الترفيل
ليست جعبة الشاعر مليئة بالقصائد الجديدة في كلّ الأوقات ، فلذلك نراه عندما يرفرف شيطان شعره ويعود إلى مقره في عبقر ، يلجأ الشاعر إلى التسلية بالمطالعة في هذا الكتاب أو في ذاك ، وكانت لي سياحة من هذا القبيل في كتاب للعروض ، وقد استوقفتني كلمة ترفيل ، وإن كنت أعرفها من قبل إلا أنها في هذه المرة أشغلت حيّزاً من فكري فتابعتها قليلاً وكان من نتاج هذه المتابعة هذه السطور التي أمامكم :
التَّرْفيل في العَروض : هو زيادة سبب خفيف على تفعيلة مجزوء الكامل، فتصبح مُتَفاعلن مُتَفَاعِلاتُنْ ، والبيت الذي فيه ترفيل يسمّى " مُرَفَّلاً " ، وإِنما سُمِّي مُرَفَّلاً لأَنّه وُسِّع فصار بمنزلة الثوب الذي يُرْفَل فيه.
ليس في هذا ما هو جديد أليس كذلك ؟
أجل ، لأننا بصدد المعنى العامّ لكلمة الترفيل وليس بصدد معناها في علم العروض .
أذكر أننا كنا نكتب في رسائلنا :" أتمنى أن تصلكم رسالتنا هذه وأنتم ترفلون بثياب الصحة والعافية " . فكيف يرفلون إذن؟
وأذكر أن أبي رحمه الله كان يقول دائماً متمثلاً بمثلٍ شعبي فيه شكوى من الزمان وعدم التمسك بالدنيا :" اللي يتحَزَّم بالليالي رفالي " .وهو شبيه بمثل آخر :" اللي يتغطّى بالليالي عريان " .
وأردت أن أعرّج على لسان العرب لأرى ماذا يقول في شرح هذه الكلمة فوجدت شرحاً كثيراً فأخذت منه ما يبيّن المعنى الأصلي لهذه الكلمة :
أَرْفَلَ الرجلُ ثيابَه إِذا أَرخاها. وإِزار مُرْفَلٌ: مُرْخىً.
وأَرْفَل ثوبه: أَرسله .
ورَفَّل إِزاره إِذا أَسبله وتبختر فيه.
وترفيل الثوب هو إِسباغه وإِسباله.
نفهم من ذلك أن الترفيل هو لبس الثياب الواسعة الفضفاضة ، ولكن الحقيقة التي لم يذكرها صاحب لسان العرب هي أن المعنى الحقيقي لكلمة الترفيل هي لبس الثوب دون حزام ، فيُرخى ويُسبل ويطول قليلاً بعد فكّ الحزام ، ومن هنا يكون الخليل قد استعار هذه الصفة وهي استطالة الثوب بعد ترفيله أو إرفاله ليطلقها على تلك التفعيلة التي استطالت بعد أن زيد عليها السبب الخفيف ، وأصبحت كالثوب المُرْفَل الذي يزداد طوله بعد الترفيل فيصل إلى الكعبين بعد أن كان مُشَمَّراً ومرفوعاً بعض الشيء بفضل الحزام ، والثوب الذي يتمنطق عليه بمنطقة أو حزام لا يكون مرفلاً .
وقد وردت كلمة الترفيل ومشتقاتها كثيراً في الشعر العربي ، ولكنها كانت في معظم الأحوال تعني الثوب المُسبل الفضفاض ، وها هو أبو العلاء المعري يقول :
ورُبّ ساحِبِ وَشْيٍ مِنْ جآذِرِهَا..........وكان يَرْفُلُ في ثَوْبٍ من الوَبرِ
أما الشريف المرتضى فيقول :
ومشيتَ في الخطط الصِّعائب رافلاً.........ومَن الذي لولاك فيها يرفُلُ؟
ويقول ابن الرومي :
ليـس حميـداً سائـقٌ كعاتـل........شمّـر لكي تَسبُلَ ذيلَ الرافل
ولابن الرومي كذلك :
وكائـنْ كسوتُـكَ من حُلـةٍ ..........مشيـتَ بها مِشيـةَ الرافل
ويقول حافظ إبراهيم :
وباتَ بَنُوكَ الغُرُّ ما بين رافِـلٍ ............بحُلَّة يُمْنٍ أوشَكُـورٍ لمَوْلاهُ
ويقول البارودي :
يَمْشِي الضَّرَاءَ إِلَى النُّفُوسِ، وَتَارَةً......... يَسْعَى لَهَا بَيْنَ الأَسِنَّةِ رَافِلاَ
ويقول أيضاً :
حَتَّى تَعُودَ سَمَاءُ الأَمْنِ ضَاحِيَةً ........... وَيَرْفُلَ الْعَدْلُ فِي ضَافٍ مِنَ الْحُلَلِ
وفي الختام نرجو أن نكون قد أوضحنا شيئاً من معنى هذه الكلمة وقربناها إلى الأذهان ، وبيّنا سبب اختيار الخليل لهذه الصفة ليطلقها على تلك العلة من علل الزيادة العروضية .
وتقبلوا تحياتي .