النكبة الأشدّ خطرا من نكبة 5/6/1967م
(مقالة نشرت عام 2002م)
السياسات الرسمية الحالية تمهّد لنكبات أوسع وأخطر ممّا سببته هزيمة 1967م
لا نهوّن إطلاقا من شأن الهزيمة العسكرية الكبرى في تاريخ العرب الحديث في 5/6/1967م، ولا نهوّن إطلاقا من شأن مسؤولية من صنعوا تلك الهزيمة وبقوا في السلطة إلى ما بعد ظهور نتائجها البعيدة لا القريبة فقط، فحملوا واقعيا المسؤولية عن ترسيخ "آثار العدوان" التي انطوت عليها، وعجزوا عن إزالتها كما كانوا يزعمون تبريرا لبقائهم.. لا نهوّن من شأن ذلك فما صنعوه لا تزال المنطقة بأسرها أسيرة عواقبه إلى يومنا هذا. رغم ذلك يمكن التأكيد دون تردّد أنّه سيبقى في حكم التاريخ أقل خطرا ممّا يصنعه المسؤولون هذه الأيام على صعيد قضية فلسطين، القضية المصيرية المشتركة بنشأتها ومجراها ونتائجها القريبة والبعيدة. إن ما يصنعونه في الوقت الحاضر يمكن –إذا لم تتحوّل يقظة الشعوب إلى حركة- أن يسفر عن عواقب أشدّ وطأة وأبعد مدى، وأن يفرض من القيود والأغلال على إمكانات التحرّك والنهوض في المستقبل أيضا، ما لا يسهل التخلّص منه على أجيال المستقبل، أي على أولادنا وأحفادنا!..
نكبة 1967م
1- في نكبة عام 1967م أطلق المسؤولون عن صنع تلك الهزيمة التي دمّرت عدّة جيوش عربية، ومكّنت من استكمال اغتصاب الأرض الفلسطينية واحتلال أجزاء من أراضي دولتين عربيتين، ورمت بالمنطقة عشرات السنين إلى الوراء على طريق الضعف والتخلّف والتشرذم.. أطلقوا على تلك الهزيمة المذهلة المرعبة وصف "النكسة" تهوينا من شأنها وشأن مسؤوليتهم عن صنعها..
2- آنذاك اعتبروا الانتصار متحققا لمجرّد عدم سقوط أنظمتهم التي صنعت الهزيمة، وليس صحيحا القول إنّ القوات الإسرائيلية لم تستطع إسقاطها، فقد كانت الأبواب إلى ذلك مفتوحة بدعم دولي، ولكن لم تكن توجد مصلحة لليهود ومَن وراءهم في إسقاطها إنّما كانت تلك الأنظمة نفسها متشبّثة بكراسي الحكم، لا أكثر ولا أقل، فلم تنفع حتى تلك الهزيمة الكبرى في إثارة ما يكفي من الكرامة السياسية لإعلان التنحّي الفعلي عن كراسي المسؤولية الفاشلة، حتى بعد ظهور الأدلّة القطعية على الإخفاق في تحقيق الأهداف المزعومة..
3- آنذاك.. استخدموا العمل الفدائي في بداية نشأته من قبل فجعلوه في الواجهة لامتصاص الغضبة الشعبية..
4- آنذاك.. تابعوا حكمهم الاستبدادي الفردي والحزبي فتابعوا تعطيل طاقات الشعوب عن صناعة مستقبلها بنفسها..
5- آنذاك رفعوا شعار "إزالة آثار العدوان" عام 1967م، وأعلنوا "لاءات الخرطوم الثلاثة" تجاه الاعتراف والمفاوضات والصلح، ولكن ساروا في الوقت نفسه على درب التسليم بنتائج عدوان 1948م، وبدأت الاتصالات الفعلية الأولى للصلح..
6- آنذاك.. بدأت الأبواب تفتح من جديد أمام تغلغل الهيمنة الأمريكية إلى أعماق آلية صناعة القرار الوطني والعربي..
ويمكن تعداد المزيد، إنّما يكفي ما سبق للمقارنة، وقد حفلت المكتبة العربية على كل حال لمن يريد بما يكفي من الكتب التي طرحت نكبة 1967م من مختلف وجوهها، بدءا بجانب الحضارة والفكر، مرورا بانهيار الأمن العسكري العربي خارجيا وعربدة المخابرات والميليشيات المسلحة الرسمية داخليا، وانتهاء بالضياع السياسي ما بين هزيمة تيارات تشبّثت بمواقع مَن لا يريد التخلّي عن صنع المزيد من الهزائم عبر تلك المواقع، وما بين تقييد تيارات أخرى أو بقائها من نفسها دون مستوى النهوض بالمهمة الجليلة في المرحلة التاريخية التي نعيش فيها!..
