الامتناع عن الجهر بالحق في ميزان الإسلام
الخوف ممّا لا ينبغي الخوف منه، والطمع فيما لا ينبغي الطمع فيه، هما في مقدّمة أسباب قصورنا عن أداء واجب الجهر بالحق كما ينبغي.
ومن شروط الجهر بالحق معرفته بطبيعة الحال، وبالتالي فمن الأسباب الموضوعية لعدم الجهر بالحق في بعض المجالات أو من جانب بعض الأفراد الجهل به. ولكن عندما يكون الحق مجهولا بالنسبة إلى العامّة في قضية من القضايا أو مكان من الأمكنة، هل يسقط عنهم واجب تحصيل المعرفة لإدارك الحق؟.. ألا تسري هنا القاعدة الشرعية المتفق عليها أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب؟.. ثمّ إنّ العارفين بالحقّ في تلك القضية أو ذلك المكان، ألا يحملون في حالة جهل العامّة بالحق واجبا أكبر للتعريف به، أي للجهر به حتّى تعمّ المعرفة به وتتسع قاعدة العمل من أجل إحقاقه؟..
إنّ الجهل بالحق هنا قد يكون عذرا مؤقتا للجاهل حتى يعلم بالتعلّم، ولكنّه في الوقت نفسه سبب تحمّل إثم أكبر من جانب العالم بالحقّ الذي لا يبيّنه وقد أصبحت الحاجة ماسّة غليه.
ويسري هذا على الأمور الصغيرة والكبيرة على السواء، ولكنّ واقع المسلمين اليوم هو أنّهم لا يواجهون قضية عدم قول الحقّ في صغائر الأمور والمسائل الجانبية، فهذه تجد –بحمد الله- من يتولّى بيانها على مختلف المستويات، بل ربّما وجدت من الاهتمام الكبير والزائد أحيانا ما يكاد يحجب عن الأنظار وجود قضايا أكبر بكثير تحتاج إلى قول الحقّ فيها ولا تجد من يقوله إلاّ نادرا.
المسلمون يواجهون قضايا مصيرية جذرية، تتعلّق بوجودهم الإسلامي من حيث الأساس، بحياتهم وفق ما يريد الإسلام، وحكمهم على ما جاء به الإسلام، وهنا ننطلق من اعتبار قول الحقّ معروفا للعلماء على جميع الأحوال، ولغالبية عامّة المسلمين على وجه الترجيح، فالشرط الموضوعي متوفّر في الأصل للجهر بالحق، وهنا نسأل: لماذا لا نجهر بالحق دائما؟.. لماذا نشهد قصورا كبيرا على هذا الصعيد الاساسي بصورة خاصة؟.. ولا سيما من جانب الفئة الأعلم من سواها بهذا الحق، والأقدر من سواها على التأثير بفضل نعمة الله عليها بالعلم والمعرفة وبالمكانة أحيانا. أليس من المفروض أن يكون هؤلاء في موضع القدوة الحسنة؟.. هل يجوز أن يكونوا كذلك في "حجم" ما يعلمون وعلى غير ذلك في القيام بما يقتضيه هذا العلم منهم من واجب؟..
"التقية".. وتبرير الخوف
لقد مرّ بنا حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فصل سابق:
(لا يمنعنّ رجلا هيبةُ الناس أن يقول الحقّ إذا علمه) وفي رواية (أو شهده أو سمعه) –عن ابي سعيد الخدري، خرّجه الألباني بطرق متتابعة في، سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 168-
وكثيرا ما نذكر كلمة "قول الحقّ" فنقرنها بالقول "لا نخاف فيه لومة لائم"، مشيرين إلى هذا المعنى الوارد في آيات قرآنية وأحاديث نبوية..
