ثقوبٌ سوداء في نسيج الذاكرة
"1"
ليلٌ آخر يحتلّ طقوس وحشتي, و حماقةٌ جديدةٌ تنصبُ لمرقدها أرجوحةً بين احتراقاتي, أحداقي تتحسّسُ بقعَ الآثام المتراميةِ على بقايا جسدي, و تأمّلاتي تتعثّر بشحوبٍ يسترسلُ في مد الكفن الأزرق من أقصاي إلى أقصاي, ألباب البشر تبتدعُ تحريف لون الأفق, و تتخذُ على أكذوبتها الغارقة في آلام المخاض برهاناً مدحوضاً تمقته فلسفة الغرباء, عنادي لا زال يصرّ على خنق زوبعة البرد قبل أن يعود طائري المُهاجر ليمحو البصمات السبع المطبوعة على جدران روحي.
"2"
اليوم أنتظرُ تهميشاً قاتم اللون على رصيف صدفةٍ أخرى, فظنون نصفي بدأت تسوّر نصفي بما يبعدني عنّي, كان عليّ التحاف فجيعةٍ قبل استعارة غفوةٍ على أطياف شوق, لئلا أدركَ حاجة النفس إلى من يعيد بلمرة أجزائها المبعثرة على شطآن نزف, صمتُ أنا بات يزنّرُ أوردتي بشيءٍ من سعير الدهشة, و المسافة بلغت حدّ الصقيع الذي ينخرُ في عظامي, أنانيةٌ مطلقة تستطير على ملائكيّتي, و توقٌ لمقارعةِ عنجهيّة البشر يحتضن أجنحتي, و تلوحُ في خاطري تأشيرات خروج, و فنّ اجتثاث الصور الرماديّة.
"3"
ذات اعتلاج سألتُ أمّي:
لماذا يُجافينا الموت رغم حاجتنا الماسّة إلى خوض تجربته؟
فأجابت:
الموت يعرفُ مقدار سذاجتنا حين نظنّ أن متاعبنا تنتهي عنده و لا ندري أنها تبتدئ منه,
أتدركين كم ألف موجة وجعٍ تتسلل إلى أجسادنا الترابيّة أثناء سكراته, و أيّ ثمنٍ نبذل لنغسلَ عن أنفسنا أدران رغبةٍ تعتلي عروش الصمت الداكن, قوانا تتساقط في محرابه أوراقاً خريفيّةً هشّة, و مخالبه تنغرسُ في لحمنا و تهشّر ملامح الاحتضار القاتم, المندسّ بين خلايا الغلاف الزيتيّ وخزات ألم تتدحرج على محيط خطايانا, و لن نملك آنه إلا أن ننزف ذاتنا المعتصرة من صخب الصراخ المكتوم في حشا الصمت...
ثمّ ازدادت نبرة التأنيب حدّةً في صوتها و قالت:
الزمي أنوثتك, و لا تبحثي عن الموت, فهو يأتي إلينا و لا نأتي إليه,,
و رغم ارتعاش معالمي تحت زخّات الخوف, إلا أنني ما زلت أشعر أن الموت حلقة مفقودة من سلسلة حياتي^^
"4"
رفيقة ألمي تطلبُ إليّ أن أنظر هذه الليلة إلى السماء علّ لون القمر يطمر شيئا من أخاديد العتمة الممتدّة إلى أبعد كسرةٍ من أشلائي, خرجتُ أسترق النظر فلمحت المحاق يزحف نحو حنجرتي, و يغرس في خاصرة الحلم غابات شوكٍ أسود, و يستعير لنفسهِ آخر بصيصٍ يتهادى على شرفتي, لعلّي نسيتُ أن حزوز الدم المالح تحجب نور القمر عن وجهي, سألتني حين انتهاء تعويذة الموت: لماذا تلزمين الصمت, فصمتّ..
"5"
أشتاق إلى ياسمينتي العذراء, ليته كان لي أن أخبرها عن عفريت الصحراء , أتخيّل كم من السنوات الضوئية أحتاج لأن أنسى ذلك الكابوس, أو تأويل أمّي التي أقسمتْ أنني حمقاء, أو على الأقلّ أمتلك تلقائيّة الحمقى, ما زالت تسائلني عن سرّ إدماني على تلك الفاكهة الكاسدة, و لماذا لا أكترث لغصّات القهر النابت بين عروقي حين أقضمها, ليتها تعلم أنني أحتاج شفقة عالَم, و أن قوّتي تضمر وهناً ليس لأيّ كان أن يبلغه.
مراهقتي لم تبدأ حتّى تنتهي, و شبابي سابق لطفولتي, و لا بأس بمراهقة متأخّرة أتعلّم في مراحلها كيف أصيّر هواجسي شرقيّة الملامح, و أطفئ عطش الروح بما يوائم قرارات محكمة التقاليد, و أعلم تماماً أن رمال التوبيخ ستظلّ تنهمر على سيمفونيّتي, حتّى آخر لحظة تسبق غرقي في الجحيم.
"6"
ألف شتاءٍ أو أكثر مضت قبل زحف أصابعي إلى أبعد ركنٍ في صفحات وجعي المستعصي, تسللتُ باحثةً عن شيءٍ يثيرُ فضولي, فإذ بصعقة تأنيبٍ تصفع بؤبؤي, الأرضُ تغطّ في سُباتٍ عميق, و آذاننا تُكابر عن سماع شخيرها, و لن يدغدغ وجودي المطفأ رمشَها النائم, ما دام اللغوب يسري في أوعية مئة ألفٍ أو يزيدون, بذوري المبعثرة في الصحراء لا تتعدّى إخماد رغبةٍ جنونيّةٍ في شنقِ الأنامل الملطخّة بجريمة انعتاقي, أُفوليَ المُباغت لم يكن إلا مرحلة تحوّري إلى ثمرةِ صبر لا تُبالي بوخزِ أيّ كائنٍ يحاول شراء غنائم معركتي, حيائي يردع وقتي اقتراف جُنحةٍ أخرى أبني على أكتافها المزيد من أخطائي, كدتُ أكذب على نفسي و أقول لسيّد المكان أن داءً عضالاً يلتهم دمعةً مهترئة ملّ الزمان برودها, و أنّ نقاهتي السافرة قد تستمرّ إلى اللاإياب, و لكنني عجبتُ كيف إلى الآن لم يبلغه خبر موتي!!!!