رجل القيروان
ـ لن نغادر المكان ، الا رؤوسنا مرفوعة 0
هذا الصوت أعرفه ، لا يمكن أن أنساه ، قويا رنانا 0توقفت ودخلت مكتبا كبيرا مكتظا بالموظفين 0 وقف أمامهم رجل ضخم الجثة وبيده ورقة يلوح بها إلى أعلى كلما صاح ، وكانوا يصفقون
له في حرارة 00صاح : سوف نحارب إلى آخر موظف 00ودوى التصفيق بحرارة00
وقفت أراقبه ، لم يتغير0 انه كما هو ، رجل قوي قيادي فصيح ، بارع في الإقناع حتى لو كان على خطأ ، يقنعك بطريقة عجيبة دون أن تشعر بأنه ليس على صواب ، هو المتحدث الأول والأخير 0
هاهو ألان يقف أمامي ، لم يتغير ، سوى بضع شعرات بيضاء ، قال : العين بالعين و000
ابتسمت ، راني ، عيناه حادتان ، خرجت ، كنت أعرف بأنه يراقبني ، سألت نفسي : لم الرجل أحيانا
لا يتغير ، في عقله وشكله ؟ التقيت به أول مره قبل خمسة عشرة سنه في مركز ثقافي ، كعادته يحب التجمعات ، حوله بعض الزملاء، شدني صوته وثقافته0 يتكلم عن الأدب والشعر ، لم أعرف في دلك الوقت انه شاعر ، وقفت أمامه أستمع إليه ، تكلم كثيرا ، وسيجارته لا تفارق يده أو فمه0 لكل سؤال عنده جوابه ، يستمتع في الكلام وكنا نحن نستمتع به ، اكتشفت أنه مغرور ، مغرور بكبريائه وثقافته ، ألقى علينا قصيدة طويلة قال إنها للقيروان لم اعد اذكر كلماتها لكنها تركت شيئا جميلا في نفسي ، لم أعرف كم مضى من الوقت ونحن حوله 0لكل بداية نهاية 00وفجأة سكت ، تفرق الجميع من حوله ، وذهبت ، لكن صوتا هامسا لحقني ، قائلا: يا أنت00 يا آنسة !
التفت إليه ، كان واقفا أمامي بجسده الكبير 0 قلت : كيف عرفت أنى آنسة ؟!
قال : أناملك الرقيقة لاتزينها الذهب 0
ـــ إذا 0 ماذا تريد ؟
ـــ جذبني مطهرك 00وجهك الحزين و00 برودة عينيك0
ابتسمت بسخرية ، وقلت : لا يخدعنك وجهي الحزين أو برودة عيني 0
وذهبت ، كعادته كان بحب أن يكون أول المتحدثين وأخرهم، سمعته يقول : تلك القصيدة كانت لك0
أخبرتني صديقتي أن الرجل كان يأتي يوميا إلى المركز على غير عادته ، وفي أخر مره سأل عني 0
التقيت به مرة أخرى في المركز، كان وحده جالسا يبعثر أصابعه في أوراق كتاب ، شاهدني ، تعمد أن يتجاهلني 0 عيناه تتلصصان وكأنهما تفتشان جسدي0
التفت أنا من حوله ، رفع رأسه قليلا ، يبحث عني ، أدار رأسه إلى الخلف رآني واقفة أمامه ، ارتبك قليلا ، لكنه كان ذكيا استطاع إخفاء ارتباكه0 قال لا مباليا : لم أنت واقفة خلفي 0
قلت : كنت أبحث عنك0
--- عني ؟!
ــــــ نعم0 لقد أخبروني انك تبحث عني منذ أكثر من شهر0
كان هذا الحوار القصير هو بداية تعارفنا ، تكلم كثير عن نفسه0 أخبرني أنه متزوج وغير سعيد بزواجه،
أكثر أوقاته يقضيها خارج البيت في المراكز الثقافية أو المقاهي هربا من زوجته ومشاكلها التي لا تنتهي ، وأخبرني ذات مرة أنه معجب بي ، وأن هدوئي يثيره، يتفنن في الكلام معي ومغازلتي ، كنت أنصت إليه
في اهتمام , وأحيانا أخرى بشك 0رجل يجيد الكلام وامرأة تجيد الإنصات هذا حالنا في أغلب الأحيان ، لكني كنت أعرف متى يكذب الرجل ومتى يقول الحقيقه0 يستمتع في الحديث معي ، وهذا ما لاحظته رغم انه حاول إخفاء ذلك كثيرا ، كرر مرة أخرى قصيدة القيروان ، قال لي كأنه القيروان قد خصني بقصيدته 0
مشكله بعض الرجال انهم يعتقدون أنهم بالكلمات وحدها قادرون على نصب مصيدة للنساء بأسم الحب، كتب
لي رسالة وقصيدة ، قال : قصيدة لم اكتب مثلها00ولا اظن أني قادرعلى أن أكتب مثلها 0
كان ينتظر مني جوابا ، لكن الجواب لم يأت ، ولا أظنه سوف يحصل على الجواب ، لأني كنت قد رحلت0
هاهو بعد خمس عشرة سنه لم يتغير، مازال يحب التجمعات والقيادة ، لحقني إلى الممر ، صاح :
يا سيدة 00
انتظرته ، تقدم نحوي، وراح يحدق في وجهي وقال : لم تتغيري !
قلت : بلى 00 لقد أصبحت سيدة 0
كان وجهه مرهقا تعبا0 قلت : مازلت تحب القيادة ، وتجيد الاقناع 0
ـــ آه 00لقد تقاعد المدير السابق ، وقد سمعنا أنهم سوف يحضرون لنا مديرة ، امرأة تحكمنا0
قلت : لا باس ، مار أيك لو نتكلم في مكتب المديرة0
ـــــ لماذا ؟!
ـــــ لانه مكتبي 0
ومشيت ، لم اسمع خطواته خلفي ، كنت سعيدة لاني كنت المتكلمة الأخيرة 0