رغم ذلك كلّه نقول إنّ الأخطر ممّا كان بعد وقوع نكبة 67م هو ما نعاصره هذه الأيام، ولا ينبغي هنا بالذات متابعة الأسلوب الذي كان عام 67م هو السائد في كل مكان، أي لا ينبغي الآن التمويه عبر مجاملات مزيّفة أو مخاوف قاتلة على حقيقة بسيطة وخطيرة، وهي أنّ "المسؤولين" هم بالذات الذين يحملون قبل سواهم "المسؤولية" عما يجري، تماما وفق المعنى اللغوي لوصفهم، ووفق ما يقوله واقع حالهم وحال الأوضاع الراهنة، وهم عبر متابعة ما يصنعون مسؤولون أيضا عمّا يمكن أن يوقع نكبة أكبر وأشدّ وأنكى، سواء رفعنا فوق ذلك الواقع المحتّم علم سلام مزيف أم لم نرفع، وزعمنا له غطاء شرعية دولية كاذبة أم لم نزعم!..
ولا يعني ما سبق تبرئة أحد آخر من المسؤولية، كل على حسب طاقاته وموقعه!..
نكبة 2002م
فلنقارن أولا:
إذا سمّى الجيل السابق من المسؤولين الهزيمة نكسة .. فإننا نعاصر هذه الأيام ومنذ سنوات ممارسة عملية -لا إطلاق التسميات فقط-لِما هو أشدّ من ذلك أضعافا مضاعفة من ممارسة أساليب تسمية السمّ بالدسم، في محاولات لا تنقطع للتضليل فيما يستحق وصف عملية غسيل الدماغ الجماعي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- يطلقون على التسليم لليهود بنتائج الاغتصاب عام 48 م "سلاما عادلا"..
2- ويطلقون على ما يُخضعون له الشعوب إخضاعا وما يَخضعون له هم من أسباب القوّة والهيمنة الأجنبية "شرعية دولية"..
3- ويطلقون على رفض الإعداد للحرب دفاعا عن الأرض والعرض ضدّ من لم ينقطع عن ممارسة الحرب "موقفا حضاريا"، وعلى كل دعوة لمواجهة القوّة العدوانية بالقوّة تهوّرا وغوغائية..
4- ويطلقون على المقاومة المشروعة إرهابا وعلى عمليات الفداء الاستشهادية انتحارا..
5- ويطلقون على التخلّي العلني عن أرض لا يملكونها، وعقد العقود الباطلة لتثبيته وإعطائه صبغة زائفة من المشروعية، خيارا "استراتيجيا" وحيدا لا ثاني له ولا بديل عنه..
6- ويطلقون على مصادرة طاقات الأمة والتحكّم فيها، ونخر الفساد في الأجهزة المتحكمة فيها "عجزا"..
7- ويطلقون على الغضبة الشعبية الشاملة لسائر فئات الشعب ومثقفيه ومفكريه وطلبته وعماله وخاصّته وعامّته "صوت الشارع"..
ولنقارن النقاط الأخرى من مواصفات كل من المرحلتين باختصار:
1- كانوا يعتبرون بقاء الأنظمة بعد الهزيمة العسكرية انتصارا، ويرفضون شفويا التسليم لعدوّ غاصب للأرض، وهم يصوّرون الآن مجرّد التفاوض مع العدوّ هدفا، والصلح معه مدخلا للتقدّم والرخاء..
2- وكانوا يستغلّون "العمل الفدائي" لامتصاص الغضبة الشعبية، وهم الآن يدعمون توظيف فريق ممن كانوا في العمل الفدائي لضرب من قام يمارس المقاومة المشروعة من أجل تحرير الأرض والإرادة..
3- كانوا عبر الاستبداد يعطّلون طاقات الشعب، والآن يتحرّكون لتنفيذ مشاريع "شرق أوسطية" كما يسمّونها في اتجاه يضع طاقات الشعب في خدمة ترسيخ وجود الغاصبين لأرض فلسطين، وتثبيت قدرتهم على الهيمنة الاقتصادية، ليس بقدرتهم الذاتية وإنما من خلال ما يوضع بين أيديهم من قدرات..
4- كانوا يغطّون مساعي "الصلح" السرية بشعار من قبيل رفع آثار العدوان، وهم الآن يصوّرون الصلح هدفا يسعون إليه سعيا حثيثا ويرفضه العدو.. ويضربون من أجله من يرفضه ويقاومه في صيغة تطبيع، فيبطشون وينفقون في البطش أضعاف ما قد يحتاجون إليه للإعداد والتعبئة..
