ظلال الجمال بين روعة الانتثار وبراعة الانتظام
قراءة في نص:" انتثرَ جمالك وبقيتُ وحيدًا أجمع فيه"
للأديب المتألق الدكتور إيهاب النجدي.
أخي الحبيب الأديب المفتنّ الدكتور إيهاب
أعود الآن وقد أفقت – أو كدتُ – من صدمة الجمال الأولى إلى هذه القطعة الفنية من عيون النثر عائشا في ظلالها بغيةَ التأمل في أسرار جمالها ، ودلائل جلالها
أولا: النص:
انتثرَ جمالك
وبقيتُ وحيدًا أجمع فيه
]بقلم : إيهاب النجدي
أيتها الوحيدة في جمالها
والبعيدة كالنجم
والهادئة كالملكوت في ساعات توحده بالصحو
والشجو والأنس والخشوع
لماذا حجبت عني جمال محياك ؟
وقد تجمع فيه ما تفرق من بدائع الطبيعة
وما تناثر في أفقها المنظور من روائع
وما تشتت في السماوات والأراضين
لماذا حجبت تلك اللمحة الفريدة
والجملة السعيدة وقد حوت كل المفردات ؟
لماذا تركت البستاني وحيدا ؟
يركض في فضاء الأنغام والتنهدات والظلال والألوان والأوقات
وراء منثور جمالك :
في ورقاء تقبّل صغيرها بالحُب والحَب
في غصن صفصافة يتحالف و النسيم في معاهدة أبدية ,
مكرمة لرفيقه على زيتونة مائلة
في الظل عندما يطرح سجادته الشعبية
لعابر ضاقت به السبيل
في وردة غُرّبت عن وادي الورد
لتسكن راضية في كتاب عتيق
في النهر الوديع ينصت في" شقاوة "
لأليفين يبللان من فيضه ذكريات المساء
في الموج عندما يتخلى عن ميراثه العتيد
ليحط بالطفل المروع على شاطئ الحياة
في فراشة أنيقة توقع لحنا غامضا ل"شوبان"
في عيني السيدة الرقيقة الحاجبين
في كف الوليد وهي تداعب وجنتي أم رؤوم
في إطلالة الضوء الخجول من نافذة الصباح
على عيون أرهقها وجد الليل
في عشبة تتطلع لقطرة الندى كما الرضيع
في سرب إوز سابح في جدول ريفي طهور
في مرج الماءين يمتزجان دهشة ووجدا
في قبضة فتى الحقيقة, يرمي بحجر من سجيل
في قفزة الغزال النحيل,
وهو يعدو فوق الأسى والمستحيل
لماذا حجبت عني جمالك, وفي كل شيء أنت ؟
احتجبي _ إذن _ ماشئت
فإن ما رأيته جُملة في محيّاك, أراه منثورا في كل شيء
وحبي الذي توزع على كل شيء
يتجمع عند محيّاك .
انتثرَ جمالكفي البدء يجيء العنوان ليطلعنا على لبِّ الحكاية بإشارة مجازية مشوِّقة ، بين انتثار وتجميع ،
وبقيتُ وحيدًا أجمع فيه
بين رحيل وبقاء
أما الرحيل فقد صوَّره الفعل الماضي الحاسم (انتثر) وأما البقاء فحاضر يجسده الفعل المضارع (أجمّع فيه )
وكان لتشديد الميم(أجمِّع) دلالة على مدى الحرص والاحتشاد ،
كما أفاد الجار والمجرور(فيه) بيانَ الاستغراق في مساحة كبيرة من انتثار الجمال ، تجعله لا يحلم بتجميعه جميعا ، بل بحسبه أن يظل يجمِّع فيه بحسب جهده وطاقته، في إشارة ذكية إلى سعة جمالها .
