اغتراب
https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ead.php?t=2271
الجو العام للنص :
يفصح عنوان النص عن مضمونه وهو الشعور بالغربة الروحية أو النفسية إذ من المعروف أن للإغتراب صنوفا منها الغربة المكانية والغربة الزمانية ولعل أشدها وقعا وأوجعها ألما تلك التي يتحدث عنها الشاعر في قصيدته ..
وكم يبدو الالتصاق شديدا بين مضمون النص وعنوانه ولاشك أن الشاعر هنا قد وفق كثيرا عندما اهتدى إليه .
وكان هذا الاهتداء هو عينه الذي فك طلاسم حيرته وهو يشعر باحتراب بين عقله وقلبه وأي احتراب كان ؟!!
إنه لعمري هو هو ذاك الاغتراب فتأتي النفثة الأولى قائلا :
أبين العقل والقلب احتراب لعمري إن ذاك الاغتـراب
سؤال يعج في نفسه وله ضجيج وعراك يبدأ بهذه الهمزة وكأن السؤال من هول مايشعر به قد قفز إليه قفزا ودون مقدمات .. أبين العقل والقلب احتراب؟
عقل له شروطه وأهواؤه ومطالبه وتطلعاته وله سيطرته وتأثيره وسلطانه يقابله قلب له بمثل ماللعقل من شروط وأهواء ومطالب وتطلعات وله السيطرة الآسرة أحيانا والتأثير المؤثر الآخذ وربما السلطان المتمرد إنما باحساس قلب لابمنطق عقل ..
وتأتي الأجابة تمزق السؤال تفتته تفتيتا وتُذهب في نفس الوقت مااعتلج في نفس الشاعر من حيرة وصراع وشتات ..
تأتي على عرش من الاعتقاد المتعلق بالروح والحياة وليس أشد عيانا في الاعتقاد من وجود حياة وعمر على قيد الأرض
لعمري إن ذاك الاغتراب
إن هكذا مشددة – وما أشدها تصديقا لما قبلها ! – وذاك – للبعيد – وكأن الشاعر يتململ من ذاك البعيد يأتي إليه على فنن من هم آخر ويحمل مفاجأة مروعة ............................. إنه الاغتراب !
ويأتي الإيمان المسلم به والذي لاحيلة معه بعد تيقن الشعور بهذا الاغتراب فإذا به هو هو الذي يصبحه ويمسيه ولم يكن يعرف له مصطلحا بعد :
إلى هذا مع الفجر ارتحالي وذاك له إذا أمسـي الذّهـابُ
وكم قاسيتُ من ذين اضطراباً به قد ضاع من عمري الشبابُ
نعم إلى هذا الشعور كانت نفسي ترتحل بكلها وبكل مايعتلجها بل بكل مايُطوِّف بها و يطوف حولها .. وباسم الإشارة هذا الذي يواري لذعة الشعور بالاغتراب صراحة فيعبر الشاعر عنه وكأنه يقشعر من ذكره وبنفس الاسم – اسم الاشارة - يشير من بعيد إليه كذلك في المساء فكما أن الارتحال إليه كذلك الذهاب .....
وبين الارتحال والذهاب تأكل الغربة نفس الشاعر حتى لكأنه ماشعر ببهجة الصباح ولا عاشه ولا عرفه وكأنه ما اطمئن إلى هدوء ليل ولا حسه ولا استروح بسكونه ..
ثم يتنفس الشاعر رهقا وأرقا وهو ينفس عن خوالجه فلكم قاسى منهما – القلب والعقل – وهما يحتربان فجعلاه مزعا ممزعة يموج بين يدى الدهر صباحا ومساء حيرة وتيها وغربة....... وهكذا في اضطرام واضطراب والعمر يتسرب في غفلة منه......... ويالضيعة الشباب بين عراك القلب والعقل وذاك الشعور النهم ..
