فضائية "الحرة" في ظلّ الهيمنة
بين الجهل بالذات واستغباء الآخر
أن يتصوّر المسؤولون الأمريكيون إمكانية الإقدام بأنفسهم على "غسيل الدماغ" جماعيا بوسيلة إعلامية ناطقة بالعربية، أمر يدلّ على أنّهم يعيشون بفكرهم فعلا على كوكب آخر، وقد سبق أن تولّى المهمّة عنهم كثير من ربائبهم، وما يزالون، ممّن يتحدّثون بلسان عربي عاميّ أو فصيح، وينبض فيهم قلب أمريكي، ويحرّك لسانهم عقل أمريكي.
تحرّك كثيرون من العرب المتغرّبين على مدى عدّة عقود، لنشر ما تريد الولايات المتحدة الأمريكية نشره الآن عن طريق فضائية "الحرّة".. وكانوا في ذلك سواء، أعطوا جميعا أو متفرّقين لما صنعوا عنوان الحداثة، والحداثة منهم براء فما كانت الحصيلة سوى التخلّف فكرا وواقعا، ورفعوا عنوان "عالمية الثقافة"، ولم ينتجوا شيئا مثل إنتاجهم لألوان الانحلال الخلقي والأدبي، ومنهم من تجنّب العناوين المخادعة البرّاقة وأفصح مباشرة عن انتمائه للمدرسة الأمريكية، وبقوا جميعا -بعد عشرات السنين من الجهود المتواصلة- قلّة معزولة، وجودها رهن بسيطرة التغريب بالقوّة المتوارثة، على صناعة القرار غصبا، وفق المدرسة الأمريكية، فهم بذلك –فقط- قلّة قادرة على رفع صوتها أكثر من سواها، نتيجة تغييب سواها استبدادا واستئصالا وحصارا وتشريدا، ولكنّهم فئة لم تستطع قطّ أن تتحوّل إلى حركة جماهيرية، فحتّى التيار الشعبي العريض الذي سار لفترة من الزمن مع العلمانية المستوردة حيثما سارت، كان يتحرّك تحت الوهج القومي، وليس الانتماء القومي شرّا محضا ما دام لا يوظّف لأغراض التعصّب أو العدوان، ولكن لم تتحرّ: الجماهير تحت وهج التغريب، وهذا ممّا جعل في هذه الأثناء القوميين المخلصين لمبدئهم هم أنفسهم يعملون على تصحيح المسار القديم.
وهم كبير
المشكلة فيما سمّي "فضائية الحرّة" بعد إذاعة "سوا" هو الوهم الذي تصنعه مظاهر معيّنة عن التجاوب مع ما تقدّمه تلك المشاريع الإعلامية الأمريكية، وهي مظاهر مبالغ في تصويرها عبر شاشات التلفزة، جنبا إلى جنب مع إهمال كبير متعمّد للتجاوب الأكبر مع سواها.. ولا يمكن أن تجد المشاريع الأمريكية المباشرة تجاوبا آخر يختلف عمّا وجدته عشرات المشاريع المماثلة، العربية العنوان الأمريكية المضمون، وللتجاوب المقصود هنا سبب بسيط، يكمن في أنّ الشعوب المحرومة حتى الآن من حقوقها وحرياتها الأساسية في ميدان التعبير وسواه، فلا غرابة أن يبحث فريق منها–وهذا أمر طبيعي اجتماعيا- عمّا يلهو به، فالجهود النافعة في الميادين العلمية والتقنية والثقافية الحضارية والفنية الراقية، محظورة أو شبه محظورة عن الغالبية العظمى، وكلّ ما يمكن أن يحقّق اللهو –لا سيّما اللهو غير البريء- مسموح ومدعوم على أوسع نطاق، وما دام الخطر "الأمني" قائما على من يرتكب المحظورات، أو ما دام الفساد حائلا دون توظيف الكفاءات على المستوى المناسب لتحقيق أهداف جليلة، فلا يبقى أمام –من يريد- سوى "اللهو"، فإن أقبل فريق على ذلك تخفيفا عن نفسه من وطأة المعيشة، في ظلّ البطالة والحرمان والقهر "الأمني".. صوّره القائمون على صناعة اللهو وكأنّهم أمام تجاوب "جماهيري" واسع النطاق، ولا ينفي ذلك وجود من تزلّ به القدم في ظلّ عملية "غسيل الدماغ" الجماعية هذه!..
ادّعاء غريب.. فلم يخضع التجاوب الجماهيري المزعوم يوما لدراسة منهجية، ولا توفّرت يوما إمكانات متعدّدة للخيار أمام الجماهير –باستثناء القليل النادر قديما وحديثا- ليمكن القول إنّها "تختار" التجاوب مع ما يصنعون!..
الجديد في فضائية "الحرة" أنّها تريد أن تضيف إلى اللهو، وبعض المواضيع الجانبية التي لا تمسّ صلب مشاكل أمّتنا وبلادنا، جرعة كبيرة من عنصر الخبر والتحليل السياسي، ولا شكّ أنّ هذا الأسلوب يمكن أن ينطوي –للوهلة الأولى- على احتمال أن يصنع تجاوبا حقيقيا، ولكن مع ماذا سيكون التجاوب.. إن حصل فعلا؟..
هل ستتجاوب جماهير المشاهدين مع سياسات الهيمنة الأمريكية دوليا أو إقليميا أو قطريا؟..
هل ستتجاوب مع السيطرة على ثرواتنا داخل بلادنا، النفطية منها وغير النفطية، وعلى صناعة القرار في أجهزة حكمنا، ونشر فروع المخابرات الأمريكية داخل مدننا ومؤسساتنا؟..
