على طاولة الطعام الكل يجلس في موقف المستلهم لأفكارها وروائحها إلا ساهر له طاولة أخرى يفترشها في عقله لايقربها او يتذوق ماعليها فهو مستنكر رافض لما حدث ،يالي من أحمق أكُل هذا العته مخبوء في داخلي ولم أره وعندما أراه يكون أخي شاهداً يالحسرتي،دمعة تروح وتغدي بالقرب من قعر عينيه متوترة لامستقر لها يدفعها حزن وصدمة ..يسحبها حياء وخوف،يستدير بعينيه مع ثبات كامل جسده ورأسه تجاه أخيه المصدوم ..العينين يرسمان عبر الاثير اشارة لــ.. لا كبيرة لا مستنكرة.. –لا- تٌعلَن في سر لا ينفذ جداره سوى عقل الأخ ،الأب رامي كامل حواسه حتى السادس منها في بطون الطاولة الحافلة بالطعام وساهر متأفف ،الطاولة عليها لحم نيء طازج يسري فيه الدم الأحمر في حيوية دونما اي تجلط ..انها آذان وهذان ذراعان وذلك خصر تلفه انثوية وهذا ...وذاك... ،ياإلهي إنها أمي ..كيف ذلك ؟ وأبي هو الآخر ! ،ماذا تنتظران وماهذا الاستسلام منكما؟ جثتان تنتظران ان أنبش فيهما اظافري وانيابي كالأسد الهائج على غزالة مترنحة..فريسة قبل ان تُفترس ..هل هو اغراء لي بالخلاص منكما أم دفعي نحو هوة الجريمة وفي حق من؟ أنتما ! مهما فعلتما أبداً لن يحدث ..أبداً
صوت خشن متواتر النبرات المتقطعة يمزق نسيج أفكار ساهر :
- مابك ياولد ..ما الذي حل بك مجدداً أيها الخائب المجنون ..أمك تشكوني حالك الغريب وأصدقائك الأغبياء لم أعُد أرى طلتهم البهية !
- من فضلك أبي.. اتركه الآن فهو مشغول بالتفكير في امتحان السنة الأخيرة له.
قهقهة تلبس حلة ساخرة متعالية :
- ليتها سنته الأخيرة في الحياة كلها ..حتى نستريح .
تهرب دموع ساهر لأحضان خديه الباردين تكسبهما دفأً ينتشي بالمواساة والصحبة والرفقة التي فقدها ،لا أشباحكم ولا أصولكم قادرة على اغوائي بالخلاص منكم ..لكن كل مايقتلني في كل لحظة هو هذا الشيء الغامض ..أخي يقول ان أحلامي نتاج كبتي وارادتي اللاواعية ..لكن لاأحسها أبداً ولاأشعر نيتها الحقيرة تلك ..كأنني جسد لعقل آخر ..ارحمني ياأرحم الراحمين ..أكاد أُ ُجن !ماهذا الذي أرى انه هو الذي اخشاه قد أتاني لطالما فكرت فيه واستعددت له تمام الاستعداد.. فلن يعلم بأمره احد ابداً.. انا في كامل وعي الآن سأحاربك لابد لي من انتصار لطالما احتللت عقلي وشوشت تفكيري عن نفسي..جعلتني اكظم واكبت حقداً تجاه ابي وامي ..نعم هما لم يسمعا يوماً لندائي ولم يروني على حقيقتي..أرفض حديثهم..قد أرفضهم ..لكن لست بشعاً لهذا الحد الذي أ...، ..خوفي منك الدائم ذهبت مع ريحه آمالي إحساسي بكل شيء ..حتى أنا لم تعد أنا بل صارت أنت ..خوفي منك جعلني في موقف الجبان الخائن ابتعتني مني ..قبلت ..طلبت خنوعاً وصكاً بالتنازل عن كل شيء حتى افكاري قدمتها قرابين خشية قوتك..التي لاأعلم أين هي أو على الأقل أين ملامحها ..بالفعل فأنت وديع الشكل قزم الحجم ..لماذا خضعت واذعنت لوداعتك !..ياحقير ياسافل ياابن اللئيمة ..ياإلهي ما الذي أقول اني اسب مرة أخرى ..تختلف عن سابقتها أنني في كامل وعي انها ارادتي فعلاً..لكن ! أووووووه !!
يستفق ساهر من نومه فقد هاجمه النوم بشراسة استسلم له سريعاً والتحف الطاولة التي لم يمس منها مايفض بكارة الجوع ..نقله أخيه الى سريره وغاص في بحار افكاره ..هو وان كان نائماً لكن يبدو انه دخل الحلم بارادته اختار الدخول لاسرار عقله ربما يعثر على سبب جنونه المقترب لاشك .
الأخ يرمقه بنفس النظرة ..ساهر يخفي في جيوب اسراره جبلاً من الشتائم لنفسه والتوعد والتهديد .
- ضحية جديدة في أحلامك التعيسة يا ساهر ..يبدو أن الأمر قد خرج من يديك كما خرج من أيدينا !
- بأيدينا! .. هل ؟ (يشير بسباته للخارج)
- نعم لقد عرفوا ..لشد خوفي عليك حرصت على ان يساعدوني لانقاذك من براثن الجنون والهرطقة.
