المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد الحامدي
بين "شعرية " الشعر و " قرائية " القراءة
منذ زمن غير قصير والمهتمون بأمر الشعر يحتارون أو يختلفون أو يجتهدون في وضع تعريف جامع شاف للشعر . لست هنا في معرض الإحصاء والاستعراض ، ولكن يكفي في نظري أن أذكر بما جاء في تعريف الشعر عند الأصمعي والآمدي والثعالبي والمعري ....... كلهم تقريبا اتفقوا على ضرورة الوزن والتخييل ... ويجب أن ننتظر ظهور المدارس النقدية الحديثة حتى تعرف لنا الشعر بأنه درجة من الكتابة هي فوق الكلام العادي ، أو بعد الدرجة الصفر للكتابة . ولعل أنجح تنظير في ذلك ما جاء عند الإنشائيين والبنيويين أمثال تودوروف وبارط . وقد حاول " أدونيس" في شعريته أن يلم بهذه الظاهرة الإبداعية ولعه في بعض ما قال لاذ بالإبهام أكثر مما أبان وأوضح .
لا أريد هنا أن أبحث في " الشعرية " وما به يكون القول شعرا ، بل غاية الغاية في هذه السطور أن أبحث في " قرائية " القراءة وما به يكون القول " قراءة " . فإذا كنا نريد للشعر " شعرية " حتى نسميه شعرا فالأجدر بنا أن نضع ضوابط لـ " القراءة " حتى تكون " قراءة " .
فمنذ زمن غير قصير وقع إعادة تعريف النقد على أنه قراءة ولكن هذه القراءة – في نظري – يجب أن تتسلح بجملة من الضوابط والمهارات وإن لم تفعل فقد تنحدر إلى ما دون النقد من أحكام " تذوقية " انطباعية اعطباطية لا تنفع " الشعر " بل تضر القراءة وتضر الأدب عموما وتعيدنا إلى البحث في قدرات الشاعر لا في قدرات نصه ... وتلك كارثة إذ تحيل القراءة إلى محاكمة وتخرجها عن طورها وهدفها الأساسي .
1 - من أولى شروط القراءة أن يكون هدفها قراءة النص لا قراءة صاحبه والبحث عن درجات جمالية الكيان الأدبي وبراعته و إمكاناته الدلالية ، لا البحث عن جمال قائله وبراعته وقدراته ومن هنا يجب أن تكون القراءة واعية بالمبحوث عنه في النص وهو الجمالية لا الجمال والفرق بينهما واضح كما يعلم فلا جمال في رسم صورة قبيحة والإبداع في رسمها مثلا ولكن في ذلك جمالية يتقنها الهجاؤون مثلا ...
2 – امتلاك أدوات الحفر في النص الإبداعي بحيث توصل هذه الأدوات القارئ إلى خيوط هذه الجمالية . ومن هنا كان الوعي بالهدف – البحث في الجمالية – ضروريا جدا فالسير على غير منهج والتراوح بين أهداف معلنة أو مخفية يضر بالقراءة كما يضر بالمقروء . وانظر في ذلك عيوب قراءة تراثنا مثلا إذ سعى كل ذي غاية للبحث فيه عن غايته فأنطقه بما يريد لا بما قال ومن ثمة تم تغييب أجزاء كاملة من التراث مازلنا نجهلها والسبب هو عجز القراءة عن تحقيق أهدافها لقصور في أدواتها . ما أسهل البحث عن الأخطاء وتوهم " الشطارة " في إظهارها و ما أصعب البحث عن الجمالية وإظهار نسجها لغة ووزنا ونحوا وصورا ... إن قصور القراءة أو فلول الأدوات وعدم سنّها وحدّها توقع القارئ في وهم المحاكمة وتبعده كثيرا عن إدراك جمالية النص ، لذلك فقارئ الشعر ليس مدعيا عاما يبحث عن السقطات فيقيس المقروء على توقعاته أو على ما يريد هو وتطيب به نفسه ، بل قارئ الشعر باحث عن الجمال كما يراه في النص وكما يوجد في ثنايا الأثر الأدبي . والحق أنه لن يجد في النص ما يريد بل سيجد ما هو موجود فيه
3 – النص الأدبي ولا سيما الشعري نص مكتمل بذاته ، ومعنى الاكتمال هو الحرية ، حرية الصياغة وحرية الشعور وحرية الفكرة . ولعل تربيتنا النفسية على العيش تحت ضغط القيود وغياب الحرية هو ما يجعلنا لا نتعامل مع النص الشعري على أنه نص حر ، كائن مستقل عن كل ما نريد نحن . بل إننا كثيرا ما نلجأ إلى قيود اللغة والعروض في محاكمة الشعر ، وحتى الذين أرادوا التجديد في الشعر قوبلوا ويقابلون بعجز القراءة عن " هضم" تحررهم وتمردهم وانعتاقهم من الثوابت الرواسخ لأنهم بذلك يفلتون من سيوف الضوابط الجاهزة وتوقعات القراءة المعدة سلفا ... إذن على القراءة ألاّ تتوقع سلفا ما تريد ، بل عليها أن تدخل النص لبحث فيما يوجد فيه باحترام لحريته واستقلاليته ...
3 – مازلنا نلح على أن الشعر شرف لصاحبه ، فلمَ لا نمقرّ بأن القراءة شرف للقارئ .؟ أقصد لماذا نجعل القراءة رهينة البحث عن الضوابط ؟ في " فلسفة الأدب " يتراجع " رولان بارط " عن علمنة الأدب تراجعا واضحا . فكأن علمنة الأدب في نظري محاكمة طفل صغير على حبه لألعابه . والطفل حينما يلعب يشغل خياله بنسبة مائة بالمائة . والأدب حينما ينتج وتشتغل محركاته يشتغل التخييل بالنسبة تفسها . إذن والحال كذلك هل يمكن علمنة الشعر وقول إن هذه اللفظة كان يجب أن تكون كذا بدل كذا . الأسلم في نظري أن نبحث في مدلول اللفظة في موضعها وأن نجتهد ونجهد أدواتنا في ذلك . حتى الذين أرادوا أن يقولبوا الأوزان الشعرية فوضعوا البحور الطويلة للأغراض الجادة والبحور السريعة للأغراض غير الجادة سرعان ما تراجعوا أمام قصيدة بحرها طويل وغرضها هزلي .... أقصد هنا الأجدى والأكثر نفعا في نظري أن نجهد النفس في البحث عن مردود الكلمة في موضعها من القصيدة بالرغم من أنّ الأسهل أن نقترح كلمة أخرى تكون دلالتها جاهزة عندنا ومعدة سلفا وتناسب ذوق القارئ وتوجهاته وربما حتى درجة فهمة . إن الهروب من البحث عن جمالية القصيدة أو جزء منها هو في الحقيقة هروب من فهم النص وعرض فهم الذات ، وبذلك نشد إلى وثاق القصيد إلى قصور أفهامنا ونعتدي على حريته .
5 – الشعر – النص الشعري – كيان جمالي ، لذلك يجب أن يتحلى القول فيه بدرجة من الجمالية . فمن شروط القراءة أو من خصائص قرائية القراءة جماليتها . لا يكفي أن تقول في شعر تقرأ جماليته قولا يظهر هذه الجمالية بل يجب أن تفعل ذلك بجمالية . إن الجمال هالة غير متفق حول بدايتها ونهايتها وما بينهما ، وهذا صحيح ن ولكن الجمالية لها شروط وخصائص إذا عدنا إلى الزخم النقدي والقرائي الذي اكتسبته من عصور من الفعل وردة الفعل نجد لها بعض الضوابط . منها ما ذكرتُ آنفا ومنها ما لا تتسع هذه السطور القصار له .
بقي أن أذكر بأن من يشترط للشعر شعرية يجب عليه أن يكون منصفا فيشترط للقراءة قرائية .
دمتم بخير ..........
