من جديد توترا مستمرا.
(16)
كيف الهروب منك
إذا كنت متحدا بك
اتحادَ العطرِ بالوردة
والرايةِ بالسارية
والخضرةِ بالحقول ؟
يعود بنا الشاعر ليذكرنا بأن الهروب دون الحبيبة مستحيلا في اتحاده بجمال لا يخضع لمنطق الخيال.
(17)
ليس عيبا ً أنْ أكون حصاناً للناعور ِ
أو
ناعورا ً مربوطا ً الى حصان ...
العيب ُ ؟
ألا أكون شيئا ً في حقولك ..
بهذا الخيال السماوي المرتبط بما وراء عدسة عينه وذلك الشوق المشرئب الذي لا يُحَدْ واللهفة التي لا تموت يبرز لنا في تساؤل مضمر ان غيابه من جميع معالم نفسها وجسدها ضرب من المستحيل..
(18)
ثمة وقوف ٌ أسرعُ من الركض ِ ..
هذا ما قاله البئر للساقية
في وصفه الناعور !
ثمة ركض ٌ أكثر بطئا من الوقوف ..
هذا ما قاله جبل اليقين
في وصفه غزال الظنون
هنا يتمسك الشاعر بلغة هذيان يستريح ليتمسك عقله بها ويحاول ان يبررها الى حد اليقين ..بعملقة التعبير المتنافي مع المنطق والعقل...
(19)
ـ لماذا ينفرد الانسان من بين الكائنات
بكونه الوحيد الذي يخجل ؟
ـ لأنه الوحيد الذي يفعل
ما يثير الخجل ؟
بمنطق الثوابت يسَلًم الشاعر هنا باعتراف استفهامي..طبيعة الانسان التي ميزته عن الكائنات الاخرى..
(20)
القلم ليس مصيدة َ عصافيرَ..
لماذا تهرب عصافير الافكار من شجرة رأسي
حين أمسك القلم ؟
بعد كل هذا يعلن الشاعر تقطير الفكر بما يملي القلم وكأنه ينفي تقاعصه عن الإدلاء بما هو اهل لمعاناته..
(21)
خطيئتك ِ أنك ِ دون خطيئة ٍ
في المدن المستريبة...
لا عيبَ فيك
سوى عذابي!
يتبارى السماوي فى حوارية قصيرة صامتة بينه وبين المحبوبة حوارية لا تتقبل الصمت بل هى أقرب إلى متوالية نزوحه بالاعتراف..
(22)
الفارغون
يظنون الكأس َ فارغة
مع أنه
مملوءة بالهواء !
غاية الشاعر هنا منطق يعكس تفاؤله بمطمع لا حدود له..
(23)
ماء المعنى
هو ما يبعث النبض
في تراب الحروف
اطار آخر للمتلقي بأن الحروف لا تُروى الا بماء المعاناة..
(24)
أنا أخطر مجرم في التاريخ...
ميزتي عن كل المجرمين
هي
انّ ضحاياي هم : أنا وحدي !
يأتي الشاعر بنا هنا الى نتيجة حتمية بالاعتراف بنفسه اللوامة
(25)
الآهاتُ حبل ٌ من قِنّب الصبابة
ينشر عليه قلبي
ثياب نبضه !
الجبال ليست مصدّاتٍ للرياح ...
إنها مساميرُ اللهِ
في خشَبَة ِ الأرض ..
كمسمار عشقك في لوح حياتي
أنا المُعَلقُ فوق جدار الزمن
في اللامكان !
وهذه لوحة فنية ونفسية اكملها بصور واقعية ومضغوطه على عمق في التحليل يتجمع في النهاية في مسمار العشق المعلق فوق جدار الزمن الابدي.. الكوني الخالد
(26)
أيها العابر ُ
لحظة ً من فضلك ..
هلا التقطت َ لي صورة ً تذكارية
مع الهواء ؟
حوار اللامعقول الذي انتهت به هذه المرارات والحسرات والتمنيات والامنيات..
(27)
الريح ُ ساعي البريد بين :
الحنجرة والأذن ..
الشفة والمزمار ..
المياسم والتويجات ..
الأشرعة والضفاف ..
عبيرك وروحي ..
