بندول ضخم , يطرق أبواب الزمن بثوانيه المتوالية في رتابة ...
وثبات بلا كلل ... يظل يدق ..
تك ... تك ... تك ..
يغدو يمنة ويعود يسرة .. تك ... تك ... تك ..
نحاسه الصلب يجول بجوف الساعة الخشبية العتيقة , ويظل يدق بجانبيها
كأنما يطلب حرية من سجنه الأبدي هذا ...
لكنه يظل مع هذا يمضي في رحلته ...
تك ... تك ... تك .....
العجيب أنه أضحي جزءاً من مسميات الحياة حولها ..
ليست ساعته الأثرية , ذات الميناء العاجي والتي لا تذكر إلى عهد أي خديوي تعود .. ولكن فقط البندول !! ....
فلم تعد تميز وقتها من رقصات عقارب الساعة على حلبة الزمن , وإنما من شكل بندولها ....
من انعكاس خيوط الشمس عليه , أو أضواء المساء ...
تك ... تك ... تك ......
منذ أن استيقظت وهي تجلس تتابعه ...
لا تدري لماذا , ولكنها تفعل !!! ...
نهضت بعد الضحى بساعات , وتطلعت إلى البندول فزعة !!!! ...
هل أمسينا بعد ؟! ...
حمداً لله ... لم نفعل ..
لم إذن يبدو الكون ضبابياً هكذا ؟!! ...
للمرة الأولي يخدعها البندول في حكي الوقت ....
يبدو أن اليوم قاتماً فقط .... لأنه اليوم ..
شعرت بحنان أنامله على بشرتها , واكتشفت أنها تغفو ...
لم إذن تري استدارة البندول أمام ناظريها وتشعر ببصرها يتابعه ؟!! ..
تك ... تك ... تك ....
يا الله ...
متى ينتهي هذا الكابوس ؟! ...
نعم , بالتأكيد هو كابوس ...
مجرد أوهام ...
هي لا زالت غافية ربما ...
لم يحن يوم رحيله بعد .. لا , ليس بهذه السرعة ..
لكن ...
هل عاد حقاً ليرحل من جديد ؟!! ...
هل شعرت بحنان قربه , ودفء وجوده بما يكفي لتحمل برودة الليالي وحيدة !! ...
لا ... لم يحن يوم الرحيل .....
لم يحن ...
هي مؤكد لا تزال غافية ...
فها هي لمسته الحانية تعود لتأكد لها أنها لم تزل في وهم النوم الجميل ...
بالتأكيد جميل ورائع ...
أي شيء من الروعة ما كان إذا كان هو هنا حقاً بجوارها ولن يرحل...
فتحت عينيها مبتسمة له وواجهتها بسمته وهمسته لها :
( نمتي ؟! ... )
وتقطر ابتسامتها بسعادة رؤيته :
( الظاهر كدة يا حبيبي ... )
يمس جبينها بشفتيه , فتغمض عينيها مرة أخري
وهي تطرب بلحن بندولها العزيز ...
تك ... تك ... تك ....
يبدو وأنها كانت تتوهم من البداية أيضاً ...
ولا رحيل ... أو سفر ...
لا غربة أو وحدة ...
في ليال عديدة باردة ...
يا الله ... كم هو وهم حميد ..
الآن لا يهم ..
طالما هي بين يديه , فلا شيء يهم ...
نعم ... هو لم يرحل من الأساس ليعد ويذهب اليوم من جديد ..
وإذن , فلن يرحل مجدداً لأنه لم يرحل أولاً ..
نعم ...
حتى أنه سيأتي الآن ليخبرها أنه ذاهب للخارج مع صديق ويوصيها أن تتناول عشائها مع الأولاد ولا تنتظره ...
وصحيح أن النهار ولى , وساعات الليل موحشة بدونه ...
لكنها سوف تبتسم له وتسوي رابطة عنقه وتخبره أن يذهب كما يشاء وسوف تنتظره هي كما تشاء ...
( أنا خلصت تحضير الشنطة ... ) ..
لا ... ما هذا ؟!!!
كيف ؟!! ... لم تعد تفهم !! ...
ليست تلك هي الجملة التي تنتظرها ؟! ...
لا ...
تك ... تك ... تك ....
اخترقت استدارته النحاسية مقلتيها وأذرع عقاربه المتوحشة تلتهم الثواني المسكينة , وظهرت أمام عينيها فجأة الحقيقة ...
من كانت تخدع ؟! ..
أو من كان يخدعها !!! ...
هو ذاهب إذن !! ..
يوم الرحيل حقاً ...
تأمين الحياة , ..
مستقبل الأبناء والمعيشة الأفضل ...
كلها مسميات ظلت تتراص أمام عينيها وتتطاير بين جنبات الساعة الخشبية العجوز .. وتدور في فلك البندول النحاسي الضخم ...
تك ... تك ... تك ....
هي بين يديه حقاً , وجاء يخبرها أنه ذاهب الآن ...
لكن ليس للخارج مع صديق ...
بل إلى بعيد , خلف الحدود ...
وهي ستظل هنا ترقب البندول الضخم , وربما يرقبها هو ...
يرقبها وحيدة ...
دون ملامحه الناعسة على وسادتها ...
دون فنجان قهوته الفارغ الذي يجالس فنجانها ...
وأيضاً دون لهفتها في انتظار عودته ..
سيرقبها البندول , ..
على وسادتها الموحشة ...
ومع فنجان قهوتها اليتيم ...
ودقات العاشرة ,
وحيــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــدة ....
يصمت الكون فجأة ..
تك ... تك ... تك
وتكاد تسكن رقصات عقارب الساعة , فقد أضحت واهنة ضعيفة ..
تك ... تك ... تك ..
العشر دقات تقترب من الكمال ..
تك ...
والسكون يطبق أكثر ...
تك ...
وبقي مؤنسها الوحيد بلمعانه الباهت يذهب يمنة ويسرة ,
تك ... تك ..
بعد أن حان الرحيل .
***************** 19 / 5 / 2007
القبس الكويتية في 9/9/2007
http://www.alqabas.com.kw/Final/News...ticleID=312151