عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن غالب بن تمام بن عطية الإمام الكبير قدوة المفسرين أبو محمد الغرناطي القاضي
حدث عن أبيه الحافظ الحجة أبي بكر وعن أبي علي الغساني ومحمد بن الفرج مولى الطلائع وخلق كثير.
وكان فقيها عارفا بالأحكام والحديث والتفسير بارع الأدب بصيرا بلسان العرب واسع المعرفة وله يد في الإنشاء والنظم والنثر وكان يتوقد ذكاء وله التفسير المشهور ذكر في أسامي الكتب أنه المسمى بالمحرر الوجيز تفسير الكتاب العزيز وهو تفسير شريف جليل القدر والشأن قد تداوله فحول العلماء وأثنوا عليه خيرا حتى قال أبو حيان هو أجل من صنف في علم التفسير وأفضل من تصدر للتنقيح فيه والتفسير
وقال جماعة من الفضلاء كتاب ابن عطية أجمع وللسنة السنية أخلص وأكمل
توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة(1)
التعريف بتفسير ابن عطية :
وقال عنه ابن تيمية: "تفسر ابن عطية خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلا، وبحثا، وأبعد عن البدع وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير بن جرير الطبري أصح من هذه كلها(1)
لهذا التفسير قيمة علمية كبيرة، فبالإضافة إلى تفسير آي القرآن تجد فيه: القراءات وأصحابها، فقد عني بها عناية كبيرة، كما تجد فيه من فنون اللغة ما يبهر ولا غرو فقد كان ابن عطية لغويا فصيحا، اهتم في تفسيره بهذا الجانب اللغوي إعرابا وبلاغة. إضافة إلى الأحكام الفقهية وإن كانت غير بارزة.
كما أن لهذا التفسير أثر كبير في التفاسير التي جاءت بعده، في المدرسة المغربية خاصة، نجد هذا الأثر واضحا في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، كذلك في "البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسي، وفي غيرها من كتب التفسير التي جاءت بعده.
وهذا التفسير بقي مخطوطا في عدد من المكتبات والخزانات، إلى أن طبعته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني
رحمه الله. حيث أمر المجالس العلمية المغربية بتصحيحه وتحقيقه.
صدر الجزء الأول منه سنة 1975م وبقيت أجزاؤه الأخرى تصدر إلى أن صدر الجزء السادس عشر وهو الأخير سنة 1991م
قام المجلس العلمي لفاس بتصحيح وتحقيق الأجزاء من 1 إلى 10، والمجلس العلمي لمكناس الأجزاء 11/12/13 والمجلس العلمي لتارودانت الأجزاء 14، 15، 16 والجزء الثالث عشر لم أعثر عليه.
فهو الآن مطبوع في ستة عشرة مجلدا.
كما أن طبعات أخرى لهذا التفسير، لكن أولها حسب علمي هي هذه التي حققت وصححت وطبعت بالمغرب.
المنهج العام لابن عطية في تفسيره
يعتبر كتاب "المحرر الوجيز" من كتب التفسير بالمأثور، إذ كان ابن عطية يميل إلى تفسير القرآن بالقرآن، فيختار من بين الآراء ويرجح بينها بما يوافق القرآن ويدعمه. كما كان يعتمد على المأثور من الأحاديث النبوية ويتخير بين أقوال الصحابة والتابعين أصحها وأقربها لمقتضى الشرع ومقاصده. كما اهتم بذكر القراءات القرآنية الصحيحة..
ولم يكن ابن عطية مجرد ناقل للأخبار ووعاء لها، بل كان ناقدا ومتمحصا لكل ما ينقل ويروى. فكان لا يقبل من الروايات إلا ما شهدت له الأصول الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح.
وأهم من يميز معالم نهج ابن عطية هو ابتعاده عن الاستشهاد بالإسرائيليات وانتقاده لمن سبقه من المفسرين لاعتماده على هذا النوع من الروايات في استمداد معارفهم. وقد عبر عن هذا المعنى بقوله: "لا أذكر من القصص إلا ما لا تنفك الآية إلا به.."
استقى ابن عطية واعتمد في كتابة تفسيره على من سبقه من المفسرين، وقد قال عنه ابن خلدون في مقدمته: إن مؤلفه لخصه من كتب التفاسير التي سبقته –وخاصة ابن جرير- وكان يورد الآثار ويكثر من الاستشهاد بالشعر، كثير الاهتمام بالصناعة النحوية..
امتاز أسلوب "المحرر الوجيز" بسهولة العبارة وسلاستها، ابتعد فيه مؤلفه عن أي غموض أو تعقيد. سالكا في ذلك كله منهجا يقوم على التحري والتثبت في نقل الأخبار وإسنادها، فجاء تفسيره جامعا لمختلف العلوم دون أن يطغى جانب على آخر. فرسم بذلك طريقا واضحة المعالم لمن جاء بعده. تجلى هذا المنهج بالخصوص في كونه جعل من التفسير علماً قائما بذاته، يرتكز على مجموعة من القواعد والمبادئ في غاية من الدقة والترتيب..