أخي الفاضل والأديب القدير / محمد الحامدي
لقد قرأت هنا مايسد الرمق بعد عطش شديد لمثل هذا الكلام المنصف بحق الإبداع وبحق القراءة الحقة للإبداع ,,,
اما الشعر فمازال عندي هو إيقاع وموسيقى وشاعرية وعاطفة وسليقة وعفوية وصور ولغة وتلاحم سواء أكان عموديا أم تفعيليا ( حرا )
إنما مايسمى بالشعر المنثور أو النثر المشعور أو قصيدة النثر فظني أنها غير داخلة في معنى الشعر وإلا اعتبرنا مؤلفات المنفلوطي وسيد قطب والرافعي وكبار كتاب النثر هي قصائد ..
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الضوابط تختلط عندئذ والخصوصية تفتقد بين جنسي الأدب إذ لكل فن خصوصية وتفرد فالشعر له ضوابطه وأصوله والنثر كذلك والجامع بينهما هو اعطاء كل فن حقه من الإبداع والتفنن في الآداء بحيث أنك عندما تقرأ القصيد من الشعر تقول عنه هذا هو الشعر الفاخر حقا .. وفي المقابل عندما تقرأ النثر تقول هذا هو النثر الفاخر حقا ..
وذكرني قولك : ((حتى الذين أرادوا أن يقولبوا الأوزان الشعرية فوضعوا البحور الطويلة للأغراض الجادة والبحور السريعة للأغراض غير الجادة سرعان ما تراجعوا أمام قصيدة بحرها طويل وغرضها هزلي ...)) بإدراج لي أسميته المثل العربي هل هو من الثوابت ؟
حيث إن كلام القدماء حول فنون الأدب المختلفة ليس بالضرورة أن يكون حاملا للمصداقية والموضوعية في كل أحواله فنصوصهم وأقوالهم ليست مقدسة بل هي قابلة لإعادة النظر فيها وبالتالي هي قابلة أيضا للتغيير والتبديل ..
أما فيما يتعلق بالمدلولات اللغوية فعلى الناقد والكاتب على حد سواء أن يلم ببعض المصادر التي تتعلق بالفروق اللغوية بين المفردات وبجديدها وبيان مدلولاتها إلى جانب حدسه وذوقه ومنها :
الفروق اللغوية للعسكري - الأشباه والنظائر - الإتقان - معجم بقية الأشياء - فقه اللغة - الصاحبي - وغيرها من المؤلفات المتعلقة باللغة فضلا عن القواميس والمعاجم على اختلاف ضروبها ومناهجها .
وأختم ردي هذا باتفاقي معك في كل ماذهبت إليه خاصة تلك المقولة التي ختمت بها نصك وهي :
((بقي أن أذكر بأن من يشترط للشعر شعرية يجب عليه أن يكون منصفا فيشترط للقراءة قرائية))
ولعلنا ننتظر منك مفهوما للقرائية مقننا بضوابط ( مطاطية ) قابلة للمط والزيادة أو التعديل والتبديل والأخذ والرد
إنما أحب أن أضيف أن الناقد إلم يملك سلامة الطبع وموهبة النقد ودقة الحس ورفاهية الذوق فإن الأدوات النقدية قد لاتسعفه في أغلب الأحوال ..
وأحب أن أضيف كذلك أنه ليست كل النصوص تحتاج إلى إظهار جمالياتها لأن بعضها يندرج تحت أحد النوعين الأتيين :
* أما الخلو من الجمال ويكون مجرد نظم لا اكثر مع الاحتفاظ بسمو الفكرة .
أو * امتلاؤه بالغث التافه البارد من الصور والمعاني فيحتاج الناقد معه إلى نفضه وتخليصه من هذه السموم الكتابية المنحرفة عن معنى الإبداع المؤثر والمسيطر.
أخيرا
لقد سعدت الحقيقة جدا بقراءة هذا المقال القيم جدا
تقبل أخي الكريم الفاضل جل تقديري واحترامي
وتحيتي لك صادقة خالصة