احتلال
أيقظني الحلم مرتين..
كان حلما غريبا، صندوق أحاول الحصول إليه، المحه من بعيد، أتخيل ثقل كنوزه، كلما اقتربت منه وجدته بعيد المنال، فاشعر باليأس.. فجأة ! وجدته أمامي محطما، وقد تبعثرت محتوياته لم أميز منها سوى صورة جدي
كأنها اقتلعت من غرفة الضيوف ودفنت في هذا الصندوق..دنوت لانتشال الصورة وإذ برجلين يقفان كجرسين منعاني من الإمساك بالصورة وحاولا دفعي نحو بحيرة فتمسكت بمئذنة وأحسست بألم في خصيتيّ لما رأيت عمق البحيرة .
كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا عندما أيقظني الحلم ثانية.فززت من سريري واتجهت نحو المطبخ ،أخرجت عبوة بلاستيكية (كولا) من الحجم العائلي خصصتها أمي لشرب الماء بعد استخدامها وشربت نصفها فانتفخ بطني وبقي حلقي جافا..
اقتحمت غرفة الضيوف أتفحص صورة جدي ..وابتسمت متذكرا أمي تشكو من ردائة الصورة وأنها تخيف الأولاد وكان مخالفا لرأي صديقي الرسام الذي أدهشته الصورة. وقال عنها أن التحميض المائي في ذلك الزمان أعطى جمالية للصورة ومسحة الضباب تذكره بالموناليزيا .. مسحت قطرات العرق من على جبيني ورقبتي وحضنت العبوة ابرد يداي اللتان تتحسسان للحرارة خلال الصيف وقد نصحني الطبيب عندما شكوت من شعوري بحرارة الأطراف صيفا بالماء وفيتامين ب. لأني مصاب بالتهاب أعصاب حسب تشخيصه..وعدت إلى غرفتي..
أخفقت في النوم ، مثلما أخفقت في نزع الحلم وقد شغلني الرجلين وقارنتهما بكل الأشرار الذين اعرفهم فلم اهتدي إليهما. وطغى خاطر أخر اشد رهبة وقلقا من الاول، فجدي يرقد في مقبرة( الشيخ خضر)، التي تطل على حي شعبي سمي باسم الشيخ . كبر الحي خلال عقد من الزمن، وأصبح مركزا لصناعة وتجارة الأحذية في المدنية. فتوسع الحي على حساب المقبرة، التي تقلصت جرّاء هجوم الأحياء على بناء المنازل غير المرخصة فوق المقابر. مما أكد الشائعات التي تقول بان محافظ حلب يفكر في ازالة المقبرة وتنظيم البناء..هذا الخاطر دفعني لزيارة قبر جدي في الصباح..
قبر جدي له ميزة خاصة .، يقع في أعلى منطقة من المقبرة. بجوار ضريح، أو مزار الشيخ خضر .لذا كنت تستطيع رؤيته قبل الوصول إلى المقبرة بمسافة ..وكنت أزوره مرتين كل عام. في العيدين مع والدي. نتحدث فيها عن القبور التي باتت تختفي، وانه علينا شراء قطعة في المقبرة الحديثة شرقي المدنية. وحين العودة اذكّره بنصيحة عمتي بأنه يجب صب الاسمنت فوق القبر لحمايته من السرقة، فيصبح مصانا من الأحياء ومن الحكومة لقربه من المزار حسب قولها..فيعلق والدي ضاحكا بأن الشيخ سيحميه...
أصابني الفزع عندما وصلت المقبرة.لمحت رجلين يقفان قرب قبر جدي، وانقبض قلبي لما رأيت أطولهما يتفحص الشاهد وأخافني الحلم..فأسرعت نحو القبر متجاهلا نصيحة عمتي بعدم الدوس على القبور..وصرخت:
- قف.
توقف الطويل وتطلع فيّ وأنا أدنو منه لاهثا..
- من أنتما؟
كانا نحيفين ، امردين ، غزيرا الشعر، تطلعا ببعضهما واجاب الطويل بعنجهية:
- كما ترى نحاول فتح القبر.
- وهل من حقكما فتح القبور؟
ابتسم القصير وقال كأنه يحدث زميله:
- وهل هذا قبر ؟ انه وكر ..
- انه قبرا جدي..
اقترب الطويل مني وهمس بلهجة تحمل التهديد :
- اسمع أيها الشاب ، المقبرة ليست نظامية..وستزال قريبا ، وقبر جدك سيفتح اليوم أو غدا ..فلا تتعب نفسك.
أدركت عبث محاولاتي، ولم يكن أمامي ألا الصمود..فقلت بإصرار:
- لن اسمح لكم الأرض واسعة.تتسع لأكثر من قبر ..
ضحك الطويل من لهجتي كأني طفل صغير وقال ساخرا:
- انظر جميع القبور المتبقية مصانة بالاسمنت إلا قبر جدك..يكاد يخسف.
وتابع الثاني بسخرية:
- هذا إن كان قبر جدك..
- ماذا تقصد ؟
- الإثبات ؟ثم يمكننا وضع شاهد جدك مع مرحوم ويصبح قبر بشاهدين ...
خرّس الطويل بنظراته القصير وعاتبه:
- المرحوم قطع ألاف الأميال، من أمريكا ونضعه في قبر مشترك..
وبصوت يحمل توسلا سألت:
- ولما هنا؟
أجاب الطويل وقد احس بضعفي:
- مكان مرتفع،وجوار الشيخ حسب وصية المرحوم..
كأني سمعت صوت جدي، استغاثة جدي، قفزت نحو القبر وجلست فوقه قائلا:
- على جثتي
مد الطويل رأسه نحوي دون أن يتحرك:
- اسمع يا ..وقبل أن يكمل التفت نحو أسفل المقبرة لحظة سماعنا ضجيج عربات فخمة وقفت لتوها وترجل منها بضعة رجال يحملون الفؤوس والمعاول فهتف القصير..
- أسرعوا تأخرنا
وضحك الطويل ورفسني فوقعت على رأسي فلم اشعر بشئ...
عندما استيقظت وجدت نفسي على سرير في مشفى وسمعت الممرضة تقول لي:
- حمد لله على سلامتك..
لم يكن يهمني كيف وصلت إلى هنا، كان همي القبر، لذا قلت:
- لقد احتلوا قبر جدي
استطعت تميز الدهشة التي ارتسمت على الممرضة وشممت رائحة شعرها فأحسست بألم في رأسي فتأوهت.ضغطت الممرضة على جرس سمعتُ طقته..فدخل طبيب عرفته من سماعته التي تحيط برقبته واستطعت أن افهم من الحديث الذي دار بينهما قوله:
- انه من تأثير المخدر اخبري أهله بان العملية نجحت وبإمكانهم زيارته ..
تابعت عندها خروج الممرضة متذكرا تصنيف صديقي الرسام للنساء بأنهن قسمان قسم كالتفاح وقسم كالأجاص....
2006