وفي الحديث أيضا:
(إنّ الله عزّ وجلّ يسأل العبد يوم القيامة فيقول مالك إذا رأيت المنكر فلم تنكره؟..-قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيلقّى حجته فيقول: يارب!.. خفتُ الناس ورجوتُك) –رواه البيهقي في شعب الإيمان، وهو في "مشكاة المصابيح" للتبريزي بتخريج الألباني تحت رقم 5153-
هذه الأحاديث وكثير سواها تبيّن أنّ السبب الأول في الامتناع عن الجهر بالحق هو "الخوف من الناس".. وممّا يحزّ في النفس ألما، أنّ "الخوف" أصبح مبرِّرا، وكأنّه الصفة المرغوبة لدى المسلم، بينما هو في هذه الأحاديث وسواها "سبب منهيّ عنه".
والأشدّ من ذلك خطرا على الأمّة ومستقبلها، أنّ الذين يقع عليهم واجب الجهر بالحق أكثر من سواهم، لعلمهم به أو لموقعهم منه، يوجدون لأنفسهم المبررات، ثمّ لا يكتفون بذلك بل يعلنون تلك المبرّرات وكأنّها ممّا يرضى به الإسلام، فيربّون العامّة على ما ارتضوه لأنفسهم من السكوت على الباطل، وربّما تأييد الباطل في بعض الأحيان أو أكثرها. وعلى رأس تلك المبرّرات ما يعرفه العلماء باسم "التقية".. أن يتقي المرء ظلم الظالم فيدفعه عن نفسه فلا يجهر بالحق في وجهه، فهل "التقية" هي الأساس في موقف الإسلام في هذه القضية أم الاستثناء؟..
وبتعبير أوضح: إذا كان العالم يريد بهذه "التقية" أن يدفع الأذى عن نفسه، أو ماله، أو أهله، أليس يعني ذلك أنّه يقدّم هذه "الضرورات" على الضرورة الأكبر وهي "الدين".. والدينُ هو أوّل ما يتوجّب حفظه كما تقول الأصول الشرعية الإسلامية؟..
ولربّما يقبل الإسلام بالتقية في مواضع محدودة، وحالات استثنائية، ومن بعض المسلمين وليس منهم جميعا، ولا سيما من علمائهم، وكلّ هذا مشروط بالاّ يترتّب على "التقية" ضرر أكبر بالدين، دين الفرد نفسه، ودين المجتمع ككل، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال، ولا لأيّ فريق من الناس، أن تصبح "التقية" ستارا مبرّرا للركون غلى الظالمين، فربّ العالمين يقول:
((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تُنصرون)) –الآية 113 من سورة هود-
شواهد ونماذج تاريخية
لقد فهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه التقية فهما آخر، يوم رفض الإقرار بتبنّي الدولة الإسلامية لعقيدة خلق القرآن، فجاءه من جاءه من العلماء بأحاديث التقية وهو يُعذّب، فقال: "فكيف تصنعون بحديث خبّاب أن كان قبلكم يُنشر أحدُهم بالمنشار ثمّ لا يصدّه ذلك عن دينه؟.." ويحاول علماء من العلماء تليين موقفه تجاه الحاكم فيقول لهم ما ينبغي أن يقال اليوم لكثيرين: "إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل، متى يتبيّن الحق؟"- عن ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في "تاريخ الأغسلام" للحافظ الذهبي-
إي والله.. متى؟.. نسألها للعالمين بالحقّ الذين لا يجهرون به، ولعلّّهم لا يحملون بذلك إثم كتمان الحق فحسب، بل ومعه إثم استمرارِ جهل الجاهلين به.
وما كان ابن حنبل بدعا بين العلماء الأتقياء، وليس من عالم من علماء اليوم من يجهل قصة الإمام مالك رضي الله عنه، إذ روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قوله: (ليس على مستكره طلاق) فقال الناس: وليس على مستكره بيعة، فطالبه الحاكم بالامتناع عن رواية الحديث فرفض رغم ما يُروى عمّا واجهه من إهانة وتعذيب.. رفض كتمان قول الحقّ في حديث واحد من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يعتذر لنفسه أو لسواه بالتقية –القصة مشهورة في مصادرها التاريخية، وترجمة الإمام مالك متوفرة في كتاب "مالك" لمحمد أبي زهرة-
ويوم يكون بين العلماء أمثال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، يكون بين شباب الإسلام أمثال حطيط الزيات..
وهل يوجد من ينكر أنّ الفضل الحقيقي من بعد الله في حفظ الإسلام كان لمالك بن أنس الذي امتُحن وسُجن، وأبي حنيفة الذي امتُحن وسجن، والشافعي، وابن حنبل، وابن تيمية، وابن القيّم الجوزية، والعز بن عبد السام، وجميعهم ممّ، امتحنوا وابتُلوا، فما أخذوا بتقية وهو في موضعهم من القدوة، ولا قبلوا بسكوت عن الحق وقد عاهدوا الله ونبيّه على قول الحقّ؟..
الفارق الحقيقي بين هؤلاء وبين من يوجدون لأنفسهم المبررات والأعذار هو قول العزّ بن عبد السلام رحمه الله وغفر له، يوم سئل كيف واجه الحاكم وموكبه فأمره ونهاه فقال: "لقد تمثلت عظمة الله في قلبي فصار السلطان كالقطّ" –"عظماؤنا في التاريخ" لميطفى السباعي-
وليست المبرّرات والأعذار التي تقعد بصاحبها عن قول الحق بل وتجعله في كثير من الأحيان يقول الباطل أو يبرّر للباطل ما يفعل، إلاّ حقيقة أنّ في قلوبهم عظمة السلطان أوّلا، فلم تعد ترى عظمة الله عزّ وجلّ.
هل "الضعف" مبرّر؟..
ومن المبرّرات التي يراد بها ستر "الخوف" القول بالضعف.. نحن ضعفاء اليوم فكيف نواجه جبروت الحاكم وبطشه ومخابراته وسجنه؟.. ألا يقدّم الظالمون يوما بعد يوم الدليل على أنّهم لا يتورّعون عن البطش بمن يعارض بكلمة الحق؟..
بلى.. فلننتظر حتى يصبح الظالم عادلا من تلقاء نفسه..
بلى.. فلننتظر حتى يواجهنا الحقّ يوم القيامة بقول الله عزّ وجلّ:
((إذ تبرّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب. وقال الذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّؤوا منّا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار)) –الآيتان 166 و167 من سورة البقرة-
((وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنّا نصيبا من النار. قال الذين استكبروا إنّا كلّ فيها إنّ الله قد حكم بين العباد)) –الآيتان 47 و48 من سورة غافر-
((وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءٌ علينا أجزِعنا أم صبرنا ما لنا من محيص))-الآية 21 من سورة إبراهيم-
اللهم لا تجعلنا من أهل النار.
اللهم لا قول ولا تبرير بعد قولك هذا في كتابك العزيز.
بين الطاعة والمعصية
وشرّ المبرّرات التي يلجأ إليها من يخافون الحاكم الظالم فلا يكتفون بعدم الجهر بالحقّ في وجه ظلمه، وإنّما يدفعون العامّة إلى التسليم بظلمه.. شرّ تلك المبرّرات قولهم إنّ له حقّ الطاعة عليهم.. بالبيعة له!..
يقرّون في غير حضرته أو في كلام غير مباشر عنه، بأنّه لا يحكم بالإسلام، ولا ينصح للأمّة، فهم بذلك يقولون بطاعة من قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه:
(ما من عبد استرعاه الله رعيّة فلم يحطها بنصيحة إلاّ لم يجد رائحة الجنّة) –عن أبي هريرة، رواه البخاري بهذا اللفظ، وهو في "اللؤلؤ والمرجان" تحت رقم 1200-
إنّه لا تجوز طاعة هؤلاء في أمر واحد من الأمور التي ينحرفون فيها عن الحكم بما أنزل الله، فكيف بأصل وجودهم على غير الإسلام والحكم بالإسلام؟..
ولقد وجّه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه كلامه إلى عامّة الناس عند تولّيه الخلافة إذ خطب فقال: "أيّها الناس قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدفتُ (أسأت) فقوّموني" إلى أن قال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" –عن كتاب " تاريخ الخلفاء" للسيوطي-
لا طاعة.. رغم البيعة الإسلامية الصحيحة التي سبقت، فأين البيعة الإسلامية الصحيحة هذه الأيام؟.. وكيف يأتي من يقول إنّ حكام هذه الايام لا تجوز معصيتهم لأنّ وصولهم إلى الحكم كان بطريقة مقبولة(!) على وجه من وجوه الاجتهاات الفقهية!..
