بلفور ، أللنبي وأنا
ما أن وطئت قدماي الرمال حتى وجدتُ بلفور وأللنبي بانتظاري كالمعتاد ،كل منهما يقف إلى أحد جانبي باب الحافلة ، التي وقفت لتوها وكنت أول الخارجين ، تاركة خلفي الركاب يتدافعون للنزول من باب الحافلة التي هي أشبه ما تكون بسفينة فضاء تهبط على كوكب مجهول تملأ الرمال أرضه وفضاءه. نظرت باتجاه اليسار حيث يُتوقع أن يظهر من يأتي لاصطحابي ، ركزت النظر فلمحت القامة المنتصبة تقترب وقد تغشى تكوينها الغبار .كان عمي متزوجا من قوقازية مهاجرة ، هجر لأجلها الدنيا وعاش معها في تلك البلدة التي تتلاشى مع الصحراء بعد أن ابتلعت الرمال حدودها .
عمي كان آخر الرجال الكبار في أسرتنا ، وهو يحتل مركزا اجتماعيا مرموقا في تلك البلدة المنفية التي ابتلعها المكان، ونسيها الزمان .
وضحت ملامحه تدريجيا وهو يسير باتجاهنا ، بل لقد لمحت على البعد دارته الكبيرة التي تشبه جزيرة تسبح في محيط من الرمال ، بينما أصدقاؤه ومريدوه يتحلقون أمام الدار، يتنادمون ويشربون الشاي والقهوة ، ويتناولون شطائر زوجته التي أنجبت له الكثير من الأبناء والبنات ، مما جعل البيت الكبير يزداد اتساعا وغرفه تزداد عددا مع كل قادم ، وبمرور الوقت كبر الأبناء وتحول البيت إلى مستعمرة أو محمية طبيعية ، تنغل بالكائنات الحية من أشخاص وقطط وأرانب وحمام . هذه المخلوقات أصبحت وكأنها طورت غرائزها الفطرية ، فالقطط كانت تصادق الكناري ، والأرانب تخلت عن القفز والهرب ، أما الحمام فقد نسي حذره وهجر أبراجه وأصبح يلتقط غذاءه من صومعة الغلال الملحقة بالفناء الكبير. كان لتلك الكائنات أسماء ، وكانت تعرف أسماءها . وكانت الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها ،زاحفة أوطائرة أوماشية ، تستبيح لنفسها دخول أي مكان في البيت إلا الكلاب. صحيح أنها كلاب( الوولف ) المدللة الأصيلة والمدربة
إلا أن أمور الطهارة والنجاسة كان لها الأولوية في بيت الرجل المتدين حد التشدد.
كانت البنت عندما تبلغ السادسة تتحجب ، وعندما تصبح في سن البلوغ ،يُغطى وجهها وجسدها برداء أسود ، و يُربط صدرها الذي بدأ لتوه بالبروز ، بقماط من شاش ناعم يُشد حوله حتى يستوي مع محيطه ، وهي إجراءات ضرورية لتتمكن من الذهاب إلى المدرسة ، مخفورة بالكلاب والإخوة . عالم غريب عن عالمنا في العاصمة ، مختلف بتفاصيله كلها ، إلا الحب . فقد كان عمي يحبنا ويرجو أمي أن ترسلني في الإجازة لأنني أمثل له رائحة المرحوم أبي. وكان أهل هذا البيت ينظرون إلي باعتزاز وحب وتقدير كأنني هبطت عليهم من كوكب آخر.وكنت رغم سنواتي الثمانية أحس بتميزي واختلافي عنهم في الملبس والمنطق والنظر إلى الأمور ، وهو شعور كان يخفف من حزني لفراق أمي التي لا أنسى دمعاتها الحبيسة لحظة تودعني الحافلة التي تسلمني لعمي. قطع علي صوت عمي الجهوري الحنون حوارا من طرف واحد مع كلبيّ الحارسين ، وكان قد اقترب مهرولا يغالب العاصفة :
* أهلا بالغالية بنت الغالي.
التقينا في منتصف الطريق بين الحافلة وبيت عمي ، ووجدتني أغرق في حضنه الأبوي الدافىء وعباءته الموشاة تلفني فيما طارت قبعته القوقازية المصنوعة من الفراء عن رأسه . أرسم المشهد الآن وأتخيل :
* قوقاز في وسط الصحراء . ربما أجعله عنوانا لقصة فيما بعد.
فتح عمي عباءته الفاخرة فخرجت منها ، وتناول من تحت إبطه كيسا فتحه ، ثم قبّل رأسي وأعادني إلى داخل عباءته وقد تناول من الكيس قميصا ألبسني إياه فوق ثوبي الأبيض الجميل ، وبنطالا جمع بداخله أطراف ثوبي القصير ، ثم تناول شعري وجمعه بين راحتيه وأدخله عنوة داخل قبعة مكسيكية كبيرة .استغربت مما يجري ولم أفهم وقتها سببا لذلك.
نظر إلي باستحسان ، ثم ترقرقت في عينيه دمعات غزيرة .وسألته :
* عمي . ألم تقل لي أن بلفور هو والد اللنبي؟ فأجاب بنعم ، وسألت :
* ألم تقل أن اللنبي أنثى ؟ فلماذا تسميها اسما مذكرا ؟ افتعل عمي الجدية وغالب ابتسامته وهو يقول
* لقد كبرت يا بنيتي .
ألبس عمي الكيس رقبة أحد الكلبين ، وحقيبتي الصغيرة رقبة الآخر .
لوحة مرسومة بالرمال والهواء ، جمال لا يمكن وصفه ، كتلة نحتية متحركة ذوبت حافاتها حبات الرمال التي تملأ الجو ضبابا جافا .
كنت بلهفة للوصول ، لأستقل الدراجة الهوائية وأطوف بها حول الدار الكبيرة ، ووصلنا إلى الجمع المنتظر أمام الدار . قدمني عمي إليهم بسرعة واقتضاب:
* عيسى . ابن أخي .
______________
حنان الأغا
19_2_2008