أحست سمية أن الحزن يطوق ابنتها الجميلة حتى لكأن الدموع تكاد تنساب على الخدين ، اقتربت منها
واحتضنتها ، ربتت شعرها و الكتفين ثم قالت :ـ مالي أراك كئيبة يا زهرة حياتي ، هل حصل مني شيء أو من والدك كدر صفو يومك ؟
ارتعشت البنت بين يدي أمها كالغصفور الصغير ، طأطأت رأسها وقالت :ا
ـ لقد نهرني المعلم مرتين ، مرة عندما أجبت جوابا خاطئا والأخرى لما سألت سؤالا ممنوعا.ا
ـ ارفعي رأسك يا حبيبتي ، ولا تطأطئيه أبدا مهما حصل ، فليس عيبا أن يخطئ الانسان وليس ممنوعا أن نسأل.
ـ لكنه وصمني بالوقاحة يا أمي وجعل كل التلاميذ يسخرون مني.ا
ولم تقو الهام على كبح دموع همت على الوجنتين.. انتظرت سمية حتي هدأت ابنتها وسألتها :ا
ـ وفي أية مادة أخطأت يا ابنتي هلا أخبرتني ؟
ـ في مادة التعبير يا أمي ،حين سألنا المعلم من منكم يعرف ماهي الأحجار الكريمة فأجبته :ا
ـ الأحجار الكريمة هي تلك الحجارة التي ندافع بها عن حريتنا وحقنا في الحياة الكريمة ، فقال لي ساخرا وأين توجد حجارتك هذه يا الهام ؟ قلت : في جنين وطولكرم وقطاع غزة ، فقاطعني بسخرية أمر :ـ اجلسي مكانك يا أستاذة ، ولا تجيبي على أي سؤال حتى تتأكدي من صحته.. حينها ضحك كل التلاميذ عداني ، فقد أحسست بخجل من نفسي وكبحت دموعي بداخلي.. وتنبهت سمية انها أغفلت اخبار ابنتها عن تلك الأحجار التي يقصدها المعلم فهمست :ا
ـ لاتخجلي أبدا من شئء قلته وأنت مقتنعة به يا طفلتي الغالية حتى لو كان كل الناس ضده.. ومع ذلك ، فالأحجار الكريمة التي حدثكم عنها المعلم سميت كذلك لأنها أحجار نادرة تتواجد في أعماق البحار وعلى بعض الشواطئ البعيدة ..أما حجارة الكرامة ، فسأخبرك قصتها هذا المساء ، المهم قولي لي أنت :ا
ـ ماهو السؤال الذي أغضب معلمك منك ؟
ـ كنا بصدد درس التربية الاسلامية ، فقال لنا أن الله دائما ينصر المؤمنين على القوم الكافرين فسألته ، لكن لم تخلى عن أمجد الصغير وهو يموت برصاص الصهاينة .. وعن محمد.. فرد علي بغضب اذهبي الى بيتكم وصلي ركعتين لله.. هذا اذا كانت أمك قد علمتك الصلاة كما علمتك الوقاحة.. احتارت سمية ولم تدر ماترد به على ابنتها وفكرت:"لو تعلم أبناؤنا الموانع فسيشبون وهم يحملون الجبن قي ذواتهم وتحت الجلد"ا
كانت ليلة جميلة من ليالي شهرمارس هواؤها عليل وقمرها ساطع منير،عندما جلست سمية بجانب ابنتها على سريرها الصغير ، في غرفتها الجميلة.. ووضعت الهام رأسها على صدر أمها تحدوها رغبة طفولية في الاحتضان ، فسالت الكلمات رقيقة حنونة
ـ سأحكي لك قليلا عن ملائكة يسكنون الأرض ، يهبون ذات فجر وقد صمموا أن يحيوا حياة كريمة أو يقدموا أرواحهم دون ذلك .. يبحثون في الأرض والسماء وفي قلوبهم فلا يجدون سوى حجر وحب ، يلمسون الحجارة بأيادهم فتغدو حجرا كريما أغلى و أثمن من الماس والزمرد والفيروز.. يرمون بها وحوشا ضارية مشحونة بأعتى الأسلحة والحقد ، تخاف هي على عروشها قتتغنى بالوفاق والسلام ، ويأمر الكبار الصغار ، فتتخلى الملائكة عن حجارتها مضطرة حين تتخلى عنها الأرض والسماء ، وتعود الحجارة صماء بكماء من شدة الحزن وكثرة البكاء..
حصل هذا منذ خمسة عشر عاما يا ابنتي ، وتمر الأيام تتلوها الشهور والسنوات دون أن يأتي السلام ، ولا تشعر طيور النصر بالاطمئنان الا حينما تأخذ حجارتها ثانية بالأحضان … كل طفل يا ابنتي يحمل باليد حجرا وبالأخرى روحه ، يتعذبون.. يستشهدون ولكن لا ينحنون ، وتزهر الدماء الزكية أشجارا خضراء سامقة..
في الكف حجر
وفي الأخرى
روح زكية
والعيون جمر
والرصاص سحاب
يخترق الأجساد
يخترق العيون
نار و نور
ودم وشجر
وقضية.
قضية تجلب اليها أنظار العالم لكن…
لكن ماذا يا ماما ؟ هل سينهزم أطفال الحجارة أم تراهم سينتصرون ؟
يتفجر السؤال في وجه سمية كما القنبلة ، يطول الصمت فتستسلم الطفلة لنوم عميق.. تضع سمية رأسها على الوسادة برفق ، تلف الغطاء حول جسدها الصغير ، ثم تقبلها وتترك الغرفة وسؤالها يدق الصدغين ، أم تراهم سينتصرون ؟
كان بودها لو أجابتها : ـ الشعوب يا ابنتي طبقات ، طبقة سائدة وأخرى مستعبدة ونحن للأسف ننتمي للثانية، والأوطان يا شمعتي المنيرة لا يحررها الى بشر أحرار.. لكن أكانت ستفهمها ؟
لما يستعصي النوم على سمية تقوم الى مكتبها ، بالقلم وأفكارها تحاول أن تزرر قميص البياض بالحروف والكلمات ، تدون كل ما حدث هذا اليوم وتذيله بالسؤال الصعب هل سينتصر أطفال الحجارة ؟؟ تغفو فيداهمها
الفجر وهي لا زالت تحمل قلمها.. فجر سطع ورديا وبدا حابلا بأمل جديد.