تقدم وابداع ..أم دمار..؟
كان غريباً في نظر الاخرين من أبناء محلته،لانه لم يكن يخرج معهم كثيراً ولم يكن يلعب معهم الا قليلا.
كان يحب الوحدة لاسباب يجهلها أكثر أبناء جيله،فهو في نظرهم كان معقداً منطوياً بسبب اعاقة في ساقه اليمنى..فقد خلقت اقصر من الاخرى.
لكنه كان ينظر الى نفسه بأنها لم تخلق لتلهو فقط انما يجب أن تبدع وأن تحاول المستحيل من أجل تحقيق اهدافها..كان يؤمن بالعطاء.
كان يقضي أغلب اوقات فراغه في سرداب بيته حيث قد جمع لنفسه هناك بعض النفايات من الاجهزة السمعية والمرئية والالكترونية القديمة،كان يحاول أن يصنع منها أجهزة صغيرة والعاب فيعطيها لاخوته الصغار ليتسلوا بها.
كان مبدعاً فعلا في جميع مراحل عمره..غير مبال باعاقته..ذات يوم وبينما هو يقلب صفحات احدى المجلات العلمية،والتكنولوجية وجد فيها صور أحيت في ذاكرته ما كان قد أنسته الايام ولو للحظات حيث وجد فيها صور آليات حربية..طائرات..دبابات.. مدافع.. وغيرها من آلات الدمار.
سمح لفكره أن يجوب آفاق الزمن لحظة..واذا به يركب قطار الزمن ويعود الى الوراء عشر سنين،حيث لم يكن عمره وقتها قد تجاوز الخمس سنوات..واذا به يسترجع صور قد أملتها الظروف عليه فطبعت في ذاكرته صور تلك الالات.. وهي تداهم مدينتهم وتشرد الملايين من ابناء جلدته.
ثم مالبث أن قطع تفكيره،ولوى بفكره الى ماكان يجلب له ابوه من العاب وهدايا واذا به يصطدم ثانية بتلك الصور.
فكر..وهمس في أعماقه لماذا لا أصنع اقواها..وكانت الطائرات هي الاقوى في نظره.
جمع نفاياته وبدأ بصنع طائرته وبعد محاولات عديدة نجح بأعداد طائرة يتحكم فيها جهاز(كنترول)، فرح كثيراً بانجازه وصعد الى ابيه يبشره بانجازه الرائع.. تغيرت ملامح وجه ابيه عندما وجدها..هنئه..وقبله..لكنه قال له يابني لمَ لاتصنع اجهزة تنفع البشرية..قال لابيه مستغربا لكنك يا ابي كنت تشتريها لي عندما كنت صغيرا..ازداد وجه ابيه حزنا وعلم بان الخطأ في تربيته،وقد آن الاوان ليصحح ذلك الخطأ.
جلس مع ابنه،وتحدثا طويلا..حتى اقتنع الابن بان الابداع والتقدم عندما يكون ثمرتها الدمار لايمكن ان يسمى ابداعا او تقدما فهو في كل الاحوال دمار.. دمار..دمار..فهم الابن قصد والده وعندما تخرج من الاعداية،كانت اولى ترشيحاته الدراسية كلية الطب اكثر المهن انسانية..مع انه كان منذ الصغر يريد كلية يقوي امكانياته التصنيعية،لكنه علم واقتنع بان التقدم والابداع في نظر مجتمعاتنا ليس الا من يمتلك سلاحا اقوى..لذا اختار الطب ليتجنب تقدما وابداعا فيه الدمار ..وفي داخله همس لاعالج من يحتاج.
نشرت في جريدة (داهينان) الابداع/العدد(5) /آب 1997/ كودرستان العراق