5- ولئن كانت نكبة 67م فتحت أبواب الهيمنة الأمريكية، فهم الآن لا يستحيون من الإعلان عن خضوعهم لها، ويمتنعون عن التنحي لمن لا يخضع لتلك الهيمنة كما يخضعون..
الآن فقد وبعد 35 سنة يتحدّث الجميع بوضوح عن جيل سابق من المسؤولين "صنع هزيمة 1967م".. فهل يراد لنا تمرير ما يجري، ثم أن ننتظر ليتحدث الأبناء والأحفاد عن جيل سابق صنع نكبات 2002م؟..
كان على الشعب بسائر فئاته التصفيف عندما اعتبر الجيل السابق من المسؤولين بقاءه في السلطة انتصارا، والترنّح ما بين شرق وغرب سياسة، والاستبداد الداخلي حكما رشيدا.. فهل علينا التصفيق اليوم ونحن نرى التشبّث بالسلطة لم يتبدل بل بات ينتقل من الآباء إلى الأبناء في الأنظمة "شبه الجمهورية" وليس في الملكية فقط، أو نشهد كيف يجري تبديل ولاية العهد حتى أثناء فترة الاحتضار تلبية لرغبة أمريكية؟..
كان علينا تصديق من يمارسون التبعية الأجنبية وهم يزعمون أنها تهمة مشينة، وربما اعتقلوا مَن يكيلها لهم وربما وصموه بفكر المؤامرة،.. فهل علينا الآن الانصياع لمن يباركون تلك "التبعية الأجنبية" ويعطونها مواصفات "الواقعية" أو "العقلانية" أو ما شابه ذاك فيجعلون من الإعلان والتبجح ما يحمل من معالم فضيحة سياسية أكبر من ممارسة التبعية نفسها..
ومتى ينبغي تسمية الاتسبداد الداخلي استبدادا، وقد تجاوز مرحلة حماية كراسي السلطة نفسها، إلى درجة توظيف بعض الأجهزة الأمنية -وما أفرادها إلا قطعة من ابناء الشعب نفسه في الأصل- لضرب فئات من الشعب، ليس لحماية السلطة فقط، بل لحماية "العدوّ" ايضا.. للقيام بمهمّة أجهزة حراسة العدوّ الغاصب واستمرار اغتصابه، وتوجيه الضربات لخصومه، ضربا واعتقالا وحصارا ونفيا وتعذيبا، حتى لو اقتصر أمرهم على "رفض النطبيع" مع كيان شاذ يستحيل أن يصبح "طبيعيا" أو على ممارسة مقاطعة شعبية في غياب الجرأة الرسمية على المقاطعة!..
ويمكن تعداد المزيد للتأكيد أنّنا نعايش الآن النكبات الأكبر مفعولا هذا إذا بقيت الأحداث والتطورات تسير في الاتجاه المرسوم لها، أو الذي اتخذته نتيجة ممارسة سياسة خبط عشواء بلا تخطيط قويم ولا هدف كريم..
جيل المستقبل
كان يقال في ظلّ نكبات الماضي على الأقل، إنّ علينا أن نقاوم، وأن ندعم من يقاوم، وأن نفسح المجال لمن يقاوم، فهذا -وإن مارست السياسات على أرض الواقع غير ذلك الذي تقول- يدلّ على أنّها كانت "تخشى" على الأقل من الإعلان المباشر عن توجيه الضربات لإمكانات المقاومة الذاتية وأهلها والداعين لها والعاملين من أجلها.. أمّا الآن فتخلّت السياسات "الواقعية" المعاصرة عن حق الكلام لا حق الأفعال وممارستها فحسب، فكأنّ حقّ المقاومة المسلّحة بالوسائل الممكنة المتاحة ليست فرضا أوجبه ديننا الذي هو مصدر تشريعنا وعزتنا، أو ليست هي شرعة دولية ثابتة في المواثيق بكل وضوح فلا ينكرها على قوم دون قوم إلا مكابر أو عدوّ، أو كأنّ من يمارسون هذه المقاومة المشروعة المفروضة المطلوبة من الأبطال الشرفاء، يمارسونها ضدّ أناس أبرياء، ليس فيهم مهاجر يهودي روسي أو حبشي أو بولندي أو سوى ذلك من أجناس الأرض، أتى فاغتصب أرضَ إنسانٍ فلسطيني منفيّ في صقع ما من أصقاع الأرض، أو كأنّه ليس فيهم مستوطن يهودي نشأ هو وسائر أهله، على الزيتون الذي اغتصب، والحقول التي اغتصب، والماشية التي اغتصب، والمياه التي اغتصب.. أليس من وجوه النكبة محاولة بعض المنكوبين أن يشكّكوا في حقيقة أنّ هذا الكيان كيان باطل من الجذور، قام على العدوان، واستمر بالعدوان، وتوسّع بالعدوان ولا ينقطع عن ممارسة العدوان حتى الآن.. وهذا منذ الموجات الأولى للهجرة التي أقامت مستعمرة تل أبيب، حتى الموجات الحالية للهجرة التي تقيم المستعمرات حول القدس الشريف، ومن عهد هرتسل وجابوتينسكي إلى عهد آخر وليد في مستمعرة قديمة أو جديدة!..
