ذاتَ نهارٍ حالكٍ عرضَ لي – بعدَ تناولِ جوعي – أنْ أتنزهَ في مزبلةٍ عربيةٍ قريبةٍ منْ داري، ارتديتُ عريِيَ وخرجتُ أتحسسُ طريقي في عتمةِ الشمسْ، تتلعثمُ قدماي تارةً، وتارةً أنكفئُ، وثالثةً أصطدمُ بشيءٍ ما.
شرعتُ أتحسسُ هذا الشيءَ فإذا هو إنسانْ، نعمْ، صدرٌ ويدانِ ورأسٌ يشهدونَ أنّهُ إنسانْ – دعكَ منْ أنّها قدْ تكونُ شهادةَ زورٍ لكنْ على كلٍّ سأتصرفُ بحسنِ نيةٍ إلى أنْ يثبتَ العكسْ.
وأخذتُ أتفقدُ ملامحَ وجههِ بأصابعي فإذا هو ...، ياللهولِ إنّهُ ...، إنّهُ ...، إنّهُ أنا، نعمْ ...، هوَ أنا.
سلمتُ عليَّ والتزمتني وقلتُ لي "ما الذي أتى بي إلى هنا؟"، فأجبتُ صمتاً، فأردفتُ على الفورِ "لا يَهُمْ ...، لا يَهُمْ ...، المهمُ أنّني سعيدٌ لأنني التقيتُني".
فقلتُ لي بصوتٍ أجشَّ:
"بينَ الشَّكِ وبينَ اليقينِ خيطٌ، لو أنّهمُ اغتالوني واقفا عليه كنتُ أغفرُ لهمْ ... لكنّهمْ ... اغتالوني في عرضِ اليقينْ"
"لا تناقشْ، لا تجادلْ، أنتِ يا مجهولُ جاهلْ، فاصدعْ بما تؤمرْ منْ لدنْ وحلِ المزابلْ"
"حينَ لا تملكُ إلا الصمتْ ... اصرخْ ... ذلكَ أزكى لكْ"
"إنَّ السلطانَ اشترى منَ الناسِ أنفسهمْ وأموالهمْ وأعراضهمْ بأنَّ لهمْ جنّاتِ عدنٍ لنْ يدخلوها، أُعِدَّ لهمْ فيها خبزٌ دونَ زادْ، ومنامٌ منْ سهادْ، وبكاءٌ دونَ حدْ"
"حينما تبيعُ أمّكَ الثّكلى، وزوجتٌكَ المترملةُ، وأبناؤكَ الأيتامُ جثتكَ بكسرةِ خبزٍ عفنةٍ، وشربةِ ماءٍ آسنٍ فلا تجزعْ، وتعلمْ ... أنْ لا تتركَ خلفكَ جثةً في المرةِ القادمةْ"
"دماؤكَ التي سقيتَ بها الثّرى وكنتِ تَحْسِبُ أنّها سَتُنْبِتُ أشجارَ كبرياءْ ... أنبتتْ فقاعاتِ هواءْ، لأنّهُ لدى الرملِ أوامرٌ أنْ ينبتَ كلًَّ شيءٍ عدا الإباءْ ... والكبرياءْ"
"بلادُ العربِ أحجيةٌ ولغزْ، إنْ أنتَ ذهبتَ تَحُلّهُ ندمتْ، وإنْ أنتَ نمتَ عنهُ أثمتْ"
"سجّلْ على دبرِ العروبةِ بالقلمْ ... أنَّ الصممْ خيرُ النّعمْ"
"إنْ قدّرَ لكَ ذاتَ يومٍ أنْ تصبحَ غصناً ثمَّ بدا لكَ أنْ تنبتَ أزهاراً وثماراً فاشحذْ أشواككَ لحمائمِ السلامْ ... لأنّها ألغامْ ... على شكلِ حمامْ"
ثمَّ تبخرتُ كأنْ لمْ أكنْ معي ... أينَ ذهبتُ يا تُرى؟، هلِ اختطفوني؟، هلِ اعتقلوني؟، هلْ صدّروني إلى بلادِ ما وراءَ الشمسْ؟، هلْ كنتُ معي بالفعلْ؟، هلْ أنا أنا؟.
على أيّةِ حالٍ لا يهمُ فالعلاقةُ بيني وبيني ليستْ قويةً إلى درجةِ أنْ أشغلَ بالي بي ... ومضيتُ أتحسسُ طريقي في عتمةِ الشمسْ.