سلام الـلـه عليكم
قراءة في قصيدة " أمي " للأديب والمفكر والشاعر جوتيار تمر
بقلم د. محمد حسن السمان
" أمي " قصيدة حقيقية من شعر الحداثة , تحمل جبالا من المعاناة , وتطرح قضية , وتلامس الاحاسيس , استعاضت عن غموض الحداثة والرمزية , بمنعكسات التخاطب مع مشاعر الأم , لتفسح المجال واسعا , أمام المتلقي أو القارئ , لتستقدمه ليعيش حالة أو قضية , في تعاطف وحميمية دافئة , فالأم حنو وحنان , والأم رمز الخصوبة والانجاب , وهي الأم والوطن والأمة والحياة , هي الانتماء والاستمرار , وعندما تهمس الأم في أذن ابنها , في كل مساء , أن يبتعد عن أشياء , أن لايعبث بأشياء , لم تسمها ولاتسمها , ولكن الشاعر عبّر عنها , بأنها أشياء وهبت لها السماء (والهبة هنا مجازية , أو ربما جاءت في تعبير تهكمي ) , سلطة الموت والحياة , وكأن الشاعر يشير الى واقع مخيف , بل هو يلخّص بمهارة , حالة الأمة , وكيف أصبح الأمر مثل وباء خطير معد , ينتقل من مكان الى آخر , وومن مجموعة الى أخرى , بل حتى من فرد لآخر , أرادت الأم لئن كانت الأم حقيقة , أم رمزا , أن يطول بقاء الأبن في احضانها , في اشارة الى البقاء واستمرار الحياة , لاتريد أن تفقد " آخرا " , وفي هذا تألق من الشاعر في الاشارة الى حالات الفقد والموت والتهجير للآخرين , لأن تعبير "الآخر " جاء شاملا غير محدد , والأم ( حقيقة أم رمزا ) ستبقى كما كانت , في إشارة الى مرحلة سابقة , يوم كانت الأم والعائلة والمدينة والبلد والأمة , تنظر الى من يخرج بأنه ربما لايعود , وفي لمحة ذكية , أورد الشاعر , تعبير " تلملم بقاياها " للدلالة على حجم وعدد الحالات الرهيب , يوم كان الفرد يخرج من بيته , وينتظر أن لايعود من جديد , ويستطرد الشاعر هواجس الأم , عندما يقول :
أُمي تريد أن أبقى بعيداً
عن رماح الأولياء
وحتى لعنة الأبرياء
كي أعيش بأمان
وأكاد المس هنا فلسفة الانسان في ظل الخوف والرهبة , عندما يكون الخوف ممن يفترض أن لايأتي منهم خوف ولاضر , فالأم تريد لابنها أن يبقى بعيدا عن رماح الأولياء , ومفهوم الأولياء شاسع يفتح المجال أمام أكثر من تفسير , ابتداء من الأولياء دينا , الى ولاة الأمر , عشيرة أو سياسة , بل لقد أمعن الشاعر في تصوير هول المشكلة , عندما يشير الى أن الانضمام , حتى للمحايدين الابرياء , هو لعنة بحد ذاتها , لأن آلة الجريمة , وآلة القتل , لاتستثني هؤلاء , ثم يصل الشاعر الى إكمال فلسفته , عندما يقول :
أُمي تريد..
و تنسى أن من يريد
معانقة الربيع عليه
أن يكافح الذبول
أن لا يغزل الكلمات
من ضباب الأوهام
وأن لايرضى بالخبز والماء
وكأن الشاعر بدأ شكلا إيجابيا في رسم الصورة , عندما يعبّر عن رغبة الأم وهواجسها , ليقول " أمي تريد " ويرد بنبرة تخرج من قلب المأساة " أمي تريد , وتنسى أن من يريد , معانقة الربيع , عليه أن يكافح الذبول ..." فيرى أن الحل لايكون بالموقف السلبي , وبالاستكانة ومحاولة الابتعاد عن الولوج في الحدث , بل إن الشاعر يبوح مستنكرا الحالة التي وصلت إليها الأمور , عندما أصبح البوح بما يختلج في الصدر , يجر الى التهلكة , ويودي الى الحتف , في إشارة الى ما قد جرى من عمليات قتل لمن سبق أن باحوا , بمكنونات أنفسهم ( كما نحر من قبل الآخر ) .
أُمي تكره أن أبوح لها
بأسرار ذاتي
وتوقها أن تعيش بلا قيد
لأنها تعلم بأني أُنحر بها
كما نُحر مِن قبلُ الآخر
ثم يسترسل بشكل لايخلو من التهكم والرفض , عندما يشير الى أن " الأم " تريد لابنها أن يبقى فارسا وهميا , والحقيقة , أكاد ألمس أن الشاعر اراد بكلمة الفارس هنا , هو الانسان المحافظ على بقائه , المستمر في الحياة , لانه عاد الى الفكرة المفتاح في القصيدة " لذا لاتمل من ترديد همساتها كل مساء " :
أُمي تريدني أن أبقى فارسا
فقط في الأحلام
لذا هي لاتمل من ترديد
همساتها في أُذني كل مساء
وفي النهاية , فإن الشاعر قدم لنا قصيدة حداثية راقية , ذات مضمون وفكر لافتين , وقد ابتعد الى حد كبير عن مسألة الاغراق في الرمز أو الاستعارات التاريخية أو الملحمية , أو الاستعراض الثقافي , بذكر أعلام ومسميات الفكر وعلم النفس والفلسفة والعلم , بل كانت القصيدة ترجمة لحالة وقضية , نجح الشاعر في التعبير عنها بشكل كبير , وقد نجح الشاعر باستخدام مفردات سهلة قوية جميلة , أعطت القصيدة جرسا داخليا متميّزا , وإن كنت لا اتفق مع الشاعر , في طريقة إعطاء الجرس الخارجي , باستخدام بعض المفردات التي أخذت شكل قوافي ملزمة , في بداية القصيدة , ثم عند ارتفاع التوتر في القصيدة , وجدنا الشاعر بفطرته الراقية , قد تخلى عنها دون تكلف بالانتقال .