إن من أسوأ مظاهر نكبة عام 2002م التي نعايش، والتي أصبحنا منكوبين بها جميعا، شعوبا وحكومات، تيارات وأحزابا، "متشدّدين ومعتدلين" بمقاييس الغرب أو الشرق.. من أسوأ مظاهرها أن نجد داخل صفوف المنكوبين بذلك الباطل، مَن يدين عمليات المقاومة، أو يعمل على منعها، أو يندّد بها، أو يشكّك في مشروعيتها.. كل على حسب المكان الموضوع فيه، فإذا به يساهم في صنع النكبة، ربما من حيث يريد وربما من حيث لا يريد!..
نحن الآن في عام 2002م في نكبة أكبر من نكبة 1967م، لأننا الآن نصنع عبر النكبة السياسية بأيدينا الأسباب لكل نكبة عسكرية وغير عسكرية في حاضرنا ومستقبلنا المنظور، بينما كانت آنذاك في الأصل "مجرّد" هزيمة عسكرية نحمل في بلادنا المسؤولية عن تحويلها إلى نكبة شاملة، وكانت آنذاك كانت نكبة هزيمة عسكرية محتّمة، نتيجة ما مارسته غطرسة غوغائية حاكمة، وقد أغرت آنذاك كثيرين، فكانت النكبة صدمة كبرى، أصابت الشـعوب في أوج تأثرها بما رفع من الرايات الوطنية والقومية، فنالت منها في الصميم، وطوّحت بالآمال العريضة التي كانت تنسجها وسائل إعلام جعلت مهمّتها تزيين الاستبداد بذريعة العمل لتحرير فلسطين من الغاصبين ..
كانت تلك النكبة صدمة كبرى، نزفت منها الإرادة الشعبية، فبدا كما لو أنّها أصابت الأمة بطعنة لا تقوم منها إلا بعد أجيال عديدة، ولكنّ ما نعايشه الآن ومنذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى على الأقل، يؤكّد أن لدى الأمّة طاقات مخلصة كبرى للعطاء بلا حدود، وللنهوض من منحدرات التنازل ووهدة التخلّف والهزائم.. أمّة لا تصنع الضحايا الأطفال من أمثال محمد الدرّة وإيمان حجو فحسب، بل تصنع الفدائيين الأبطال أيضا، ممّن باتوا يقضّون مضجع صغار الغاصبين وكبارهم، ما بين تل أبيب وواشنطون..
هنا يبرز أبشع وجه من وجوه النكبة المعاصرة التي نعايشها، فنحن الطرف الضحيّة، سواء في ذلك الأقرب أو الأبعد جغرافيا من فلسطين، في عصر لا يعرف المسافات ولا الفروق.. نحن الذين نواجه العدوّ وإمكاناته، ثمّ يحوّل فريق منّا جزءا من إمكاناتنا وطاقاتنا إلى أسلحة نضرب بها أنفسنا إذ نضرب بها بعضنا، فكأننا بذلك ننتحر، إذ نحاول منع انتشار صحوة عمّت أبناءنا وبناتنا، وإذ نطعن إرادة شعوبنا في الصميم، أو نزيّن لجيل المستقبل أنّ يترك ميدان العمل والبناء والجهاد ويمضي في سبل العربدة المتشعبة التي لم توصل من قبل إلا إلى الهزائم والنكبات.. فماذا يريد ذلك الفريق؟..
إنّ نكبة الأمس نكبة عسكرية.. وكم من الجيوش انتهى أمرها بهزيمة، دون أن ينتهي أمر الأمّة التي تصنع الجيوش لا العكس، أمّا نكبتنا اليوم فنكبة حضارية عندما يتولّى فريق منا العمل على أن تصبح صناعة مستقبل أمّتنا وفق ما تريده الوحشية الإجرامية العدوانية التي يمارسها عدوّنا بقوّاته العسكرية.. وهذا في ظلّ حماية "خيار السلام الاستراتيجي الأوحد"!..
نحن في نكبة أعظم.. لولا الأمل الكبير في العزائم التي بدأت تظهر من قلب الهزيمة، وتؤكّد مسيرة الجيل الجديد على طريق آخر، ينهي عصر الهزائم والنكبات بمختلف أشكالها وفي مختلف الميادين، ويجدّد عهد البناء والتقدّم، وما ذلك على الله بعزيز.