كم أناديك !!ولو حملتِ الأرضُ الواسعةُ ما حملتْ (كمْ) هنا لما وَسِعَها مشيُ حيٍّ على ظهرها ...كم أناديكِ !وما بين الخافقين يترددُ صدى ندائي معلناً يَبَسَ اليبابِ من سُقياكِ ،وتذمُّرَ السَّرابِ من ريَّاكِ ،واستغاثةَ القفارِ من هجر خُطاكِ..وكأنما أرتالُ النداء تحوّلتْ برياح صمتك الباردةِ صقيعاً تحطَّمَ على أسوار امتناعكِ فلم يرْقَ شاهقاً، ولم يفترشْ منخفضاً..ناديتكِ كالسابرِ أغوار ذاتك يستحثُّها مَقيلاً من هجير الأيامِ ،أو قنديلا في دامس لياليها الموحشة ، وكنتُ على إثر النداء حالماً بكِ خيالاً آهِ ما أجمله..وآه ما أحنَّه وأعطفه وأحلمه . ملأتُ منه على حينٍ من الدهر يدي ،فمضى الدهرُ ولم أمسَّ منه بَشَراً ،أو أجسَّ منه شعوراً ،أو أبلَّ منه شفةً ،حتى كدتُّ من فرط تخيُّلي أنتزعُ منكِ النظرَ انتزاع خيط الذهب من الحجر الأصم الأصلد ،وأستحلبُ منكِ الانتباهَ لي استحلابَ الغيثِ من عين الشمسِ المحرقة ،مختلقاً صُدْفة اللقاءِ اختلاقاً ،ومتذرعاً بغلطة اللاقصد تذرعاً .. .
أقولُ : هذا حالي الشاردُ إليها عن غيرها هل راعها؟؟ لعله راعها !وأنثني متسائلاً :هذا حرفي وذاك بوحي ونزفي ..قصائدي ..وأشواقي ..خواطري وتعلاتي ..هل رأتْها ؟؟ لعلها يوماً أبصرتْها !.
مالها لا يحرِّكُها انقطاعي إليها ! مالها لا يُوخزها تملُّقي حيالها ،وتعاهدي شؤونَها ! مالها لا يزجي عنانَ مركبها تعرفٌ على حال غريب آلمَ الألمَ من عارم الشوق إليها ! كيف أقولُ عدمتْ مشاعرُها وهي التي استعبدتْ حرفي حتى صار من جُملة خدمِها ، وزمرة حشَمِها !!وحاشا أن أقول تبلدتْ مكامنُ الحسِّ منها وهي التي شرحتْ معنى الإنسانيةِ في سطورها ، وعلّمت الجمادَ معنى الحياةِ من خلال حروفها ! ..ولولا موانع جشَّمَتْني عناءَ الاكتفاء والتريُّثِ لما أشبعتُ من حلو وصفكِ أذواقَ الأدباء ،ولأمطرتُ محافل الأدب أحلى ما قال عاشقٌ في أحلى ما خلق الرحمن وأبدعَ ، ولطفِقتُ بكِ أكتب ُ، وعنك أستقصي وأقرأ ،ولك أغني وأنظم ،وعنك وفيك ومنك ولك أشغل الفكر وأملأ أرجاء الفؤاد .
كم أناديكِ! وفوق كل بقعة بنيت من خيالك تمثالاً شاهداً ،وشيدتُّ لكِ من حُصَياّتِ الربى قصوراً وقصوراً ،ومن نقا الرمل ملاعبَ ومرافيء سرعان ما سفتْها الجنوبُ فصارتْ في قائمة الذكرى طللاً شاهداً..ورمزاً بلسان حبي ناطقاً..
وما زلتُ –أميرتي- أكذّبُ في تأويل صدكِ كلَّ الظنون ،فإن غلبني ظنٌّ استدعيتُ من الآمال ما يجنَحُ بي بعيداً عن كل شيء إلا أنك محبوبتي النافرة ،أو أميرتي الآمرة ،مهما طالَ في توددي لها ندائي ،وتمادى في رجائي لها صبري وبكائي ..
أميرتي المتلاهية..ليس لِشَبَقِ الحُب قيدٌ يكفُّ عن درب المتاعب انطلاقَه ،ولو كان له قيد فكم من القيود يلزمه والحب في خلد العاشق أشدُّ انتشارا من الحَبِّ في عرصات الأرض المبذورة ،كلما رام له تقلُّصاً ازداد فيه تمكناَ وتعنتاً ،وما الحب إلا تقرير البصر لداعي البصيرة حتى إذا طاف طائفه بحيازيم الفؤاد صار كلُّ شيء لجلالة قدره تابعاً مملوكاً .
فحنانيكِ -أيتها الأميرةُ-لو انقطعَ دون حدودكم صدى ندائي ، فرجع خاسيء الطرف حسيراً ،فو الله ما أبقيتُ من سُلاف النسيان رشفةً إلا أدمنتُها محاولةَ انتشالِ لما تبقَّى لي من مُزعة كيانٍ ،ولعاعة جنان ،بعد أن أهرقتُ في تتبع خطاكِ ماءَ اصطباري ،وعصارةَ تجلُّدي ،فرجعتُ منكِ كما رجع المشرق من لقاء المغرب ،وعدتُّ من سفري إليكِ عودَ الأيام لأمْسِها الذاهبِ ، وهنا وجدتّني عنكِ أحكي قصةَ ذات طَرَفِ واحدٍ هو أنا معكِ ،مفتقداً طرفها الآخر هو أنتِ معي.