وزنٌ شعريٌّ مستحدث، لم يذكرْهُ الخليل بن أحمد (-175هـ)، لا في بحوره المستعملة، ولا في بحوره المهملة. بل ليس له في دوائر الخليل العروضية مكان. يتميز بإيقاعٍ موسيقيٍّ خفيف، يكاد أن يصلَ به إلى مصافّ البحر السريع أو البحر المخلّع ..
وقد وجدت له عدداً من الصور المستعملة، ووضعت له عدداً آخرَ من الصور الافتراضية التي يمكن أن تندرجَ تحته، مما يعطيه حقَّ التفرُّدِ والاستقلال، بحراً قائماً بذاته، اصطلحتُ على تسميته (بالبحر اللاّحق)، اسماً كان القرطاجني قد أطلقه على (المخلّع)، فآثرْتُ استخدامَه هنا، إذ لا يخفى ما يحمله هذا الاسم من معنى إلحاقِ جديدٍ بقديم. وقد وضعتُ له مفتاحَه الخاص به، ضبْطاً لوزنه، وتيسيراً لحفظه، فقلت :
ولاحِقٍ حَقُّهُ ماثِلُ = مستفعلن فاعلن فاعِلُمشيراً في ذات الوقت إلى اسمه، وحقّه، ووزنه.
وكان الجوهري (-393هـ) الذي جاء بعد قرنين من عصر الخليل، قد ذكَرَ هذا الوزن عَرَضاً، عندما جعله صورةً مستحدثةً من مخلّع البسيط:
مستفعلن فاعلن مفعولن!وذلك بقوله عن المخلع: "ولَم يجِئْ طَيُّهُ عن العرب، وقد طَواه المُحْدَثون، وبيته:
يا مَنْ يلومُ فَتىً عاشِقاً = لُمْتَ، فلومُكَ لي أعْشَقُوطيُّهُ يعني: حذف رابعِه الساكن (وهو الواو) من (مفعولن) فيبقى (مَفْعُلُن = فاعلن).
ولعلنا نستشف من قوله: "وقد طواه المحدثون" أنه كان مستخدماً في زمانه، ولو على نطاق ضيق، إذ لا يمكن لمثل هذا البيت أن يردَ ضمن أبياتٍ كُتِبَتْ على المخلّع!
ولم يرِدْ لهذا الوزن ذكْرٌ آخر في كُتُب العروض إلاّ بعد ثلاثة قرون من عصر الجوهري، وذلك عندما نصَّ حازم القرطاجنّي (-684هـ) في حديثه عن طرق بناء الأوزان من التفاعيل السباعية المتغايرة، على أن أشطارَها تُبنى دائماً من ثلاثة تفاعيل؛ مثماثلتين ومفردة، فتحدّث أولاً عن تقدّم المتماثلتين وتأخّر المفردة، كما في البحر السريع، الذي يساوي عنده:
مستفعلن مستفعلن فاعلاتنثم تحدّث عن توسّط المفردة بين متماثلتين، كما في البحر الخفيف:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتنثم أنكر البناء الذي تتقدّم فيه المفردة على المتماثلتين استثقالاً.
وقال: "وقد وَضَع بعض الشعراء الأندلسيين على هذا البناء [أي بتقديم المفردة على المتماثلتين] وزناً، إلاّ أنه جعلَ الجزأين المزدوجين خماسيين فراراً من الثقل .... وذلك قوله :
أقصَرَ عن لومِيَ اللائِمُ = لَمّا دَرى أنّني هائِمُتقديرُ شطره: (مستفعلن فاعلن فاعلن)". دون أن يضع له اسماً، ولا ردَّه إلى أيٍّ من الأوزان الخليلية المعروفة .
ومع أن هذا الوزن قد ورد أيضاً في بعض الموشحات -كما سنرى- إلاّ أن كُتُبَ العروض جميعها -شأنها مع كل جديد- قد أعرضت تماماً عن محاولة تقييده وتقعيده، أو حتى مجرد ذكره، سبعةَ قرونٍ أخرى، عندما ادّعت نازك الملائكة في رسالةٍ إلى د.عبده بدوي (عام 1973م) أنها أوّل مَنْ كتَبَ عليه شعراً، وأنه "وزنٌ غير مستعمل في الشعر العربي"! سمّته "الموفور". وقد تابعها د.بدوي على ذلك، فكتب عليه أولاً، ثمّ دعا إلى الكتابة عليه ثانياً، فاستجاب لدعوته علي الصياد، ونور الدين صمود، الذي أكّد على أنه -كنازك وبدوي- لم يطّلع قبل ذلك على شيءٍ مكتوبٍ على هذا الوزن! وذلك على الرغم من صدور الطبعة الأولى من منهاج البلغاء للقرطاجني عام 1966م!
