الايام يا زمان
الشمس يشربها البحر،قبل أن تلفظ آخر أشعتها،كانت العجوز تجرجر قدميها المتورمتين ،وقد غاصت عميقا في الرمل،أما الصغيرة فتكركر,قافزة هنا وهناك,تتأملها بحزن,تنظر إليها بعينين دامعتين من شدة التأثر،وتذكر ابنتها التي ما صدقت مجيء الصيف ،حتى تخلصت من صراخ الصغيرة وشغبها الطفو لي.
تنهشها الذكريات كهذه الذبابة التي لا تعلمين أين أتت إلى الشاطئ.من الواضح أنها قارنت بينها وبين حفيدتها،والدليل على ذلك عضها لبصرها،وبسمة انفرجت عنها شفتاها المتيبستين.فوجئت بالطفلة تجري نحو الموج لتضربه بقدميها الصغيرتين مهمهمة بكلام لم يصل إلى مسمعها ،توكأت على باطن راحتيها واقفة ،نهرت الصغيرة قائلة:
-واخا عليك آهديك الشيطانة،رجعي ولا نجي نشويك
-كركركركركر
مر من أمامها طفل ،فرجته أن يعيدها إليها، ففعل.
تسترخين الآن قليلا,وبالضبط فوق سريرك المهتريء،تضعين تحت الرأس يديك متشابكتين،تغمضين عينيك ,حاولي أن لا تتحركي,فقد تعبت اليوم كثيرا,تتركين ساقيك تتمددان بحرية,لسعة برد ترغمك على جذب ملاءة السرير لتغطية قدميك,من أين يأتي البرد؟تجيبك عيناك وهما ترنوان إلى الباب,لقد كان مواربا.
تحاولين التذكر,وهذه الذاكرة الخؤون توجعك,كان يدا خفية تقودك إلى الصبا..آآآآآآآآآه,تطلقينها حارة مدوية. آآآآآآآآآآآآآه على تلك السنوات
تتراقص الصور أمامك,ما زلت تتذكرين ضفيرتك الملونة بفراشة حمراء,تنورتك التي جاءت بها العمة ذات عيد,لم تريدي أن تتركيه وحيدا وراء الطاحونة العتيقة.كان من المتفق أن تودعيه,وكلماته مازالت
-راه السفر هذا يا رحمة ,وخصني نمشي باش ندير علاش نرجع
-ما نقدرش نجي....لانا ما علي إحكام....بويا قرطوف راك عارفو, توصلو نص كلمة يذبحني.....
وانصرفت,بينما لكز جحشه وعيناه تتبعان جسدك الذي بدا يختفي الآن.
ماما...ماما...ماما...في الزوع
تعود إلى الصغيرة,تنهض متثاقلة لتسحب إناء الحليب المغلي الممزوج بالشكولاطة من الثلاجة القريبة, ولا تنس أن تقلي بعض البيض,فذاك كفيل بإبعاد هذا الشبح غير المرغوب فيه, الجوع.
-هاك الزوع...مزيان...باقي تجي لبنيتي...
تنام الصغيرة الآن ملء جفنيها راضية بما أكلت, أما هي ,فتقف مبهورة الأنفاس أمام شذا الذكريات:
-آه مسعود فينك يا السعد....
صحيح أنها أرغمت على زواج لا ترغب فيه ,وصحيح أيضا أنها ما رغبت يوما سوى في بيت يجمعها مع زوج تحبه,كل عالمها يختزل حسب كلمات صديقتها المستر جلة,كما تحب أن تلقبها،في جسد يلبس،وقوام يجذب ،ورحم ينجب،وأيد تطهو وتغسل وتمسح،ولسان يشكو،يتطلب ويكذب...لا تدري أين قرأت هذا القول أكيد أن صديقتها لم تأت به من عندياتها.
