ملأت عينيها من أشجار السرو المنتصبة برشاقة على جانبي الدرب الموصل إلى بيتها
تنهدت ..
تنسمت رائحة الهواء .. إنه الشتاء .. رائحة البرد تملأ الجو
تذكرت ذات شتاء كانت تناجي فيه أشجار السرو البعيدة بسعادة ..
كم كانت تلك السعادة كاذبة ! و كم كانت قصيرة تلك الكذبة !
عبثت الريح بأوراق الأشجار فأطلقت حفيف أنين ..
خيل إليها للحظة أن الأشجار تناجيها ..
حدقت فيها ..
و تذكرت مناجاته .. تذكرت كلماته .. أنفاسه حين يقف خلفها فتداعب الكلمات عنقها ..
لذت لها الصورة فضحكت .. ثم خنقها الدمع فصمتت
شعرت بالسحب البادية في الأفق تحاصرها ..
تتقدم بسرعة مفزعة فتملأ العالم بالسواد
هب الهواء .. و تطايرت بعض أوراق الزهر الذابل لتمسح وجهها و جبينها
حدقت في زهورها ..
هو ذا الشتاء يذبل كل شيء .. الورد .. الشجر .. الخفق
لكنه يأجج الشوق و الألم
مدت جسمها من النافذة لتتناول زهرة بيضاء ذابلة
حدقت فيها بصمت
رغم ذبولها كانت متمسكة بأخواتها ..
ارتجف قلبها ..
أتحرم زهرة مدنفة حنان الرفقة ؟
أتحرمها ما تتوق هي إليه ؟
عادت تعتدل ..
تحدق بالأشجار البعيدة و الظلام يلف المكان رويداً رويدا
الريح تعاند البيت الصغير ..
و الأشجار ترقص رقصة وداع لقلب يذبل
حتى الغيم أفسح لآخر شعاع الشمس سبيلا إلى القلب الكسير ..
ارتجفت ..
ما بالها تحيط كل شيء بكلمة ( الوداع ) ؟
تمايلت الأشجار بعنف ..
و تلاحمت أغصانهن باعثة صوتا باكيا ..
استندت إلى النافذة ..
أخذت ترقب شبحا قادما من بعيد ..
من يأتيها الآن ؟
حدقت بالخطوات ..
بالقامة ..
بوجه أخذ خيالها يشكل ملامحه خلف ستائر الظلمة الزاحفة ..
و ارتفعت دقات قلبها حتى بدأ القلب يدق الأضلاع حوله ..
شعرت بالكون كله يتفاعل مع الخفق الأخرس ..
كل ما حولها يدق ذات الدقة ..
يرقص ذات الرقصة ..
و طالعها الوجه الهادئ ..
انفرجت شفتاها .. لكن الكلمات صمتت .. و أخذ الخفق يصرخ بدلا عنها ..
أشار لها بصمت أن اتبعيني ..
حدقت فيه .. همست : كنت أنتظرك ..
ابتسم .. و عاد يشير بصمت ..
عادت تهمس : ذهبت دون وداع .. لكنني كنت واثقة أنك ستعود دون موعد أيضا ..
أشارت إلى البيت دون أن تلتفت : انظر .. هذا كرسيك لا يزال في مكانه ..
و العشاء الذي تحبه معد لم يلمسه أحد ..
و الصغير بالداخل يجلس إلى ..
خنقتها العبرة .. و احتقن وجهها الشاحب قبل أن تطرق هامسة :
كلا .. صغيرك مضى .. مضى إلى حيث لا أدري .. إلى حيث يجد نفسه .. قد كبر و غدا رجلا .. و ..
شعرت ببرودة مفزعة تضمها ..
رفعت عينيها فإذا به يدخل إليها ..
يجذبها من يدها .. و يجلسها على كرسيه القديم ..
ابتسمت .. و ابتسم .. تعانقت البسمتان ..
ملأت البرودة المكان كله
رفعت عينيها إلى النافذة ..
همت أن تغلقها لكن جسدها لم يطاوعها
عاد يشير لها أن تتبعه
استندت إليه و نهضت
شعرت بغتة بأنها خفيفة ..
بأنها سعيدة ..
سعيدة
ابتسمت و دمعة تسيل على خدها
سارت ببطء إلى جواره
تأملت بيتها ..
شعرت بالحنين إليه و هي بعد فيه
لكن التفاف يده حول أناملها المتجمدة حملتها على المضي معه
و مضيا ..
أخفتهما أشجار الحور ..
و ظل خلفهما .. جسدها المثقل بالحزن يسكن على كرسيه قديم ..
و الموت يسكن على وجنتيها
غموض