هذا وقد حاولَ بعض المعاصرين أن يُلحِقوا هذا الوزنَ -خَطَلاً- ببعض بحور الشعر العربي، فألصقَ جلال الحنفي بعضَ صوره بالبحر البسيط مقدّراً تفعيلَها هكذا:
مستفعلن فاعلن فعِلُن = مستفعلن فاعلن فعْلُنوبعضَها بالبحر المنسرح مقدّراً تفعيلَها هكذا:
مستفعلن مَفْعُلاتُ فَعَلْ = مستفعلن مَفْعُلاتُ فَعَلْوواضح أنّ الوزنين متطابقان، ومتوافقان مع وزن اللاحق.
وجعله عبد الصاحب المختار من البحر المجتث أو أصْلاً له. وهو أبعد ما يكون عن البسيط أو المنسرح أو المجتث!!
وفي دراسته المتميزة لعلم العروض؛ أشار د.أحمد مستجير إليه وزناً مستقلاًّ، ولكنه نشأ عنده من تكرار التفعيلة (مفعولُ) أربع مرات في الشطر الواحد:
مفعولُ مفعولُ مفعولُ مفعولُ!ممثّلاً له بقول شوقي متّصلاً هكذا:
زيادُ ما ذاقَ قيسٌ ولا هَمّاولذلك أطلق عليه اسم "بحر شوقي!! وواضح تماماً أنَّ ما أشار إليه مستجير هو (بحرٌ مهمل) لم يَكتُبْ عليه أحدٌ أبداً. وهو وزنٌ لا ينطبق على وزن اللاّحق مالم يُحذف من آخره سببان وجوباً، هكذا:
طبخُ يدِ الأمِّ يا قيسُ ذُقْ مِمّا
الأمُّ يا قيسُ لا تطبُخِ السّمّا
مفعولُ مفعولُ مفعولُ مفْـ ....ـعولُ
/ه /ه //ه /ه //ه /ه //ه...../ه /ه
مستفعلن فاعلن فاعلن
وليست أبيات شوقي إلاّ على الوزن الرجزي -منفصل الشطرين-: (مستفعلن فعْلن * مستفعلن فعْلن) الذي أكثرَ منه الوشّاحون والمعاصرون، كما في قول الأعمى التطيلي:
دِنْ بالصِّبا شَرْعا = ما عشْتَ يا صاحِوقول أبي ريشة:
ونزّه السمْعا = عن منطق اللاّحي
أمشي على رسْلي = في مدرج الرمْلِوممن تحدث عن هذا الوزن أيضاً؛ الأستاذ سليمان أبو ستة في دراسته القيّمة عن العروض، حيث تابع نازكاً الملائكة في تسميته "الموفور"، مشيراً إلى ذِكْر الجوهري والقرطاجني له، وإلى قصّة انبعاثه مرةً أخرى على يد نازك الملائكة. كما أشار أبو ستة إلى إمكانية وروده على الضرب (فالن /ه/ه) دون أن يضع له المثال، وإلى إمكانية وروده على الضرب (فاعِلانْ)، مستشهداً بقول محمود درويش:
حيران أستقصي = دربي وأستجْلي
والريحُ في سخْرٍ = منّي ومنْ ظـلّي
الطفلة احترَقَتْ أمّها = أمامَها ، احترقتْ كالمساءْمنبّهاً إلى سَبْق درويش لنازك الملائكة بالنظم على هذا الوزن، حيث صدر ديوانه " أحبّك أو لا أحبّك" عام (1972م)، أي قبل رسالة نازك إلى د.بدوي بعام واحد.
وسنلاحظ بعد قليل أن لسيد قطب قصيدة موشحة على هذا الوزن تسبق قصيدة نازك بما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً، حيث يعود تاريخ نشرها إلى عام (1937م). بل لقد وجَدْتُ قصيدةً لعبد الباقي العمري (-1278هـ)، سبقت هؤلاء جميعاً، إذ يزيد عمرها على مئة وأربعين عاماً، خلطت بين المخلّع واللاحق. بل وجدت موشحة على وزن اللاحق لابن سناء الملك (608هـ)، وأخرى لابن خاتمة الأندلسي (-770هـ)، غير مستبعدين طبعاً أن يكون هنالك آخرون كتبوا على هذا الوزن قبل ذلك أو بعده.
- يتبع إن شاء الله -
عمر خلوف