على ان العنوان لم يستغرقْ في تقديم الحدث استغراقا بلراح يُعنَى ببيان هيئة المتكلم:
داخليا: على مستوى الشعور، مستعينا بالحال المفردة (وحيدا)
وخارجيا : على مستوى الحركة والعمل بالحال الجملة "أجمع فيه"
وله ولنا في ذلك الأسوة بقوله تعالى:" فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ" (سورة القصص: 21)
فكان لتعدد الحال هنا أثره في رسم الشخصية باطنةً وظاهرة
ثم إن للظلال هنا ظلالِ الكلمة أثرا بارزا في التجسيد والتصوير.
انظر كيف يصور بناء الفعل "انتثر" ينتهي بحرف التكرير (الراء) معناه الدلالي تصويرا يوحي بالتعدد والكثرة!
وكيف يوحي بناء الفعل (أجمع) يضم حرف الميم مشددا الناشئ عن ضم الشفتين على تجسيد دلالته تجسيدا يعبر عن لمّ ما تشتت !
فأما حالة الوحدة الشعورية فهي وحدة عجيبة ، تستدرك ما تبادر من معنى انتثار الجمال ، وكأنه لم ينتثر إلا له وحده.
وأما التجميع فهو مهمته التي ندب نفسه لها ، والأمانة التي حُمّلها كما صنعت إيزيس من قبل .
ثم يأتي الاستهلال ناسجا من هذا الخيط الأول (الوحدة) صورة الحبيبة ، لنرى أنها هي أيضا وحيدة لكنها وحدة التفرُّد
و يلجأ المتكلم إلى أسلوب النداء الذي هو أقرب إلى مناجاة تستغرق صاحبها ، فتأخذه أخذا.
وها هو ذا يحاول أن يجمّع ما استقر في خاطره من صفات :
"أيتها الوحيدة في جمالها
والبعيدة كالنجم
والهادئة كالملكوت في ساعات توحده بالصحو
والشجو والأنس والخشوع"
وحدة التفرد
وبعد السمو
وهدوء التأمل
فأما في صفة الوحدة فلم يلجأ كاتبنا إلى التشبيه في حين لجأ إليه في صفتي البعد كالنجم ، والهدوء كالملكوت
ألأنها في هذه الصفة وحيدة فريدة ليس لها في جنسها شبيه؟!
وفي سياق المناجاة يأتي الاستفهام الدال على الحيرة تتخذ صورة العتاب؟
لنقف عند مشهد الجمال المحجوب ، الذي يزيده الحجاب حسنا وجلالا
لماذا حجبت عني جمال محياك ؟
وقد تجمع فيه ما تفرق من بدائع الطبيعة
وما تناثر في أفقها المنظور من روائع
وما تشتت في السماوات والأراضين
لماذا حجبت تلك اللمحة الفريدة
والجملة السعيدة وقد حوت كل المفردات ؟
وتأتي موجة جديدة من التساؤل تلاحق السابقة لتلقي الضوء على الطرف المتكلم:
لنطالعه في صورة البستاني
وهل جمالها المنتثر سوى زهور
وهل ينهض بتجميعها على أحسن نسق إلا بستاني محب شفيق يتعهده بالسقي والرعاية
خبير بالزهر جمالِه ، ورقته على تعدد أنواعه، واختلاف ألوانه ؟!