حمرة عينيه-اثر صحوه المفاجيء من النوم- تفرز درجات قاتمة تلهث خلف اللون الاسود لكنها لاتناله ..الارهاق رسم كحلاً حول العينين المنهكتين ..الصمت هو الحاضر الآن جاثم على انفاس الكلام حتى الايماءات لاحول لها ولاطاقة ..عيناه تبرز فجأة خارج محيط جمجمته ،ياأخي لكن هذه المرة يختلف عن كل سوابقي الجنونية ان كنت تعدني مجنوناً بالفعل !
- ساهر! ..ماكل هذه العدوانية ونوايا القتل والانتقام..ماكل هذا الكبت لكأنك عشت عمرك كله مغبون حقك مسلوب ارادتك ..معدم الوجود ؟!
- لقد عرفت سبب تيهي وضياعي ياأخي ..لاتتهمني بالجنون أرجوك ،انهش لحم كرامتي ..كسر عظام رجولتي ..لكن إلا هذه التهمة ..إلا الجنون ياأخي ..فأنا لا أملك إلا هو ..عقلي.. انه حلمي وأملي ونور دربي تجاه الوحش الذي امتلكني في لحظة غفوة مني .
- ماأكثر غفواتك وجنونك...(الصمت ينشطر لصمتين..ندٌ في مقابل ند..ساهر وأخيه،الأخ يستطرد)وحش ؟أي وحش يامعتوه ! أظنك تقصد حلمك الأخير ..انها اضغاث أحلام ..بالتأكيد تقصد ذلك .
- لا !
- أي لا تقولها ..ياأيها المعتوه أنت..الوحش هذا رسمه عقلك وقام بتضخيمه من خوفك وانطوائك من جملة اشياء حدثت لك،الوحش لايعني وحشاً بالمعنى الدارج ..فمن خاف عفريتاً ظهر له..وانت تخاف عفاريتاً كثيرة .
- أعلم انه ليس وحشاً انا لست بغبي لهذا الدرجة ..لكن...
- لكن ماذا؟ كفانا هرطقة وخوف وخنوع لافكار بالية رسمها عقلنا المريض ..كفانا ذلاً لآلهة الخرافات..نحن في زمن العلم..العلم العلم ..العلم ياجاهل .
- سامحك الله..ياأخي فقبل العلم علينا بقتل الخوف فينا ..وخلق نطفة الجرأة والاقدام والحرية في ارحام نفوسنا ..التي وان كانت في ارذل العمر فقد تلد كما ولدت امرأة زكريا –عليه السلام-
- الحرية لاتأتي بخرافاتك وهلوستك وعدوانيتك ..التزم الصمت ولاتفتح فيك ببنات احرف والا وأدتهن كما فعل اجدادنا في جاهليتهم !
- فعلاً فأنت أولى مناّ بالنسب لهؤلاء الجهلة ..نعم الحفيد لخير جد !
خرج ساهر من هذه المعركة محبطاً يائساً حزيناً فهو وحده الآن في مواجهة أخيه الذي كسب احترام وود كل من حوله بسبب نهمه و نهله من بطون العلم أما هو ففي نسيج عنكبوتهم-مخنوق- كالذبابة لاحول له ولاقوة ،تباً لك ياأخي ياآخر أملي ..أعلم أني وحدي لن أقدر على شيء ..ليس يأساً مبرراً بعلل واهية ..لكني وحدي دونه ضعيف ..الآن عرفت لماذا نطق لساني بكل ماحلمت به ..لقد أحس لساني بضرورة علم أخي بنيتي رغماً عني..لكن للأسف لم يكن يعلم هذا اللسان ان أخي قد تورط في ...نعم تورط في اسفافه للعلم فقط..ومن حوله لايرون سوى العلم فقط ..لقد فهمت العلم خطأ ً ياأخي..فالعلم وجد لفهم كنه الاشياء وماهيتها لا لتكسير كل الطرق المؤدية لأي فكرة..العلم يقبل كل ذي نسب به وكل غريب..العلم لايرفض الاشياء الا عند حتمية العلم بكارثيتها..ليس العلم اعمالاً للعقل وقوفاً كما الاشجار..بل رواحٌ هنا وغدو هناك ..سير ببطء أحياناً جري على عجلة مرات كثيرة..أسفي عليك وعليّ ،وحتى لاتعلم ياأخي سراً من أسراري ..حتى لايشفق لساني مرة أخرى على علمك الجاهل ويعلمك بما خبأته ظاناً بك ساعدي الأيمن ..حتى لاتتهموني مرة اخرى بالجنون ..حتى لاأصبح مدعاة سخرية لكم..وأرسم على جبينكم فضيحة جديدة ..فالكل تخلى عني.. اصدقائي.. ابي وامي حتى اخي ..حتى انا ! نعم سأتخلى عن لساني فلم يعد لك هنا مكان ولا زمان.. أخي الذي لكزني بمقولة سيدنا علي وكيف اني مخبوء تحت لساني..لربما اختبيء اكثر واكثر واخفي اسراري الجنونية ..أو يُعتم ضوء خفايايّ ..وماذا يحدث لو تمزق هذا الستار الذي ألجأ اليه..وأظهر دون خجل مكشوفاً تماماً دونما الكلام.. دونما الحاجة لحلم ادفن فيه أساي وحيداً ..دونما خوف مسبق فهاأنا عاري لاألتحف إلا بعريّ.
مقص يلمع في الزاوية البعيدة ..تلمع عيني ساهر !
تمت أحمد زكريا منطاوي