في الثلث الآخر من الليل بعد أن هجعت الأصوات ، فما تسمع إلا همسات النسمات ، تاقت نفسي واشتاقت إلى بعض آثار الطفولة ، وإرهاصات الكهولة .
فطفقت أصول وأجول ، ومن القلب أقول :
عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
فلما حاذيت دوار العظام ، عنَّ لي شبح في دامس الظلام ، يضطرب وسط الميدان ، فما خطر لي إلا الجان ، ثم إني تعوذت ، ثم ترجلت ، أحبس الأنفاس ، وأخرس المداس ، حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فإذا هو :
رجل غريب مهيب ، سامق الهامة ، أبيض اللحية والعمامة ، أخضر الثياب ، يعبق بالأطياب ، حسن السمت ، طويل الصمت ، ينظر إلى العلم كأنه صنم ، في يده اليمنى حصى ، وفي يده اليسرى عصا .
وما هي إلا لحظات حتى تعالت منه زفرات ، ثم قال :
أمؤمنون وتولون وجوهكم شطر البيت الأبيض الجديد ، وأدباركم شطر البيت الأسود العتيق !
تبا لكم يا أمة المليار ؟! ثم سار وجعل الأعلام على اليسار ، فبدأ بذي النجوم ، وقال : إنك مرجوم ، فرماه ، ورمل للذي يليه ، وهو يرتجز :
الأعلام أصنام والأوطان أوثان
والأحفاد نوام والشيطان يقظان
وهكذا دواليك حتى رجم أعلام الأمم ، ثم استقبل القبلة وصلى .
أما أنا فقد ركبت الظنون ، وهي مطايا الجنون ، فلما نازعني الفضول ـ والإنسان بالطبع عجول ـ قطعت العذاب بسيف الصواب ، فما إن سلم عن يساره إلا وأنا بجواره .
فقلت ـ وما تطفلت ـ : إخالك غريبا ، فكن لي مجبيبا ، نتشرف بلقائك ، ونجتهد في إقرائك ، " وعند الشواء ينكشف الغطاء ".
فرفع حاجبيه ، وحرك شفتيه ، وهز رأسه ، فاسترقت همسه ، فإذا هو : طفل متطفل ، فأنى يعقل ؟!
فقلت : لله درك ! ما أمرك ؟ وما اسمك ورسمك ؟!
فقال : اسمي ناصح بن همام من جهينة ، واسمي رسمي .
فقلت : زدني ، فحديثك يطرب ، وأعرب ، فالمخضرب يعرب .
فقال : والذي رفع السماء بلا عمد ، إن بلدكم هذا أحب بلد ، ولقد جئتكم لأحق الحق بالحجج الساطعة ، والبراهين القاطعة ، والدلائل الناطقة ، والشواهد الصادقة ، ليس لكم خاصة ، بل للمسلمين العامة والخاصة .
فقلت : أفي الكويت متنبي ؟! فتمثل ببيت المتنبي :
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه ، وخطاب من لا يفهم
لقد رأيت في كل البلاد من يطوفون حول هذه الأوتاد ، ويحملونها في كل ناد ، وها أنتم يا أهل الكويت تطوفون بها وتذرون البيت .
فضحكت حتى استلقيت ، ثم قلت : يا أبا همام هذا دوار ينظم المسار .
فقال : فلم جعلتم المسار يسارا ؟ أفتظنني حمارا ؟!
فقلت : حاشا ذا الحجا وهو الضليع بفقه جحا ، ولكن صدق أحمد بن الحسين : أن من البلية اثنين : بليد وعنيد ؟
فقال : أوحقا ما تقول ؟
فقلت : نعم وبالله القسم ، وها هو العلم الأخضر فيه التوحيد مسطر .
فخنقته العبره ، وسجد ليبدي شكره ، ثم رفع رأسه ، وقال :
هذا والله هو الظن ، من عرف الله لا يعبد الوثن .
ثم قال : رحم الله أباك وجدك ، وحباك وأعظم جدك ، ولمن قال : آمين من المسلمين .
ثم أعطاني قفاه ، فما عدت أراه ، فسبحان الله .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
دوار العظام : من أشهر ميادين الكويت ، نصبت فيه أعلام الدول ، واسمه الآن ميدان الأمم المتحدة .
الرسم : العادة والديدن .