ألا إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
(لا طاعة في معصية الله إنّما الطاعة في المعروف) –عن عليّ بن ابي طالب كرم الله وجهه، رواه مسلم بهذا اللفظ، ورواه البخاري وغيره، وخرّجه الألباني تحت رقم 179 و180و181 في سلسلة الأحاديث الصحيحة-
(السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره، ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)-عن عبد الله بن عمر، رواه البخاري بهذا اللفظ وهو في "اللؤلؤ والمرجان" تحت رقم 1205-
(سيليكم أمراء بعدي، يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم، فلا طاعة لمن عصى الله)-عن عبد الله بن الصامت، رواه الحاكم، وخرجه الألباني تحت رقم 590 في سلسلة الأحاديث الصحيحة-
ألا إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عمّم كل التعميم، وفصّل كلّ التفصيل في هذه الأحاديث وسواها، ولا يُقبل في هذا الموضوع –ولا سواه- كلام يخالف كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الواضح الصريح المفصّل.
وإنّنا لنجد هذه الأيام سائر أصناف الطاعة، رغم توفّر سائر الأسباب التي تستدعي عدم الطاعة، من قيام الحكام بالمنكرات.. بينما الطاعة في المعروف، ومن أمْرِهم بالمعاصي.. بينما لا طاعة في معصية، ومن ارتكابهم المعاصي بأنفسهم.. بينما لا طاعة لمن عصى الله.
والسكوت وحده لا يكفي من جانب من مقامه مقام الجهر بالحق، وإن أراد بالسكوت تجنّب أذى دنيوي، فكأنّما أصبح الأصل في الإسلام هو السكوت عن نزول الأذى بسائر المسلمين بحكمهم بغير ما أنزل الله، بل وبمحاربة الإسلام في أرضه، واضطهاد العامّة والخاصّة، طالما أنّ ذلك، كلّه أو بعضه، لا يمسّ "الساكت" نفسه مسّاً مباشرا، أو كأنّما أصبحت الفتنة بالتعذيب أو القتل أكبر في نفوس الساكتين عن الحقّ من الفتنة التي يُفتن بها المسلمون اليوم في دينهم على كلّ صعيد من جانب معظم الحكام.
ولا يقولنّ قائل: إنّ هذه الأحاديث تعني السكوت والامتناع عن الطاعة فحسب، فالقضية هي قضية انحراف الحاكم عن الحكم بما أمر الله، وذاك ممّا يجب تغييره، ولا يتغيّر بمجرّد السكوت وعدم الطاعة، وهذا ما فهمه العلماء الذين قال الله تعالى فيهم: ((إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماء))- من الآية 28 من سورة فاطر- وفهمه كذلك عامّة المسلمين كالأعرابي الذي قال لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بحدّ سيوفنا". فإذا جاء أحدَنا حاكمٌ أو عالم بكلام يخالف هذا الفهم الإسلامي، نقول للحاكم أو العالم، إنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ما زاد على أن أجاب الأعرابي مقرّا بقوله وواصفا حال الأمّة المسلمة الراشدة:"الحمد لله الذي جعل في أمّة محمّد من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه" –القصة مشهورة في تراجم عمر، ومنقوله هنا عن "عبقرية عمر" لعباس محمود العقاد-
نقول له: إنّ القضية ليست قضية مبررات، ليست قضية "تقية" ولا قضية "ضعف" ولا قضية "بيعة وطاعة".. إنّما هي قضية خوف، وربُّ العزّة يقول:
((أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين))-من الآية 13 من سورة التوبة
((إلاّ الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشونِ))-من الآية 150 من سورة البقرة-
((إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين))-الآية 175 من سورة آل عمران-
اللهم إنّا نسألك ألاّ تدع في قلوبنا مثقال ذرة خوف من سواك، ولا مثقال ذرّة طمع في غير رحمتك وجنّتك