ثم تختلط أحاسيس الشاعر وتظطرم ورغم مايصطرع ويعترك داخله لكنه يحاول أن يظهر خلاف ذلك البركان الخامد في نفسه الحائر الثائر فيه فقط فها هو مقررا :
لثغري الضحْكُ والآهات تدوي بقلبي إنما ضحكـي انتحـابُ
وكم أبني قصورا ثم أصحو ويبقى عند ذلك لي السـرابُ
فثغره ضاحك بارد ميت الاحساس بالابتسام وكأنه ليس ثغره.. بل ليس منه بينما هناك دوي يفجراظلاعه لايسمع صوته ولايستشعر شدته سواه وماهو غير آهات تشتبك.. آهات كالآكام تطيح بقلبه وله اصطدام واصطراخ بين جوانحه فأي معنى للابتسام,, بل أي معنى للضحك أصلا.. إنما ذاك انتحاب
هكذا باسلوب القصر والحصرفي يأس بين وانقطاع عن الحياة الصاخبة المشرقة بكل مظاهرها في بزوغ وظهور غير خاف
إنه يعرف ماصنعته الحياة به وذاق مراراتها وتجرع غصاتها فلكم بنى قصورا من الفرح والهدأة والطمأنينة والانشراح والاستقرار والسكون كم!
فإذا ما استفاق على أي منها تلاشى كل شيء حوله واظلم الشعور الباذخ بهجة وأمنا وانطفأ الاحساس ذلك كله واستحال كل شيء عنده - وحده هو لاعند غيره - إلى سراب يموج حوله في سراب.....
بل كل شيء لديه قد تحول إلى وهم وحلم إذ لم يظفر بالطمأنينة المشتهاه ولا بالهناءة المحتباه إنما :
كأني صار من حلمٍ طعامي ولي من بعض أوهامي شرابُ
وأرفل في دمقسٍ مـن خيال أتستر يا تُرى هذي الثيـابُ ؟
ولقد قارب هذا الوهم أن يطول طعامه وشرابه فلا يجد معنى لهما ولا لذة ولاحلاوة أو حس بهما أصلا بل تحول كله حلم مفتت كما يشعر وفي قوله ( لي ) تقديم مناسب ينبيء عن صدق إحساسه باغترابه وبلوعته في هذه الحياة الدنيا وكأنها كلها في نظره ماهي إلا أوهام وخيالات وسرابات متتابعة متداخله .. بل كأنها لم تكن كذلك إلا له وحده هو
وهذا يعكس حدة الشعور بالغربة لديه وكأنه تحول كله إلا ظل أو لوحة صامته أو خيال ساري في تلافيف مخيفة تتلاشى رويدا رويدا فلا يبقى منه شيء فهل ياترى تبقيه واقعا أو حقيقة تلك التلافيف من الخيال أو الوهم ؟!