وبين حطبي ونارك أيضا !
أدخل السماوي اللغة هنا من بابين : الأول حسي بحت ، يحاور الكلمات ، و يستنطقها ، و يشعر بنبضها ، و الثاني أكثر علمية : متابعة علاقة الكلمات بغيرها ، و انصرافها من هذا الشكل إلى ذاك بالاستعمال ...الريح ساعي بريد بين: ......حنجرة واذن – شفة ومزمار- مياسم وتويجات ...إلخ
أراني ادخل هنا في موضوع مألوف لدينا هو الدلالة ، و تطورها
و الدلالة في إحدى تعريفاتها – واعتذر إن تصرفت في التعريف ، الدلالة : هي تصور المعنى بتصور اللفظ
الريح ساعي بريد...بين ..الخ . هنا الانسنة جلية وواضحه لدلالة الريح لفظا وساعي البريد معنى...
و افترض البعض " المحاكاة وانسنة العناصر الطبيعية هو قول يفسر البعض لا الكل . وقد يقال انها لغة مرتجلة ..واحياءها تطور دلالي واثق بل أنه لا يستمر مدة طويلة معطية ايحاءا ابعد..
و الشاعر أكثر من غيره مطلوب منه أن يكون على علاقة باللغة بحيث يجد " تصنيفه " الخاص لما يراه قابلا للاستعمال عنده أو لا يراه .
(28)
أوداع ٌ
ونحن لم نلتق ِ بعد ُ ؟
هنا استنكار للحظة وداع ما كان لها لقاء حسي بعد...يحضرني هنا نمط من الحب كالحب عبر السمع .. (فالأذن تعشق قبل العين احيانا ) او عبر تقولات الاخرين عن جمال احداهن ليتخيل شخص ما هذه الانسانة وكأنها ما كان يبحث عنه طوال حياته..فيتصورها من خلال فانتازيا عشقيه تتبادل الحب والرومانسية معه في كل لحظه الى ان يتبادر الى سمعه انها راحلة الى موطن آخر ..فيودعها مدمع العينين محترق الوجدان .. ولم يكن قد لقيها في الاساس...
(29)
من نِعَم ِ الله ِ على عاشقك ِ المطعونْ
مكرمة ُ الجنونْ
وصف الشاعر نفسه بالجنون الذي اكرمه الله ونعمه به من جراء ما وصل به العشق
(30)
كي لا أكون قاتلا ً أو قتيلا ً :
هربت ُ ـ
فقد يحتاج العالمُ الأعمى
شاهدا للإدلاء ِ بصمته !
.
(31)
لست جبانا ـً ما دمت أمتلك الشجاعةَ
لأعيش حياة ً
ليست جديرة ً بأنْ تُعاش
نفى الشاعر الجبن عن نفسه هنا متابعا المقطع السابق فجاء بدفاع وتبرير إنسان جنت عليه الاقاويل بهذا النعت (الجبن) فالحياة بنظره غير جديره بأن تعاش لانها حياة للجبناء وحسب لكنه لا يبالي امام ما يملك من شجاعة وقد أتى بالموت هنا اتيانا ضمنيا ليثبت ان القضية الطبيعية هي الموت المقابل لحياة لاتستحق العيش فيها..
( 32)
العالم ُ ملتهب ٌ!
لا تكوني حديدا ً..
كوني طينا ً يا حبيبتي
وقبل النهاية ما زال الشاعر مصرا على استجداء الحبيبة بالتواصل والتماشي مع عالم يلتهب عشقا يتطلب منها مرونة الطين لا رعونة الحديد وصلابته
(33)
على ضفاف نهر الضوء الصوفيّ
هيّاتُ لي قبرا ً من الماء
لأبعث َ حيّا في عشبك
وبعد كل الاستغراق في كلمات انفرطت من قلبه ووجدانه كخرز حبات المسبحة إذ انقطعت ... وبعد لأي طويل لم يغادرنا إلا وقد أشبعنا من رواء روحه وظمأه نراه وقد خلا الى نفسه ليقلب الغاية الى وسيلة بعيدا عن هامش الرغبه..
***
تحياتي للكاتب يحي السماوي على نص يجيز كل المعاني...
لميس الامام