لكن هل أذنبت حين كانت تطمح في الستر؟"اللهم ظل راجل ولا ظل حايط" ,حمدت الله في سريرتها، فلم يكن أمامها سوى التعلق بقشة رجل يخلصها من براثن العنوسة، لكن القدر لم يمهلها فمات بعلها ولم تستطب بعد حياتها الجديدة.
ترى أين أنت يا مسعود الآن؟ولماذا لم تستمت من اجل حبنا؟وأنت أيتها الصغيرة نامي قريرة العين قبل أن تستفيقي على كل هذا الوجع...
عاودت الاسترخاء من جديد,واستحضرت كفاحها المرير، في جمعية نسائية ,اطفات الضوء , وأغمضت عينيها على حلم جديد بدا يدغدغ جفونها المسدلة الآن.
هي على الرصيف لا تدري أي سن فيها الآن، الأربعين أو اقل بقليل,يمتد الشارع أمام ناظريها ابيض من اثر الخطوط التي تحدد ممر الراجلين ,الضوء احمر , تضع قدما وترفع أخرى،.تخول لها الإشارة المرور,كانت تحمل على الأرجح جريدة ،وبضع ساندويتشات جلبتها من المحلبة القريبة،في اللحظة التي همت فيها العبور إلى الرصيف المقابل ,التقت بعينين ترنوان إليها ،شيء ما شدها إلى هذا الوجه ،الفم ،العينين ،وقصة الشعر ،صحيح إن الشعر وخطه الشيب،والشارب فقد سواده لكن البسمة التي انفرجت عنها الشفتان الزرقاوان علقت بذاكرتها وحفرت طويلا.الخطوط البيضاء تتقارب،المسافة تتقلص..
غير ممكن ،انه هو،لا....هو عينه...نعم هو عينه,ونطقت في نفس الوقت الذي فيه نطق:
-مسعود؟
-رحمة؟
كم من الوقت مر؟الحقيقة أنني أغمضت عيني من شدة التأثر،ثم لأني لم أتعود التطفل على هكذا علاقة.
تسمعين بكاء يصم أذنيك ،ويتلاشى الحلم بعيدا رويدا، رويدا،تصحين فجأة،على صراخ الصغيرة.
حركة اليدين تتناغم والأغنية التي تدندن بها الآن،أغلقت صنبور الماء،نشفت الصغيرة ،وقبل أن تلبسها ثوبا جديدا يقيها من لزوجة محتملة،نامت..
-أغبطك,كيف تنامين بكل هذه السرعة؟راضية أو مستسلمة؟
أسلمت نفسك مرة أخرى إلى السرير،ترى هل ستنامين الآن؟
أقول أنا ابنتها :كان تغمدها الله برحمته،ذات قلب كبير،ما تنفك تسألني عن حالي مع الزوج والأولاد،ولحكمة ما تعلقت بها الصغيرة كما ترين،فكانت لا تفارقها..لا تسام من ترديد تفاصيل سنواتها الخمسين.اخبروني أنها شهقت شهقتها الأخيرة وهي مبتسمة،ربما لان هواء البحر زاد من صعوبة التنفس عندها،الله يرحمها ويحسن إليها.
أضيف من جهتي، أنا صديقتها وكاتمة أسرارها،أنني كنت استمتع كثيرا بمشاريعها الصغرى التي سرعان ما كانت تكشف عن فكرة كبرى بحجم الحلم الذي تجمعه بين جوانبها،دفعها الترمل إلى التفكير في الأرامل جاراتها،فلم تبخل عليهن بشيء وقد قررت جمعيتنا إقامة ذكرى سنوية لوفاتها.
-ترى ماذا وقع؟
وحدها الصغيرة قادرة على الجواب . بالتحديد:
قال فقيه القرية.(عند موتها،سبحان الله،قادنا نور إلى المثوى الذي أنزلناها فيه،وقد اقسم لي حفار القبور(العوني)بأغلظ الأيمان انه لم يسترح يوما بقدر ما استراح في تلك الآونة، فكان الأرض تحفر من تلقاء نفسها،رحمها الله,آمين، ولله في خلقه شؤون