ثم هاهو يتذكر أن له آمالا في هذه الحياة الدنيا لعلها تبقيه صورة حقيقية حية تنبض بالحياة الآمنة بعيدا عن كل مايجيش في نفسه من الخواطر الشجية والأحاسيس المتفاوتة الموجعة المؤثرة العصية فاسمعه يتذكر هذا وكله انتفاضة واحدة على شعور واحد لطالما قد أرهقة إذا يقول :
ولي سفن من الآمـال شتـى بها أبحرت يطويني العبـابُ
لكن يبدو أن هذه الآمال التي علق عليها حياة جديدة ونبض جديد في نفسه قد أبحرت به بعيدا عن شاطيء الأمن والسلام إلى عمق البحر حيث العباب الذي يلتهم كل شيء ولايبقي فعلا غير الخيال أو الذكريات أو السراب
وكان الشاعر من بعد يلتمس لنفسه منفذا من مشاعره المستبدة به تلك لعله يعود إلى سيرته الأولى حيث الرضا والانشراح والتعايش مع كل صراعات الحياة التي تعتمل في نفسه وتسببت له في شعور عارم بالاغتراب ناتج عن احتراب وتفاوت واختلاف بين قلبه وعقله
فيسلي نفسه معزيا قائلا :
تجلد هكذا الدنيـا ستمضـي وما في ذاك من شيءٍ يُعـابُ
حياةُ المرء من شـدٍّ وجـذبٍ كساحٍ الحرب كم فيها ضِرابُ
وكأني أرى الشاعر قد عادت إليه نعشة بعد موجة من الهم العاصف به والوجع الساكن المستقر فيه اللذان تناوشاه وكأنما يأكلان من جوارحه وجوانحه....هنا يتجرد من نفسه ومن قلبه ومن عقله ويصنع من كل هذا مخلوقا آخر ويخاطبه مخاطبة المحب الحريص المشفق مذكرا إياه بأن الحياة الدنيا هي هكذا قد طبعت على الكدر وستمضي بهذا الكدر المجبولة عليه وليس هناك عيب ولا استغراب أو تعجب
والمرء فيها بين شد وجذب وكأنه في ساحة حرب كم يتلقى فيها من طعنات وضربات
ولكن :
بسيف العمرِ ما ينفكّ يفـري إلى أن يحتوي السيفَ القرابُ
كل هذه الطعنات والمكدرات تقتص من عمره .. بل أيامه تلك التي هي بعض عمره ماهي إلا سيفا لاينفك يصيبه من مقادير الحياة وأقذائها إلى أن تضمه الأرض بعد موته
وماابلغ قول الشاعر : ماينفك
ممايدل دلالة عميقة على معنى الملازمة مصحوبا بانقطاع الرجاء من هذه الدنيا ثم هو لا يملك غير الانتباه إلى أمر لابد من اعتباره وملازمته هو أيضا مقابل تلك الملازمة القاهرة من التكدير والتنغيص ألا وهو الصبر :
ألا صبرا على ثلْـمٍ بسيـفٍ له من فجوة القبـر القِـرابُ
وهنا صورة شعرية جد مؤثرة تؤكد الصورة السابقة في البيت السابق حيث اعتبار العمر سيفا عرضة للثلم ولا بد يوما أن يغمد في قرابة الذي هو القبر
وما اشد التشابه بين ركني التشبيه وهذا من أهم أركان الاستعارات وهو القيام على ركن التخيل أو علاقة المشابهه
وينهي الشاعر هذه المعزوفة الشجية الحزينة مستمرا في تجرده عن نفسه ناصحا لها مشفقا موجها :
وقلْ يا ربّ أنت رجاء قلبـي فمنك إليـك بدئـي والإيـابُ
وهنا يبرز التسليم لله سبحانه وتعالى حيث الرجاء والأمل والسكينة والاطمئنان للروح والفؤاد فمنه البدء سبحانه وإليه الرجوع والإياب
اللغة والتراكيب :
يلحظ جزالة لغة الشاعر وإن بدت سهلة ويبدو هذا
من تكرر ميله للتعجب الذي جاء هنا غرضا من أغراض الاستفهام في البيت الأول والبيت السابع وإن جاء مندسا أيضا بين ثنايا (كم) الخبرية
التي تدلل على مدى تضجره واكتوائه من مشاعر الغربة التي تعتلج في نفسه ويشعر بأثرها ينداح عفوا على كل جوانب حياته ..
ويبدو تراوح الشاعر بين اسمين من اسمي الإشارة (هذا ) و(ذاك) في البيت الثاني مما يشعر القارئ بطول تملل المشاعر وتبرمه من طول بقائه في اغتراب ناتج عن صراع العقل والقلب.