هل ستنقلب الجماهير إلى الترحيب باحتلال العراق، واغتصاب فلسطين، وحرمان بلاد المسلمين من سلاح رادع تجاه خطر خارجي، واستجابة حكوماتها لكلّ مطلب أمريكي كبير وصغير، بدءا بقضايا التسلّح مرورا بالمنهج المدرسي وانتهاء بمسلسل تليفزيوني؟..
هل يمكن أن ينجح الأسلوب المباشر لتزويق وجه الهيمنة الأمريكية، فيما لم ينجح في تحقيقه الأسلوب غير المباشر، وهو ما يتناقض مع أبسط القواعد الإعلامية؟..
وإذا صحّ ما يستحيل أن يصحّ، ونشرت الفضائية الأمريكية روح "الديمقراطية" على الطريقة الغربية كما يزعمون.. فهل يتصوّر المروّجون لهذا الزعم أن يسفر أيّ تصويت حرّ نزيه خال من الضغوط ومن التزوير، في ظروفه ومعطياته وشروطه وتكافؤ الفرص فيه ونتائجه.. أن يسفر عن اختيار شعب من الشعوب، لا الشعوب العربية والإسلامية فقط، بإرادته "منهج الخضوع" للسياسات الأمريكية، أم ستسفر "انتخابات واستفتاءات ديمقراطية" وفق القواعد الغربية نفسها، عن رفض كلّ صورة من صور الخضوع؟!..
أسلوب عتيق
إنّ مشروع الفضائية الأمريكية الجديدة، التي لا يمكن أن يختلف محتواها كثيرا –للأسف- عن محتويات عشرات الفضائيات العربية التمويل، لا يمثّل خطوة "ذكية" لإيجاد "تفهّم" جماهيري لما تصنعه الولايات المتحدة الأمريكية في بلادنا بحقّ المسلمين وغير المسلمين على السواء، وفي عالمنا بحقّ البشرية كافّة، إنّما يمثّل هذا المشروع صورة أخرى من صور التعبير عن أنّ صانعي القرار الأمريكيين، لا يريدون أن يدركوا أنّ كلّ قطرة دم تُراق بسبب الاستبداد الأمريكي العالمي والمحلي، تترك لدى الجماهير مفعولا يستحيل على الفضائيات جميعا أن تزيل أثره أو تصنع نقيضه، وأنّ كلّ آهة من آهات المحرومين والجائعين ومن فقدوا ذويهم نتيجة بطش الأسلحة الأمريكية والسياسات الأمريكية توقظ وجدان أيّ إنسان عادي سويّ، بصورة تتحوّل معها الفضائية الكبرى وسائر ما تصنع إلى "عبث أطفال".
فضائية "الحرّة" هذه تنطبق عليها أكثر من سواها، قاعدة أنّ ما ينفقونه سينقلب حسرة عليهم. فالمشكلة لا تكمن في "كيفية" التسويق الإعلامي للممارسات الأمريكية، ويبدو أنّ هذا بالذات هو ما يحسب صانعو فضائية "الحرة" أنّ سواهم أخفق في تحقيقه، فهم يصنعون ذلك بأنفسهم الآن، إنّما تكمن المشكلة في تلك الممارسات نفسها، في العدوان المتمثّل في تحرّك آلة الحرب الأمريكية أكثر من مائة وخمسين مرة منذ الحرب العالمية الثانية، لتنشر الهيمنة الأمريكية.. وفي الاستغلال المتمثّل بسياسات القهر المالي والاقتصادي على مستوى عالمي نشر من مآسي المجاعات ما يكفي للتخفيف منه وحتى إزلته عُشر معشار ما تنفقه الولايات المتحدة الأمريكية على تسلّحها.. ناهيك عن في الأسلوب الأمريكي المتعجرف الذي يريد أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية فقط خارج نطاق القانون الدولي والمحاسبة، وأن تحاسب هي –لا القانون الدولي- من تشاء متى تشاء!.
آن الأوان أن يدرك العقلاء من الأمريكيين، أنّ "أفلام هوليوود" لم تعد كافية لنشر صور مضلّلة عن الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت هي وسكانها أنفسهم ضحيّة إخضاع صناعة القرار فيها لمصالح فئات متنفذة، تحكم بما يحقّق مطامعها الخاصة، لا مصلحة عموم الأمريكيين، ناهيك عن مصلحة البشرية. وإذا تطوّرت أساليب "أفلام هوليوود" لتصبح في مستوى "فضائية" إعلامية، فإن "العقل البشري" الذي لم يعد يأبه بشعارات جوفاء من قبيل "طريقة الحياة الأمريكية" أقدر على رؤية الزيف في الفضائيات أيضا.
وما كانت "الحريّة" يوما صناعة أمريكية يحتاج إليها الآخرون، وتقدّمها فضائية أمريكية، بل الحرية هي الحقّ الأصيل المولود مع الإنسان بولادته، المتمسّك به بفطرته، والحريّة هي الضحية الأولى للسياسات الامبرطوريّة الأمريكية الحديثة، ولو كانت الفضائية الجديدة صادقة نزيهة، فإنّ عليها أن تكشف أوّل ما تكشف، الجرائم الأمريكية في حقّ الحرية الإنسانية، من عهد الهنود الحمر، إلى ضحايا هيروشيما وناجازاكي، وحتى فلسطين وأفغانستان والعراق، وفي حقّ الإنسان وكرامته وأبسط مقوّمات معيشة، في قطاعات من الشعب الأمريكي نفسه، وفي قارات بأكملها، كما في أمريكا الجنوبية وإفريقية، وجميع ذلك ممّا ساهمت السياسات الأمريكية فيه إسهاما مباشرا وكبيرا، فكانت على الدوام مصنعا للمآسي البشرية.. وليس للحريّة.