المشاركة الأصلية كتبت بواسطة راضي الضميري
إلى أختي...
رأيتك الليلة في منامي ترتدين ثوبًا أسودًا ، فأستيقظت مذعورًا لأتفحص جرح الفراق النازف ، فإذا به وقد تحول لونه إلى سواد قاتم ، فخشيت من أن تكون نهايتي قد اقتربت .
ماذا أفعل...؟
بقيت طوال الليل مذعورًا أنظر إلى نفسي في المرآة ، ماذا أفعل ؟ أريد أن أراك قبل الرحيل ، أريد أنْ أودعك، وأن أعتذر لكِ عن أشياءٍ كثيرة ، عن كل لحظة ألم سببتها لكِ وأنا بعيدًا عنكِ ، أردت أن يكون وجهك البريء آخر ما يعانق بصري ، أردت أن تكون كلماتك الطيبة وروحك الجميلة آخر مودعٍ لي ، لكنني لا أستطيع المسير ، ومسافات كبيرة تحول بيني وبينك ، وأخشى أنه لم يعد هناك أي أمل بلقاء ، ولم يعد هناك متسع من الوقت لكي ألملم أشلائي وأنتفض ثائرًا على جرحي ، لأهرع إليك مودعًا ..
لذا رأيت أن أودعك بكلمات ليست كالكلمات ،كلمات كتبتها بحبر دمي ، نثرت فيها آخر ما تبقى في جعبتي ، كلمات تتحدث عن أشياءٍ كثيرة كنت أود لو قلتها لكِ منذ زمنٍ بعيد...
هل تذكرين أيامنا الماضية ، كم كانت جميلة ، كيف كنا نلهو ونلعب تحت أشجار الزيتون ، مرتع الطفولة ومخزن الذكريات الكبير ، نلعب الغميضة ، نتراكض خلف بعضنا البعض ، فرحين بدنيا لم نكن نعلم ما تخبئه لنا من أحزان ، وفواجع الفراق ، وألم الحنين ، وبرد الوحدة الذي مزق ما تبقى من قلوبنا التي عصرها الهم والحزن بعيدًا عن أحبتنا، لنجد انفسنا وبعدَ هذا العمر في غميضة كبيرة ، تائهين في بلاد الغربة والمنفى ، فصلت بيننا الجغرافيا ولم يرحمنا التاريخ ، تهنا في بلاد الله الواسعة ، وأثقلت كاهلنا آمالنا الكبيرة وأحلامنا الصغيرة والتي لم تكن يومًا مستحيلة ، أرهقتنا سنيين الغربة والمنفى، وذبنا من نار شوقٍ إرتفعت حرارتها تسعة وخمسون درجة على مقياس وجع الفراق ، لتصيب من القلب مقتلاً ، فلا تبقي ولا تذر إلا من رحمه ربي فصبر.
تأخذني الذكريات بعيدًا ، وما زلت أذكر كيفَ كنتِ معي ، وكيف كنتِ تؤثريني على نفسك ، تعطيني بلا حدود ودون انتظار المقابل ، كان كل ما يهمك أن أكون ناجحًا في حياتي ، تفرحين لفرحي ، وتحزنين لحزني ، تنظرين في عينيّ كعالم روحاني فتعرفين ما بي ، تستكشفين أسراري فأعجز عن إخفاء ما بداخلي ، أحاول أن أصمد فلا أبوح بما في داخلي ، لكنني كنتُ أفشل ، وكأني أعاند نفسي أجبرها على السكوت وأنا القادم أصلاً لأبوح لكِ بما يعتمر في قلبي ، فعندك كنتُ أجدُ الدواء والبلسم الذي يشفي حزني وحيرتي وكل ما يصيبني .
وها أنا الآن بعيدٌ عنكِ ، سارحًا في غربتي القسرية ، وها أنتِ الآن بعيدة عني ، تقطنين في وطن التعب ، وتسكنين في جراح أمةٍ أبت إلا أن تعيد مشاهد داحس والغبراء ، فلم ترحم نفسها ، وبدلاً من انتظار عودة طائر الفينيق ، الذي طالت غيبته ، إستنسخت و في إصرار كبير على تمسكها بمصاحلها الفانية بسوس أخرى ، بسوس عشعشت في ذاكرة عقول مريضة ، رضيت أن تأكل نفسها كعشاءٍ أخير ، أو كبجعة ترقص رقصتها الأخيرة ، تدور وتدور حول نفسها في حلقة مفرغة ، تنتظر سقوطها الأخير ، ولهذا فأنا أخشى عليكِ من قلوب لم تعد تعرف الرحمة ، ولم يعد يعنيها شأن أناسٍ ما زالوا صامدين ، وأناس رحلوا بكبرياءٍ شامخ رافضين الذل ، مقاومين ومجاهدين، رفضوا الإنصياع لقوانين قطاع الطرق ، فماتوا وهم على ذلك، وأنا أخشى عليكِ أن يصيبك بيدِ بني جلدتنا ما يدمع مآقينا ويدمي قلوبنا ثمَ لا نجد له عزاءً مقنعًا ما حيينا.
يا صاحبة القلب الكبير...
أنتِ أجمل شيء في حياتي ، فأنتِ الأخت الحنونة والأم الطيبة والصديقة الوفية ، والإبنة الغالية، وكنتِ دائمًا إلى جانبي صاحبة المواقف الكثيرة والكبيرة ، وكنتِ الصدر الحنون الذي يبثُ الدفء في عالمي القطبي المتجمد ، و كم كانت حياتي ستكون تعيسة لو لا أنك كنتِ جزءً أصيلاً منها ، لقد كنتِ كل شيء جميل في عالمي الذي فقدْ كل شيء إلا أنتِ.
كوني بخير يا أختاه ، كوني بخير ...