قطعة سكر
1
1
وقفتُ ممسكا بيدها الباردة المرتعشة ،محاولا أن أبثَّ فيها شيئا من دفء الحياة، وقد فانزلقتْ روحي في بئر مظلم من الخواء والوحشة والحزن والألم، وتردَدَ صدى من صرختي الصامتة ، في عمق ضميري ووجداني ،
لا ترحلي ، أسألكِ بكل جميل بيننا لا ترحلي ، أقبِّلُ يديك لا ترحلي ، يا الهي أبقها لي.
من له الآن يحثه على الركض في السباق المحموم؟ من له الآن ينتظره هناك في نهاية حافة الدرب، يسقيه شربة ماء بارد ، يفتح ذراعيه ، يضمه ، يقبله في جبينه ،فيغرق في صفاء العينين الحانيتين ، ويذوب بين شفاهها كقطعة سكر؟
كان وجه الوليد النائم ، بريئا كغيمة صافية ، لا يلوي على شيء ، ولم أكن في حالة تسمح لي أن أرى وجهه كامل الملامح ، ربما لأنه لم يكمل ساعاته الخمس بعيد ولادته ، أو لأن عيناي كانتا غائمتين بشلال من حزن منهمر.
2
علَّمَتـْـهُ كيف يلبس، و علَّمَتـْـهُ كيف يهندم مظهر، و علَّمَتـْـهُ كيف يصفف شعره ، و علَّمَتـْـهُ كيف يشد وثاق حذائه الرياضي الأبيض قبيل كل سباق ، و علَّمَتـْـهُ كيف يتجاوز خصمه ، و علَّمَتـْـهُ كيف يقفز الحواجز عاليا ، و علَّمَتـْـهُ كيف يجتاز الحفر ليلحق بالزمن ، ويمسك بتلابيب الثواني وبين يدها وعينيها كانت ساعة التوقف Stop Watch))
وكانت هناك على حافة خط النهاية تتلقفه بين ذراعيها ، وتضم جسده النحيل تقبله في جبينه الأسمر، في حنان و رقة معلمة تعرف مهام وظيفتها جيدا.ولم يكن ليحلم بشيء من وراء هذا السباق المدرسي المحموم ، بأفضل من هذه الجائزة الرائعة.
وحين كان يخطئ ، كان تقرص أذنه بلطف ، وتعاتبه بعينين صافيتين حانيتين.
ألم أقل لك انتبه أيها السكر الأسمر.
كان يحب أيضا أن تقرصه من أذنه الصغيرة ، إذن ربما كان أيضا يتعمد أن يقع كثيرا في الخطأ.
3
حين التقاها على درج المدرسة الخارجي ، في أول يوم له في حياته الدراسية ، كانت هي مسئولة عن استقبال وتنظيم التلاميذ الجدد،كانت تصيح بالأسماء ، وتنتظر من يخرج من زحام الأطفال والأمهات الواقفين في انتظار الدخول، تلقفته بيدها وساعدته على صعود الدرج ، إذ كاد أن يتعثر في حذائه الجديد الذي كان يؤلمه بشدة.وقف بين التلاميذ والتلميذات ،بين رائحة الملابس المدرسية الجديدة، ، والعطور ، وأكياس الطعام والحلوى بين أيديهم، وعلا بعضهم بالبكاء إذ استوحش غربة المكان الجديد. أشارت له أمه من بعيد ، لكنه لم يلحظها ، إذ كانت عيناه معلقتين على معلمته ، التي تقف فوقه عالية شامخة ، تنهمر الأوامر من فمها على الجموع الصغيرة.لم يشعر بالرهبة رغم ذلك ، ولكن سعادته كانت كبيرة حين استقرت كفه الصغيرة في كف معلمته وهي تقود صف الصغار إلى ساحة المدرسة. نظرت إلى أسفل فالتقت عيناه بعينيها ، لمست خصلته ، وداعبته ، هيا أيها الأسمر ، هل أنت هندي؟استفزه السؤال رغم أنه لم يفهمه.
4
• ركض نحو أمه : هل أنا هندي؟
• من قال لك هذا؟
• معلمتي.
• كيف لها أن تقول ذلك ؟
• قالت لي أسمر وناعم الشعر ، إذن فأنت هندي.
أصرت الأم يومها أن تذهب إليها وتريها ما لا يسرها.لكن جدته ضمته إلى صدرها. قائلة ،اتركيه ، سترد أنت عليها ، ألست رجلا؟ فإن سألتك بعدها قل لها بل أنا عربي. جئنا إلى مصر مع الفتح واستقر بنا المقام في الجنوب.
5
ضحكت حتى ارتمت فوق مقعدها في غرفتها المليئة بالأدوات الرياضية ، حين داهمها فجأة ووقف على بابها صارخا بما أخبرته عنه جدته.
ضمته إليها ، وغرق في صفاء عينيها الحانيتين. وقبلت جبينه فشعر أنه يذوب بين شفتيها كقطعة سكر.
أهدته كرة وطلبت منه أن يركض بها بحرية.فركض بها كعنزة فرحة بشيء من البرسيم الطري.
كانت صفارتها تلم الأطفال من الزوايا والأركان ، وكان يجلس في مقعده الأمامي في كل دروسه وعيناه على الممر ، ليراها متحركة نشيطة في أركان المدرسة.
وحين ترن صفارتها العالية كان يطير كالعصفور إلى ساحة التمارين ، ليقف أمامها ، وكانت تضحك، تضحك، تضحك ، وهي تمسح شعره الناعم ،و تعدل من هندامه ، وتحبك رباط حذائه الرياضي الأبيض.
6
أيها السكر .. الأسمر، الآن ، أنت البطل .
كانت تخاطبه ممسكة إياه من وجنتيه السمراوين،
وسوف نحصل على الجائزة الأولى على مستوى مدارس المنطقة، لن تخذلني أليس كذلك ؟
7
حين كانت تدربه وسط الصغار ، شعر أنها تخصه بشيء من الاهتمام كبير، ترمي له كرة على البعد، وتطلب أن يأتيها بها قبل أن يتجاوز عقرب الساعة نقطة ما ، فيركض الحرفوش الصغير كجرو أبله ، ويأتي بها قبل مرور الزمن المحدد .
كانت دهشتها غامرة بهذا العفريت الأسمر، الذي كان يفوق الجميع ويسبقهم بسهولة غريبة.
كانت تقسم أمام الجميع أنها ستجعل منه بطلا اوليمبيا .
8
وكان السباق، وكانت تنتظره هناك على حافة النهاية ، بكثير من الحلوى والماء ، وقبلة على جبينه الأسمر ، وكان يغرق في صفاء عينيها الحانيتين ، ويذوب كيانه كله بين يديها كقطعة سكر.
ضج الجميع بالتصفيق في طابور الصباح وهي ترفع الدرع عاليا وقد أمسكت بيده الصغيرة أمام الجميع، مالت عليه وقبلت جبينه بدفء ، وكذلك فعلت ناظرة المدرسة إذ شعر بالفعل بوجنتها الخشنة الباردة.
9
الشتاء ، وسكون لم يعهده يعم المكان ، لم تعد تخرج من غرفتها ، ولم تعد صفارتها تملأ الأركان حيوية ونشاطا ، قالوا قريبا ستضع مولودها الأول.
حين اخترق غرفتها كالسهم ، ورغم أنها استقبلته بفرح، رأي في صفاء عينيها شيئا من العتب.
وكأنها تلومه : ألم أقل لك دق الباب قبل الدخول؟
. كانت عيناه معلقتين بلمعان الشلال الأسود المنسدل فوق كتفيها.
قرصته في وجنته السمراء، ولملمت خصلات شعرها وغطته بقبعتها الرياضية من جديد.
قالت له لن أغيب عنكم. وعطلة الشتاء على الأبواب. ستزورني في المستشفى أليس كذلك ؟
سأطلق اسمك على مولودي الأول، وان كانت بنتا فهي عروسك. لم يفهم شيئا إلا أنه لم يكن يريد لها أن ترحل.
10
كان بين المهنئين ، وقد سهر طوال الليل ، لطخ بالألوان ملابسه وأطراف مكتبه وسريره ، رسم لها وردة صغيرة ، وكتب بحروف ركيكة متعثرة ، أحبك معلمتي.دس لها الصورة بين وسائدها ، وهي راقدة وإلى جانبها وجه صغير. طبع قبلة مرتعشة على جبين معلمته، ولم ير ذلك الصفاء الذي عهده في عينيها الحانيتين.كانت المعلمات يهنئنها بسلامتها وسلامة المولودة الجميلة.