ويبقى أن ابن عطية قد صاغ تفسيره هذا في قالب في غاية من التنظيم والتنسيق وحسن العرض. وقد اقتفى كثير من العلماء بمعالم هذا المنهج وتأثروا به وساروا على منواله في تصنيفهم في هذا الفن.
منهج ابن عطية في القراءات من خلال تفسيره
إن الدارس لتفسير ابن عطية يستطيع أن يلخص منهجيته في القراءات القرآنية على شكل نقاط هي :
1. اهتمامه بذكر القراءات فهو لا يكاد يدع موضوعاً فيه أكثر من قراءة إلا وأسهب في ذلك الشرح ويكثر من ذكر القراءات المتواترة ، ويأتي أحياناً على ذكر الشاذ من القراءات.
2. يبدأ الإمام ابن عطية غالباً بذكر القراءات المتواترة كقوله عند تفسيره لقوله تعالى " لعلكم تذكرون " في سورة الأنعام:قرأ ابن كثير وأبو عمرو تذكرون بتشديد الذال والكاف جميعا وكذلك يذكرون ويذكر الإنسان وما جرى من ذلك مشددا كله وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله " أو لا يذكر الإنسان " فإنهم خففوها وروى أبان وحفص عن عاصم تذكرون خفيفة الذال في كل القرآن
وقرأ حمزة والكسائي تذكرون بتخفيف الذال إذا كان الفعل بالتاء وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد وقرأ حمزة وحده في سورة الفرقان " لمن أراد أن يذكر " بسكون الذال وتخفيف الكاف وقرأ ذلك الكسائي بتشديدهما وفتحهما(1)
ولكنه مع ذلك قد يبدأ بذكر الشاذ منها قبل قراءة الجمهور كما في قوله:" فمن أظلم ممن كذب " بهذه الآيات البينات " وصدف " معناه حاد وراغ وأعرض وقرأ يحيى بن وثاب وابن أبي عبلة كذب بتخفيف الذال والجمهور كذب بتشديد الذال و " سنجزي الذين " وعيد وقرأت فرقة يصدفون بكسر الدال وقرأت فرقة يصدفون بضم الدال(1)
3. يفصل أحياناً في ذكر القراء ، وأحياناً أخرى يكتفي بقوله " وقرأت جماعة " أو " وقرأت فرقة " أو " قرأ الجمهور " ، كما ذكر عند تفسيره لقول الله تعالى : " قد سرق " في سورة يوسف حيث قال :" قرأ الجمهور سرق على تحقيق السرقة على بينامين بحسب ظاهر الأمر .
وقرأ ابن عباس وأبو رزين سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها وكأن هذه القراءة فيها لهم تحر ولم يقطعوا عليه بسرقة وإنما أرادوا جعل سارقا بما ظهر من الحال ورويت هذه القراءة عن الكسائي وقرأ الضحاك إن ابنك سارق بالألف وتنوين القاف "(2) فهو هنا أجمل ، ثم فصل ما يخالف قراءة الجمهور، ويقول رحمه الله في تفسيره " والحرض الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور حرضا بفتح الراء والحاء،قرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما وقرأت فرقة حرضا بضم الحاء وسكون الراء "(3) ، فهو استخدم لفظ فرقة هنا مبهمة دون تفصيل.
4. يربط ابن عطية بين القراءات أحياناً وبين المعنى اللغوي للكلمة ، كما فعل في أكثر من موضع في تفسيره ، ومن أمثلة ذلك قوله : والروح الرحمة .ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين إذ فيه إما التكذيب بالربوبية وإما الجهل بصفات الله تعالى
وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز من روح الله بضم الراء .
وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه فيرجى"(1)، فهو هنا قد أوضح المعنى اللغوي للقراءة الثانية، لكلمة روح ، فهي بفتح الراء رحمة الله، وبضمه روح الله الذي وهب ليوسف عليه السلام. ومثال أخر لذلك قوله : " وقرأت فرقة فاليوم ننجيك وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها ،وقرأ يعقوب ننجيك بسكون النون وتخفيف الجيم وقرأ أبي بن كعب ننحيك بالحاء المشددة من التنحية وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي وقالت فرقة معنى " ببدنك " بدرعك وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة بندائك أي بقولك " آمنت " الخ الآية ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع وقرأت فرقة هي الجمهور خلفك أي من من أتى بعدك وقرأت فرقة خلقك المعنى يجعلك الله آية له في عباده "(1) ، فهو هنا رحمه الله يظهر المعاني المختلفة للقراءات المختلفة في كلمة واحدة " ننجيك" ويدل ذلك على تبحره باللغة، وعلى مدى ارتباط القراءات القرءانية بعلم المعاني.
5. لم يعهد عليه في تفسيره انه يرجح قراءة على قراءة ، بل يكتفي في أغلب الأحيان بذكر القراءات ، دون ترجيح .
هذا والله أعلم وأحكم
وصلي اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه