يكاد يقع الاجماع من علماء التفسير والبلاغة أن في الآية إطنابا ، وقد ذكر كثير منهم أن الغرض منه التلذذ بالخطاب ... ، بل إن سعد الدين التفتازاني - رحمه الله - ذكر في المطول أن في ذكر المسند إليه - وهو في الآية الكريمة الضمير ( هي ) - " استلذاذ وبسطا للكلام ، ولهذا يطال الكلام مع الأحباء ... وهذا القول من السعد يجعلني أمعن النظر ، وأعمل الفكر فيما عنَّ لي عند قراءتي للآية ، ونحن إذا نظرنا إلى السياق :
( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ... ).
مما لا شك فيه أن موسى - عليه السلام - فجئ ، وفجئ بماذا ؟ بالإله يناديه ويكلمه ، وهذا لعمر الله موقف جليل ذو مهابة ، وموسى - عليه السلام - من البشر ، وكثيرا ما اعتراه الخوف الجبلي الذي يعترى البشر ، وفي آيات سورة طه ما يؤكد صحة ما ذهبت إليه ( قال خذها ولا تخف ) / 21 ، ( قالا ربنا إننا نخاف ) / 45 ( قال لا تخافا ... ) 46 ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) 67 ، وهذا التكرار لخوف موسى في هذه السورة حري بالدراسة كما أن هناك مواضع أخرى في غير سورة طه تشير إلى خوف موسى - عليه السلام ( فخرج منها خائفا يترقب ) وهذا الخوف الجبلي لا يعيب الأنبياء لأنهم بشر يقول العلامة السعدي رحمه الله - عن خوف موسى عندما ألقى السحرة عصيهم " كما هو مقتضى الطبيعة البشرية ، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره ". وعليه ، فإن توجيه الإطناب من موسى بأنه تلذذ في الخطاب وانبساط من موسى ليس بالوجيه - والله أعلم ؛ لأنه لا يتواءم مع طبيعة النفس البشرية كيف وهما - أي موسى وهارون يقولان لرب العزة حين أمرهما بالذهاب إلى فرعون : ( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى )45 فكيف يكون حال موسى عندما فجئ بنداء رب العزة له ! هذا ما عنَّ لي ، ومن ثمَّ أرى أن الأعلى - والله أعلم - أن يقال :
إن موسى توجس خيفة من الاستفهام ، وهو استفهام ليس الغرض منه طلب الفهم ، وإنما المؤانسة ، و التقرير ، والتنبيه والإيقاض ،وهو ما أشار إليه الزمخشري ، وأبو السعود ، وأما المؤانسة ، فلم أر من أشار إليها - فيما وقفت عليه - وهي دالة على رحمة الله بعباده ، وعلمه بما توسوس به نفوسهم ، فموسى عبد من عباد الله كلمه الله تكليما ، وهذا كما تقدم موقف جليل عظيم ذو مهابة ، ونحن نعلم ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال له جبريل - عليه السلام - : " اقرأ " . فكيف بموسى ! وهو الذي كان يسير ليلا يلتمس قبسا ، والمعلوم من البلاغة ضرورة أن حال المتكلم ، والمخاطب لهما الأثر الرئيس في الكلام يقول الإمام عبد القاهر - رحمه الله - : أن الألفاظ تقع مرتبة على المعاني المترتبة في النفس المنتظمة فيها على قضية العقل " وهذا الكلام من الإمام من أجل وأنفع ما تجده في كتب البلاغة والنقد ، نعم ؛ لأنه يفتح لك الباب على مصراعيه لتلج قلب المتكلم وعقله ، ونحن إذا نظرنا إلى تركيب الآية الكريمة نجد ( هي عصاي ) وكان مقتضى الظاهر أن يحذف المسند إليه ( هي ) لأنه معلوم ، ولكن الذكر فيه توكيد ، وهذا يعضد ما ذهبتُ إليه من أن موسى كأنه استشعر أن في العصا أمرا ربما يسبب له عقوبة ، فأكد ، وبعض العلماء يرى أن من طرق القصر تعريف الطرفين ( هي ) ( عصاي ) بالإضافة ، وهذه الإضافة لها قيمة رفيعة في بناء الجملة ؛ لأنها تتضمن نفي كل ما هو خلاف كونها عصاه هو ، ثم إنه - عليه السلام - عدد استعمالاته لها ، وكل ما ذكر مما لا ليس فيه تبعة عليه ، وهذا يتسق غاية الاتساق مع حال موسى ، وفي توجيه الاستفهام رحمة من الله بعبده الصالح ، فهذا الكلام من شأنه أن يهدئ من روع موسى ، ويعيده إلى شيء محسوس بيمينه طالما صحبه ، ومن ثمَّ يهيئه لتلقي الخطاب الإلهي ورؤية المعجزة الكبرى ، وهذا لا يصطدم مع ما ذكرتُ ، وإنما هو معه في وفاق ، وقد وجدت في الآية الكريمة بعد ذلك حذفا عجبا ، وهو في قوله تعالى : ( قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) ) ( لا تخف ) بحذف المعمول ، نعم الذهن ينصرف مباشرة إلى أن تقدير الحذف : لا تخف منها ، ولكنه لا يأبى أن يكون المعمول عاما لكل خوف ، ومنه خوف موسى لهيبة الموقف ، وهو ما لمحته من كلام الزمخشري الذي تكرم بنقله الأخ الكريم د. عمر :
" وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته " ثم في قوله - أيضا - في تفسيره للإجمال بعد الإطناب ( ولي فيها مآرب أخرى ) :
" وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه وقالوا: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل " ، فالقول الأول ليس بالأعلى عندي .
والله أعلم .