11
كانت عطلة منتصف العام ، شتاء دائما ، عواصف اقتلعت الأشجار وأعمدة النور ، وقلبت السيارات وأضرمت النار فوق أسطح المنازل ومخازن الغلال والأخشاب .
لم يهنأ بوقته ، وقد ملأه خوف رهيب ، من جراء شتاء، لم يعتده غصن طري من قبل في سني عمره القليلة.سمع الريح تئن في الخارج، ودقات المطر المنهمر فوق النوافذ وقرقعة الرعد تصفع قلبه الصغير، ووهج البرق يكاد يخطف بصر عينيه الخائفتين،زحف إلى جدته في ركن الأريكة العتيقة,لملم أطرافه الصغيرة وتكور في حضنها كليمونة جافة ، مختبئا بين طيات عباءتها الدافئة ، فأخذته سِنة من النوم.
12
كانت معلمته تقف على رأس سحابة ، وجهها لامع كدرع فضي باهر النور ، وكانت تبتسم له في ود ، موحية له أنها قد فازت بجائزة سباق كبير.كانت راضية سعيدة مستبشرة ، حاول الإمساك بيدها الطرية ، فلم يدركها ، لكنها وهي تغيب بين النجوم ، ألقت عليه وصيتها التي طالما ألقتها عليه كل صباح ، أن يأكل جيدا ، وأن ينام جيدا ، وألا يركض قبل أن يشد وثاق حذائه الرياضي الصغير.جفل من حلمه ، مرتعدا من برد يسكنه ، هدهدت جدته خوفه بشيء من نعناع دافئ.
13
كانت المدرسة، ساحة من الوحشة المقبضة، وباب غرفتها يواجهه بشيء من التحدي ، أنه لن يقابلها مرة أخرى،استقبلته في أول يوم بعد العطلة يد الناظرة ، أجلسته على كرسي مرتفع إلى جانب مكتبها ، أتحفته بكثير من الحلوى ، وأوصته أن ينتبه لدروسه وصحته، كان للحلوى في فمه الصغير ، طعم آخر غير طعم السكر، وكانت عيناه غائمتين بماء منهمر،في بريقه ينعكس وجهها البشوش ، وصفارتها تملأ أركان جوانحه ، ولمساتها ناعمة كالحرير فوق جبينه الأسمر الصغير.
14
زارت الحمى الصغير ، وأقامت في جسده أياما ، وأكلته بنارها، والتهمت شيئا من صمام في قلبه فارتخى ، وبعضا من قوة بصره فضعف ، وارتخت ساقاه ، ولم يعد قادرا على الركض في أي سباق.ولم تفز المدرسة بجائزة أخرى بعدها.فمن هناك تنتظره؟ على حافة خط النهاية ، لتضمه وتقبله في جبينه، فيغرق في صفاء عينيها الصافيتين ، ويذوب من قبلتها كقطعة سكر؟
15
كان عليه أن يقاوم كما علمته ، وأن يمارس ركضا من نوع آخر ، في سباق عمره مع الحياة، أكلته الدروب، وكسب سباقات كثيرة ، و خسر سباقات شتى أكثر ، وأكل كثيرا، ومرض أكثر، ونام مبكرا كثيرا ، وسهر من أرق وقلق أكثر ، وشد وثاق حذائه كي تستقيم خطوته ، وتعثر أكثر. وأدركته آفة التدخين ، رغم أنها حذرته ألا يلمسها حين يكبر، وتباطأ قلبه كثيرا ، وأحب كثيرا ، متمنيا أن يجد ذات العينين الصافيتين كي يغرق فيهما أو ذات الشفتين كي يذوب بينهما كقطعة سكر.
16
لملمت أركان وجداني المتهدم، واستسلمت ليد صديقي تشدني بعيدا عن سريرها، ضاما إلى صدري مولودها الأول مني، دافئا طريا، بوجهه الشفاف كغمامة صيف ، وإذا بها تفتح عينيها الصافيتين ، وفي وهن ، تمد يدها مشيرة إليَّ أن أقبل ، وقد علت وجهها الرائع البشاشة، ابتسامة رضا وفرح ، تماما كوجه أمها ، التي علمتني يوما ما ، كيف أركض في الحياة بلا خوف ، طالما كانت هناك تستقبلني ، كي أغرق في صفاء عينيها الحانيتين ،وأذوب بين شفتيها كقطعة السكر.********