أعرض فيما يلي جزءًا من قراءة في كتاب ( نقد العقل العربي ) لمحمد الجابري ، يليها دراسة نقدية للكتاب ، وهي بعنوان ( نقد نقد العقل العربي )
أرجو من الجميع الإدلاء بدلوه في هذا الموضوع لأهميته ( في تصوري )
ولكم جزيل الشكر سلفًا
قراءة في كتاب : نقد العقل العربي
لمحمد عابد الجابري
إعداد : أحمد السيد
بنية العقل العربي
ما هو ( العقل العربي ) ؟؟
يخصص الجابري ثلاثة فصول أولى من كتابه لتحديد ما يقصده بـ( العقل العربي ) ، فهو يستبعد ( العقل الإسلامي ) لأن هناك علماء مسلمين غير عرب لهم نتاج ضخم مكتوب بلغتهم أي من داخل ثقافتهم وعقلهم هم وليس من داخل ( العقل العربي ) الذي تشكل اللغة العربية إحدى أهم أساساته . ويستبعد كتابات المستشرقين عن التراث العربي لأنهم كتبوها وفق مفاهيم وعقل غربي ويصفها بأنها ليست أكثر من "وجهة نظر" غير عربية في الثقافة العربية .
يقصد الجابري بالعقل العربي العقل الذي تشكل داخل الثقافة العربية وبها وطورها وطورته .
العقل هو أداة ذات بنية ( عناصر مركبة ) مثلما الفأس أداة ذات بنية مركبة من خشب وحديد ، ويأخذ العقل أهميته وماهيته من عمله وهو التفكير مثلما الفأس تأخذ أهميتها وماهيتها من عملها وهو القطع .
وكل فأس حتما سبق أن شاركت في صناعتها فأس أخرى وستكون هي عنصرا من ( بنية ) فأس أخرى فكذلك العقل شارك في تكوينه وبنيته عقل سبقه وسيكون هو عنصرا في تكوين عقل لاحق بعده .
فالعقل بهذا المعنى هو مجموعة المفاهيم والتصورات التي تمنحها ثقافة ما لأبنائها في فترة ما وستكون هذه المفاهيم والتصورات تحكم نظرة أبناء الأمة إلى العلم والكون والعالم والله ، وستنتج علوما ومعارف ستكون فيما بعد عنصرا ثابتا في تكوين عقل أجيال لاحقة وهكذا .
العقل يتشكل باستمرار وليس ثابتا . ومن هنا فالجابري بهذا المعنى يريد أن يقول أن العقل العربي يمكن تغييره وتطويره ليستطيع مواصلة دوره ، وهنا أهمية الكتاب .
العقل العربي ذاته يجب أن يتغير .
وحتى نتمكن من تغييره لا بد من الكشف عن أسسه وأصوله منذ أن تكوّن .
فمتى تكون العقل العربي ؟
من العصر الجاهلي أم من ظهور الإسلام أم من العصر الحديث ؟
أين النقطة التي يمكن القول أن عندها بدأ العقل العربي في التكون ؟
يختار الجابري نقطة بداية غير العصر الجاهلي وغير ظهور الإسلام وغير بداية عصر النهضة .
يختار الجابري عصر التدوين ( من منتصف القرن الثاني الهجري إلى منتصف القرن الثالث الهجري ) .
أما لماذا اختار الجابري هذه البداية فسيكون موضع المشاركة القادمة .
" قال الذهبي : في سنة 143 شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريح بمكة ومالك الموطأ بالمدينة والأوزاعي بالشام وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة بالبصرة ومعمر باليمن وسفيان الثوري بالكوفة وصنف ابن اسحاق المغازي وصنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه والرأي .... وكثر تدوين العلم وتبويبه .. وقبل هذا العصر كان الناس يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة " .
يستخلص الجابري من هذا النص ما يلي :
ـ تحديد فترة بدء التدوين بإشراف الدولة وتحريضها ( أيام الخليفة العباسي المنصور ) .
ـ أن عبارة ( تدوين العلم وتبويبه ) تعني أن العلم كان موجودا وعلى العالِم فقط تدوينه وتصنيفه .
ـ تدوين العلم وتبويبه لا يمكن أن يتم بدون حذف وتعديل وتصحيح وتقديم وتأخير ، بمعنى أن التدوين والتبويب صار عملية إعادة الموروث ليكون تراثا ، ليكون إطارا مرجعيا لنظرة العربي إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ .
إن الحذف والتعديل والتصحيح والتقديم والتأخير ليست من العلم الموجود ولكنها من عمليات ( الرأي ) عمليات العقل العربي .
ـ النص يسكت عمدا عن بدء التدوين لدى الشيعة ( كان هناك تسابق بين الشيعة والسنة في تاريخ بدء تدوينهما لعلميهما ) ، وهو سكوت يفسره مرجعية السلطة التي ينتمي لها صاحب النص وهي السلطة التي تجدد الحقل المعرفي الأيدلوجي لأهل السنة كافة
- السكوت عن ( العلم الشيعي ) كان من الشروط الموضوعية التي حددت وأطرت صحة ( العلم السني ) والعكس صحيح كذلك ..
ـ النص يسكت عمدا عن بدء تدوين ( علم الكلام و علوم الأوائل = الفلسفة ) لأنهما لا يدخلان ضمن ( العلم السني ( .
ــ سكت النص عمدا عن التدوين في ( السياسة ) ككتب ابن المقفع وهو معارض سياسي للسلطة السنية التي قتلته فيما بعد .
وينقل الجابري عن علماء الحديث هذه العبارة :
" قولنا حديث صحيح لا يعني أنه صحيح على وجه القطع ، بل يعني أنه صح على شروطنا ، كما أن قولنا حديث غير صحيح لا يعني الجزم بعدم صحته ، فهو قد يكون صحيحا في الواقع ولكنه لم يصح على شروطنا "
وإذا طبقنا هذا على التفسير والفقه واللغة والتاريخ لأن المشتغلين بهذه العلوم اعتمدوا نفس طريقة أهل الحديث المعتمدة على الرواية والإسناد لأمكن القول : " إن الموروث الثقافي العربي الإسلامي الذي تناقلته الأجيال منذ عصر التدوين ليس صحيحا على وجه القطع ، بل هو صحيح فقط على شروط أهل العلم ، الشروط التي وضعها وخضع لها المحدثون والفقهاء والمفسرون والنحاة الذين عاشوا في عصر التدوين ما بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث للهجرة " .
ويؤكد المؤلف أنه لا يقصد وضع التراث العبي الإسلامي موضع الشك ، وإنما يقصد إلى إبراز أن تلك ( الشروط ) لم تكن جزءا من العلم = المرويات ، بل كانت من عمل الرأي ، أي العقل ، عمله الأول . وبما أنها ما زالت سارية إلى اليوم داخل الثقافة العربية ، على الأقل كنقط استناد رئيسية فهي تشكل الإطار أو القسم الرئيسي والأساسي للإطار المرجعي لفكر العربي منذ عصر التدوين إلى اليوم .
ما الذي تغير منذ أكثر من ألف عام ؟؟؟؟
خاتمة القسم الأول من كتاب ( تكوين العقل العربي )
يلخص الجابري نتائج الفصل الأول بالتأكيد على :
العقل العربي : جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها .
الإنسان العربي : الفرد الذي تشكل عقله وترعرع وتقولب داخل الثقافة العربية التي شكلت إطاره المرجعي الرئيسي أو الوحيد .
الثقافة العربية : وهي العقل العربي ذاته ( في إنتاجه وفي ممارسة التعلم والتفكير والتعليم ) إنما تشكلت في عصر التدوين ، وما زالت تعيش نفس العقل ، فالزمن الثقافي العربي راكد منذ عصر التدوين إلى اليوم ، ولذلك فالفرد العربي اليوم لا يجد نفسه ولا يشعر بالاستقرار إلا باستغراقه في ذلك الزمن ولانقطاعه له دون أي شعور بالبعد الزمني أو أي شعور بالغربة رغم طول الفترة .
ولأن القسم الأول من الكتاب كان مخصصا لتحديد ما يقصده الجابري ( بالعقل العربي ) فقد ختمه بعبارة موجزة تلخص كل ما سبق وهي : " العقل العربي هو البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين "
ويعدنا الجابري أنه في الأقسام التالية من الكتاب سيرتفع بتلك العبارة إلى مستوى الحقيقة العلمية عن طريق التحليل الملموس للواقع الملموس . .
وأختم أنا بالتأكيد على أن كل ما تقدم هنا هو لتعريف العقل العربي . أما كيف تكوّن هذا العقل فأسأل الله أن يعينني على عرض بقية أقسام الكتاب .