والقصيدة كلها بشيع فيها هذا الجو – جو الضجر والسأم والتبرم وانتظار الأمل والرجاء على بساط ثقيل وطويل من اليأس والمعاناة يبدو هذا في استخدامه لحرف الجر ( إلى ) الذي يفيد الامتداد وانتظار الغاية والنهاية في البيت الثاني والحادي عشر وكذلك الأخير ويبدو هذا أيضا من حرف العطف ( ثم ) الذي يدل على وجود مساحة بين حدثين يتنقل بينها الشاعر وهو في غاية البؤس والتململ في انتظار الفرج كما يبدو في البيت الخامس .
وللتنقل بين زمنين من أزمان الفعل ( الماضي والمضارع ) دلالة ظاهرة تنبئ أيضا عن ثبات وبقاء على حالة واحدة يشوبها الرفض والقلق وبين حالة تتجدد وتبعث مرة أخرى لكنها لاتختلف عن حالة البقاء اليائس ذاك..
اما بالنسبة للتراكيب فقد حاول الشاعر جاهدا أن يصل بالمعنى الذي يريد بعد أن يلبسه اللفظ المناسب يصل به إلى سياقه الخاص به والذي يكسبه ظهورا وبيانا أكثر مستخدما في ذلك عدة أساليب من التنقل بين الضمائر بما يسمى الالتفات كما هو واضح في البيت الثالث والسابع وكذا مايسمى بالتجريد في البيت التاسع والحادي عشر والثاني عشر والقصر والحصر باستخدام الأداة إنما في البيت الرابع أو بتقديم الضمير في البيت الخامس والسادس والثامن .
الصور والأخيلة :
جاءت لوحة الشاعرهذه مزيجا من بعض الصور الخيالية الحية التي اضفت نوعا من الإيهام والخروج عن المألوف من ذلك تخيله لمابين العقل والقلب من احتراب وكذا ماجاء في البيت الخامس من اخراج الآهات في صورة مؤثرة وناطقة عندما جعل لها دويا وصوتا قويا لكن لايسمعه سواه ولك أن تتأمل بقية الصور الرائعة في البيت السادس والسابع والثامن والعاشر والحادي عشر.
العاطفة :
بدت عاطفة الشاعر صادقة تنقل فيها بين مشاعر عدة بدت من الحيرة والتعجب ثم الحزن والبؤس وانقطاع الرجاء والتململ والتضجر ثم التذكر للماضي وتصوير معاناته مع أحلامه وأهدافه في محاولة يائسة منه في تحقيقها ثم بدا للشاعر أنه لابد له من انعاشة وافاقة تخلصه من كل تلك المشاعر السلبية التي اكتنفته وعلى رأسها الشعور بالغربية الذاتية أو النفسية فما كان منه سوى الاستسلام والرضا والقناعة لكل مايشعر به ومايحسه ومايعانية ويتوجع بسببه في هذه الحياة الدنيا
وقد آوى إلى الركن الشديد ركن الله سبحانه وتعالى والصبر على ابتلاه لأن الدنيا هي هكذا طبعت على الكدر والامتحان والابتلاء ومافي ذلك من شيء يعاب .......
ملحوظة يسيرة :
كنت قد قرأت بعض الردود على هذه القصيدة ومنها أن الشاعر لم يوفق في استخدام كلمة غير مناسبة للعصر وهي كلمة ( دمقس )
وقرأت رده على ذلك وأنا هنا أراني الحقيقة متفقة مع تجديد المفردات اللغوية الأصيلة ولكن بما يتناسب مع موضوع النص من جهة وبما يتناسب مع السياق الذي استخدمت فيه الكلمة من حيث الجزالة أو الرقة من جهة أخرى .
والشاعر كان موفق غاية التوفيق في سلاسة أبياته وصوغها بطريقة عفوية غير أن قافيته ( ضراب ) في البيت العاشرقد جاءت وكأنها مجتلبه !
أخيرا أتمنى أن أكون قد وفقت في كشف النص بصورة جلية مع خالص تقديري للشاعر / سلاف
ودائما يبقى النص القيم يستحق الوقوف على شرفاته واستشراف معانيه واستقراء ظلاله .