أنا التاريخ
نطقوا باسمي على خشبات المسارح، زوّروا توقيعي، ألبسوني مهلهل الأزياء....سقوني من أغراضهم قوارير دماء. سفن القراصنة كانت أقلاما سطّرت قصص بطولات طوى الموج صحائفها. كذبوا ... أكثروا في الموت طقوس الإجلال ، ساقوني في دروب الخوف بلا سبب، قدّسوا جبن الجلاّدين وقسوتهم. ألجموا كل مصلح حكيم، قتلوا الأنبياء، سجنوا الفلاسفة، ونفوا رواد الفكر إلى جزر بعيدة، ولوثوا حجرات المعابد بلهاث الخطايا!
وحين أطل فجر الرشد على غابة الأفهام، انتحلوا جلابيب الكلام في أمور أشكلت على الفهم وبثت الحيرة في مسارح العقول... وقالوا في الغيب أكبر الأكاذيب، زوّقوها بخيوط سندسية مسروقة من بساتين العلم الغنّاء! لم يعلموا بما شربت غيوم الأندلس من حروف يوم أطعموا النار كتابات ابن رشد، ولم يخطر ببال دعاة القضاء أنني ختمت على صكّ براءة جاليليو قبل أن يتفوهوا بإدانته، ونشرته بنت الحقيقة على كتف القرن العشرين...
كانت للأكاذيب أردية واسعة في ساحة الدهر، فأكلت أرضة الأفكار منها حتى لم تبق فيها ما يستر الحقيقة إلا لبضع سنين، بل لبضع سويعات! الكل يطير، يحلق في سماء الحياة : الغبار الحشرات وخلايا الفطر والطحالب! ومثلما تحلق أسراب الطيور تحلق الأسواق وغرف الندوات والصور والأشكال والأنغام ونواح الأرامل والأيتام... الكل يسمع ويشاهد كيف تتلاقح الأكاذيب وتتناسخ الأساطير...
لكل عصر أساطيره وخرافاته ليبقى الشرّ أبدا في غمرة النشوة ممنطقا بغلالة السخرية من سذاجة بني البشر... هي الأساطير تتوالد فيرث خلفها من سلفها الغموض والعجز أمام المستحيل، بينما الحقائق تتكشّف في توالدها عن أنوار تزداد ألقاً وانتشارا فتقلّص من مدى المستحيل وتحصر الجهل في جيوب أضيق من لباس الزمن الآتي. أما الموت فيتم دورة النواميس الطبيعية ليختم فصلا تَمّ العمل به في دور السابق، ويبدأ فصلا يُنتظر أن يكون لبنة في نسيج اللاّحق. يرى الإنسان الموت مصيبة حتمية الحدوث وهو يجهل مطلقا مصيره الغيبِي ولن يستطيع الحياة ككائن سويّ بغير مرجع للطمأنينة الروحية؛ لذا كانت للمعتقدات المكانة العليا في خصائص المجتمع الإنساني!
لم يسبق أن وجدت على الأرض شعوب دون معتقدات، بل كانت على تخلفها وجهلها تتمسك بعقائدها وتقدم القرابين والتضحيات طائعة راكنة لإيمان لايبقره شوك الظن... وكم مرة وقفت هنا على حافة بركة الأكاذيب حيث تتمازج الحيل بافتراءات الكهنوت، لتشكيل الخرافة واختلاق الأسطورة، وهي العيب الذي مازال أهل الأرض يشتمونني به...