من أوراق جحا الحكيم:
الرائحة والرنيـــــــــــــــن
ذات يوم لجأ إليَّ رجلٌ مسكين وأنا بحمد الله لا يلجأ إليَّ إلا المساكين وكان يصيح:
• أنجني يا جحا!
• ماذا بك يا رجلُ
• يريدونني أن أدفع نقودا كثيرة مقابل رائحة
• وما ذاك؟
• لقد عضني الجوع بنابه الذي لا يرحمُ ، وبينما أنا ماشٍ في السوق إذا برائحة شواء شهية تتصاعد من حانوت الكبابجي ،
• ويحك يا رجلُ ، لقد شوقتني
• (يكمل حديثه كانه لم يسمع) فهفت إلى الكباب نفسي الأمارة بالسوء ، فقلت لها يا نفسُ: العين بصيرة واليدُ قصيرة، فأين لي بنقود الكباب وما معي لا يشتري إلا رغيفا.
فوزتني نفسي أن ألجأ إلى حيلة
• وما هي أيها المحتال؟
• اشتريت الرغيف بآخر دانقٍ أملكه وتسحبتُ بجوار الشواء وصرت آكل الرغيف مع الرائحة الفائحة من أسياخ الكباب، أمني نفسي بأنني إنما آكل الكباب ذاته!
• بارك الله فيك ، يا لها من حيلة شريفة، والعقبى لك أن تأكله بشحمه ولحمه قريبا!
• ولكن الكبابجي لمحني فأرسل صبيانه فأمسكوا بتلابيبي وأرسلوني إلى كبير الشرطة وطالبوني بدفع الثمن!
• (مندهشا) ثمن ماذا؟
• ثمن الكباب!
• ولكنك لم تأكل الكباب بل شممت الرائحة!
• قال الكبابجي: يا كبير الشرطة : إن هذه الرائحة منبعثة من عندي فلولا كبابي ما كانت الرائحة، وصدقه كبير الشرطة وطالبني بدفع الثمن نقودا باهظة ، وإلا كان مصيري الحبس، وما تركاني إلا لأستدين المبلغ لأسلمه لهما
تلك شكاتي يا جحا ، فانظر ماذا ترى؟
• لا عليكَ يا رجل اهدأ واطمئن وضع ببطنك بطيخة صيفية!
• أو تريد أن أقع في مشكلة مع صاحب البطيخ ، حرام عليك يا جحا!
• كلا أنا أريد أن تهدأ بالا، فاذهب إليهما وقل لهما أن يأتيا لأخذ حقه بحضور جحا.
فأتى الجميع إلى داري والكبابجي يمني نفسه بأخذ النقود ومعه كبير الشرطة فما كان مني إلا ان ناولت الفقيرَ النقود، وقلت ارفع بها يدك إلى الأعلى ودعها تتساقط على نحاسٍ كنت وضعته على خوان
فتساقطت محدثةً رنينا مسموعا
ففعل
فلما وقعت على الخوان هم الكبابجي بلمها فحلت بينها وبينه بعصاي فقال:
• ما هذا يا جحا؟ هل تمنعني حقي
• بل أخذت حقك أيها الجشع
• حقي هذه النقود التي تحول بيني وبينها
• أما سمعتَ صوت رنين النقود؟
• بلى سمعته
• فاهنأ به إذن ، فهذا هو حقك ليس لك هنا حقٌّ سواه!
إن الفقيرَ لم ينتفع منك بأصل الكباب بل برائحته ، فكيف تريد أخذ أصل النقود
إن الرنين رنين النقود مقابل الرائحة رائحة الشواء
هل فهمت؟
فانصرف الكبابجي وكبير الشرطة يتعثران في خيبتهما فقد كان الشرطي طامعا في نصيب من النقود.
وهنا حمد الفقير ربه وسجدنا سجود شكر لله على ان خلصه الله من بلواه
والآن يا أبنائي وأحفادي
هل وعيتم العبرة؟
إن الرائحة المتطايرة في الهواء لا يقابلها إلا الرنين المنتشر في الهواء أيضا.
فلماذا صرتم تبيعون الأوطانَ بأبخس الأثمان؟
ولماذا صار الوطن يباع من أجل رائحة السلام ولا سلام ، ورائحة الأمان ولا أمان!
ويا ليتها رائحة طيبة كرائحة الشواء
بل خبيثة كخبث الأعداء !
ولماذا صار يباعُ الإنسانُ مقابل رائحة زائفة ؟
ويباعُ الأمس واليوم والغدُ مقابل رائحة موهومة؟
هل يعقل هذا؟!
أن يكون جحا الذي يتهمه الناسُ بالحمق والغفلة أذكى وأوعى؟!