-
ويستمر العتاب :
"لماذا تركت البستاني وحيدا ؟
يركض في فضاء الأنغام والتنهدات والظلال والألوان والأوقات
وراء منثور جمالك :
في ورقاء تقبّل صغيرها بالحُب والحَب
في غصن صفصافة يتحالف و النسيم في معاهدة أبدية ,
مكرمة لرفيقه على زيتونة مائلة
في الظل عندما يطرح سجادته الشعبية
لعابر ضاقت به السبيل
في وردة غُرّبت عن وادي الورد
لتسكن راضية في كتاب عتيق
في النهر الوديع ينصت في" شقاوة "
لأليفين يبللان من فيضه ذكريات المساء
في الموج عندما يتخلى عن ميراثه العتيد
ليحط بالطفل المروع على شاطئ الحياة
في فراشة أنيقة توقع لحنا غامضا ل"شوبان"
في عيني السيدة الرقيقة الحاجبين
في كف الوليد وهي تداعب وجنتي أم رؤوم
في إطلالة الضوء الخجول من نافذة الصباح
على عيون أرهقها وجد الليل
في عشبة تتطلع لقطرة الندى كما الرضيع
في سرب إوز سابح في جدول ريفي طهور
في مرج الماءين يمتزجان دهشة ووجدا
في قبضة فتى الحقيقة, يرمي بحجر من سجيل
في قفزة الغزال النحيل,
وهو يعدو فوق الأسى والمستحيل"
ولكن العتاب يتجسدُ أمامنا نافذةً أطللنا من خلالها على روعة البستاني
ويا له من بستاني يجيد رؤية صور الحب ، والانصات إلى لغة الطبيعة ، وتأمل علاماتها وأسرارها التي تصب جميعا في نهر الحب والألفة والالتقاء الحنان والذكرى، في حشد جميل من الأشياء الحميمة النضيرة، أو " الطفلة " (كما تحبُّ يا صاحبي أن تسميها) بما تحمل في طياتها من طزاجة ونضارة
ومن ثنائيات متقابلة متآزرة:
شقاوة محببة ، وحنو على أم رءوم
إطلالة الضوء، ووجد الليل
لحن العينين الساحرتين يعلوهما حاجبان دقيقان ، والخجل اللذيذ
أمل الرمي ، والعدو على جمر الأسى والمستحيل
وهي جميعا رغم التباين الظاهري الخادع تلتقي التقاء : " مرج الماءين يمتزجان دهشة ووجدا"
-
ويستمر العتاب:
لماذا حجبت عني جمالك, وفي كل شيء أنت ؟
احتجبي _ إذن _ ماشئت
فإن ما رأيته جُملة في محيّاك, أراه منثورا في كل شيء
وحبي الذي توزع على كل شيء
يتجمع عند محيّاك
لنلتقي بقطبين دارت في فلكيهما كل هذه المشاهد العجيبة ، والصور الحبيبة والثنائيات بما فيها الثنائية الرئيسة التي صاحبتنا منذ العنوان: "ثنائية التناثر والتجميع"
ألا وهما : قطبا الاحتجاب والرؤية:
" احتجبي _ إذن _ ماشئت
فإن ما رأيته جُملة في محيّاك, أراه منثورا في كل شيء"
وكأنها سعاد في مناجاة أمير الشعراء:
ضُمّي قِناعَكِ يا سُعادُ أَو اِرفَعي هَذي المَحاسِنُ ما خُلِقنَ لِبُرقُعِ اَلضاحِياتُ الضاحِكاتُ وَدونَها سِترُ الجَلالِ وَبُعدُ شَأوِ المَطلَعِ
بما يضفي الاحتجاب والبعد من سر للجلال
وبرغم سعي البستاني الدءوب في تجميع ما تناثر من جمال ، ونجاحه في مهمته على مستوى رؤية القلب الذي رأى الحسن جُملةً منظمة !
وإذا كان القاضي الفاضل قد افتخر قائلا:
وَهَذا الدُرُّ مَنثورٌ وَلَكِن أَروني غَيرَ أَقلامي نِظامَه
نرى أديبنا على مستوى رؤية العين يعترف بانتصار الانتثار قائلا :
"أراه منثورا في كل شيء"
وكأنه يقول أنى لهذا الحسن المنتشر المنتثر في كل شيء أن يحويه بستان مهما كانت براعة البستاني وحسن سعيه؟!
أو أن ينظمه بيان مهما كانت عبقرية الأديب ، ومقدرة الفنان؟!
=========
أخي الحبيب وأديبنا المتفرد: إيهاب
كنت ظننت أنني أفقت من صدمة الحسن
واكتشفت أنني كنت واهما
فإن للجمال هنا منتثرا ومنتظما سحرا آسرا ، وأسرًا ساحرا.
فبحسبي أنني حاولتُ متأملا هنا مع نصك البديع
بعضَ ما حاولته أنت مبدعا مع ما تناثر من حسن حبيبة قريبةٍ بعيدة كالنجم===============
ودمت بكل الخير والسعادة والتألق
أخوك: مصطفى