وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية قد التقطت أنفاسها ثانية واكتست ثوبا جديدا من خلال حركات المقاومة الإسلامية : حماس والجهاد الإسلامي إلا أن حجم المؤامرة كبير ولا يستهان به ؛ فنحن لا نستطيع أن ندعي بأن عقد التسعينات كان عقد إجماع شعبي ، بل لعل قطاعات ليست بالمتواضعة كانت لا تزال مخدوعة بالحل السلمي وواقعية النضال المعتدل، وأكاد أزعم بأن العمليات العسكرية الضخمة التي كانت تقوم بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي كانت تشكل حالة من الجدل الشعبي والرفض من قبل التوجهات اللاإسلامية. صحيح أن الفعل المقاوم قد تحول مع انتفاضة الأقصى إلى حالة شعبية وخيار مجمع عليه فصائليا ، إلا أن نوعا من الاهتزازات الصوتية تحاول بين الفينة والأخرى أن تحدث بعض الاختراقات في هذا الإجماع وتساعد وسائل الإعلام المتنفذة والأطر الرسمية على ذلك من خلال طرح بعض التساؤلات والتشكيك في بعض الأنماط الجهادية وتجيير نتائج العمل الجهادي المقاوم لصالح القرار السياسي الرسمي .
ومن تلك المحاولات المشبوهة ، ما تقوم به وسائل الإعلام من إضفاء صفة الشرعية على مصطلحات العدو وتسويقها في الأسواق الشعبية دون جمارك ؛ فالحرب ضد الإرهاب وإنهاء حالة العنف بين الجانبين ووقف إطلاق النار وانسحاب الطرفين إلى ما قبل الثامن والعشرين من أيلول كل ذلك تعج به وسائل العلام دون مناقشة أو تصحيح.
من ناحية ثانية تطلق فقاعات التشكيك عبر وسائل الإعلام والمحافل الرسمية حول جدول انتفاضة وإمكانية صمودها وما إذا كانت حققت النتائج المرجوة وأن الشعب قد مل وتعب وخارت قواه فلا بد من مراجعة للذات وتصحيح للمسارات تحت مبررات الواقعية المرحلية واختلال موازين القوة .
ويبدو لي أن اخطر ما يثار في هذه الحملة المسمومة هو محاولة سلب المقاومة من مقدراتها وطاقاتها الفاعلة؛ ولعل ذلك يبدو واضحا من خلال النظر إلى العمليات الاستشهادية التي باتت تؤرق العدو وتقض مضجعه على أنها حالة من العدمية والإرهاب وأنها على حد زعمهم ضد مصالح الشعب الفلسطيني ،وأنها يجب أن تدان هذه العمليات إدانة جماعية سياسية من قبل القوى والفصائل والأنظمة وأن تجرم شرعية من خلال فتاوى دينية تلبي رغبة شارون وبوش من علماء السلاطين في المستويات الدينية العالية كالأزهر ومجمع البحوث الإسلامية .
وحتى لا نغيب عن احتياجات العصر وضرورات الوعي والفهم لا بد من مناقشة ذلك كله ووضعه في إطاره الفكري السليم .
فالخيار السلميى،حتى وأن كنا نعتقد بأنه مجرد وهم في ذاكرة المفاوض الفلسطيني ليزيد من خلاله رصيد في البنوك الدولية ، ولا يمثل على مستوى الواقعي سوى سراب حرقته آلة القمع الصهيوني ومحت آثاره من خلال الاجتياحات المتكررة والاعتداءات المتنوعة ،ومع ذلك ، فهب أن هذا الخيار ما زال خيار استراتيجي ووحيد وهل تبنيه يعني إسقاط ورقة المقاومة ،الورقة الوحيدة الضاغطة في معركة اللاتكافؤ التفاوضي ،هذا مع إيماننا المسبق أن أكذوبة السلام مرفوضة شرعا وعقلا وسياسية ،وقد أصدرت رابطة علماء فلسطين فتوى بهذا الشأن خونت فيه من يعقد صلحا مع اليهود ويفرط في المسجد الأقصى أو أي ذرة من تراب فلسطين وصدرت فتاو إسلامية عالمية لنخب من العلماء المشهورين وعلى رأسهم الشيخ العلامة يوسف القرضاوي وقد فرق جمهور العلماء بين ما عرف قديما لصلح الحديبية ،وهو هدنة مشروطة بزمن وتفريعات يجيزها الشرع ،إما إقامة سلام دائم مع عدو غاصب ومكافئتهم بإعطائه صك اعتراف وطني ومسؤول بأن له حقا في أكثر من ثمانين بالمائة من أرض فلسطين ،ثم موالاته والذوبان في مشروعه وتحول الكيان السياسي إلى أداة أمنية بيد الغاصب المستبد .
وفي هذا يقول سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل )1
،( يا أيها الذين أمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يأسوا من الآخرة كما يأس الكفار من أصحاب القبور )، وقوله أيضا في سياق من قتل وهجر واغتصب ودمر :(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يحرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ،إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .)
إذن كيف يجوز لن أم نهادن القاتل ونسالمه بعد هذا النهي، يقول الله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، إنها الخيانة التي وسم الله بها وجوه أصحاب هذا الاتجاه . وكيف لمؤمن أن يسالم القتلة المردة أصحاب منطق الغدر المتكرر ( كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) العمل ينقض ما وقعه الليكود والليكود ينسف ما أقره العمل لتعود حركة المفاوضات العبثية إلى جولة سيزيفية جديدة يحمل فيها المفاوض صخرة العم ثانية من أسفل الوادي ليصل إلى انتكاسة جديدة على طريق التخبط التفاوضي .