لك الله .. يا نابلس
د / لطفي زغلول – نابلس


نابلس عروس الشمال الفلسطيني ، وتاجها على الجباه الشامخات للعلى . هذه المدينة الصامدة منذ ما ينوف عن واحد وأربعين عاما في وجه الإحتلال الإسرائيلي البغيض ، ما زالت تحلم بنهارات الحرية . لكن هذه النهارات مقدر لها أن تكون شموسها قاتمة داكنة ، يشوبها كل صباح ما ينغص عليها أيامها ولياليها .
نابلس التاريخ والتراث والأصالة والعراقة والمنتمى ، تحمل من الجراحات أثقالا وأحمالا . كل حجر من حجارتها ، كل شجرة من أشجارها ، كل زهرة من أزاهيرها ، كل طير من أطيارها ، وكل نسمة من أنسامها ، تحكي أنها اعتدي في ليلة من لياليها الليلاء . وأن قدما غريبة قد داست ترابها الطهور . لكنها لم تترجل عن صهوة الإباء والكبرياء .
ما أصعب أن يطأ الغزاة المغتصبون مساجدها ، مآذنها ، معاهدها ، مشافيها ، عياداتها ، أسواقها التجرية ، بيوتاتها الآمنة بيتا بيتا ، وأن ينالوا منها منالا . ما أقسى أن يعيثوا بها خرابا وتدميرا . حزينة هي خلف القضبان والحواجز الأمنية . لكنها لا تعلاف الإنكسار ، ولا طأطأة الرأس .
أيام طوال بنهاراتها ولياليها ، عشتها والأسى يعتصر قلبي ، والأحزان تصول وتجول في مشاعري وأحاسيسي . والأسى والأحزان ليست جديدة على أي فلسطيني ، يرى وطنه المحتل ، وقد زج به قسرا في جحيم التدمير والتخريب والتفريغ ، وتغيير معالم خارطته الحضارية والتراثية .
لم يبق شكل من أشكال الحرب ، إلا وشنتها آلة الحرب التدميرية الإسرائيلية على الوطن الفلسطيني والفلسطينيين . كان آخرها هذا النمط من الحرب الشرسة غير المسبوقة واللامحدودة على بناه التحتية ، ومرافقه الحضارية والثقافية ، وتحديدا التراثية منها ، تلك التي يتربع التاريخ بأمجاده في أحضانها . وكثيرة كثيرة هي ملحقات البنى التحتية ، والمعالم الحضارية والثقافية ، وتلك التي تنتمي إلى التاريخ والتراث التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية غير آبهة ، ولا مبالية بما لها من قيم حضارية إنسانية ، أو بما تمثله بالنسبة لأهلها الذين عايشوها أطفالا وشبانا ورجالا وكهولا ، ردحا من الزمن ، فأصبحت جزءا لا يتجزأ من مركبات ذاكرتـهم الوطنية والتاريخية .
وأنا باعتباري مواطنا فلسطينيا من سكان مدينة نابلـس جبل النار ، وبما لي من العمر ، فتحت عيني ّ على مدينة عريقة ، ضاربة جذورها في أعماق التاريخ والأصالة ، تفوح من قصباتها رائحة هذا التاريخ العطرة ، أنّى سار الإنسان وتجول في حواريـها وأزقتها ، وأسواقها القديمة ، مارا بمساجدها وزواياها ، وقصورها ودواوينها ، ومصابنها وحماماتها ، ووكالاتها ودكاكينها ، وعيون مائها وسبلها ، وساحاتها الداخلية وبواباتها ، والكثير الكثير .
إنها نابلس جبل النار ، هذه المدينة التي تعتز بفلسطينيتها وعروبتها وإسلاميتها وإنسانيتها ، انطلاقا من اعتزازها بتراثها وتقاليدها . إنها تتباهى بكنوزها التراثية التي منحتها مكانة قل نظيرها بين المدن الأخرى ، فتوجت عاصمة للتراث .
الاجتياح العسكري الاسرائيلي للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بعامة ، ولنابلس بخاصة ، أصبح مسلسلا على أرض الواقع . إلا أن هناك فارقا شاسعا بين مشاهدة هنيهات منه على شاشات التلفزة وبين معايشته دقيقة بدقيقة ، وساعة بساعة ، ويوما بيوم ، وشهرا بشهر ، وهو يصول ويجول في الميادين والشوارع والأحياء السكنية بدروعه وآلياته الحربية يتفيأ ظلال مروحياته وطائراته الهجومية يعزف على أوتار حديد يقدح نارا ، ويصلي الأرض جحيما .
وحقيقة الامر ليس ثمة فرق بين اجتياح وآخر . فهو لم يخرج عن خطه في التربص للإنسان الفلسطينيي مع موروثه من الأهداف التحررية والسيادية والأحقية في استرجاع مكانته على خارطة الوجود الإنساني في إطار المشروعية النضالية لتحقيق هذه الأهداف . وإذا ما أضيفت إلى هذا التربص منظومة التاريخ والتراث والأصالة والتفرد التي حلقت نابلس على جناحيها ، وكللتها كاحدى عرائسها ، تصبح الخسارة أفدح والمصيبة أعظم . فها هي معاول الدمار مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة تحاول أن تطال بكل شراسة ذلك التاريخ المستعصي بعراقته وأصالته وتفاني المنتمين اليه .
إن مشاهدة عينات أولقطات مختارة ومنتقاة من سيناريو الإجتياح عبر وسائل الإعلام بعامة ، والعربية بخاصة لا يستغرق عرضها دقائق معدودة ، هي على الأغلب صامتة لا تصور الحدث أثناء وقوعه وفي زحمة حدوثه ووطأة معايشته ورهبة الإنفعال به .
إن معايشة الحدث على أرض الواقع سيناريو آخر ، تلتقي فيه كل الفصول والمشاهد والأدوار وتستغرق من الوقت مساحة لا يعلم مداها إلا الله ، وتثير من المشاعر والعواطف والأحاسيس الإنسانية ما يخرجها عن طورها ومنوالها ووتيرتها . إن التاريخ حزين على ثكله كل صرح من صروحه ، ورحبة من رحابه بين أحضان " شكيم الكنعانية " التي هي نابلس الرومانية البيزنطية العربية الإسلامية المملوكية العثمانية الفلسطينية .
وأحدق اليوم في عيني هذا التاريخ لأراها تذرف دمعات ساخنة حرى على ما حل بالوكالة الغربية من تدمير كلي . وهذه الوكالة هي إحدى أشهر معالم هذه المدينة الأثرية . فمنذ عهد المماليك بنيت وظلت خانا للقوافل التجارية عبر العهود التاريخية تأتيها من كل حدب وصوب محملة بما كانت تجود به تلك الأيام من بضائع ومنتجات ومصنوعات تلقي برحالها في باحاته الرحبة طالبة الراحة استعدادا لشد رحالها مرة اخرى الى بلاد الله الواسعة تصل القريب بالبعيد وتجمع ما بين الطريف والتليد .
إن نابلس حزينة على كل قطرة دم فلسطينية ، وعلى من ثكلتهم من أبنائها وبناتها الشهداء الأبرار أطفالا ونساء رجالا وشيوخا ، وفي قلبها جرح وحسرة على أسراها وفي ذاكرتها صدمة على ما فقدت من تراثها المعماري التاريخي ، وعلى هذا التشويه المتعمد لوجهها التراثي الأصيل . ولكنها وبرغم الجراح والأحزان لم تطأطىء هامتها للإعصار ، ولم تهن في وجه التحديات رغم قساوتها وشراستها . وهي أولا وأخيرا لم ترفع الشكوى إلا لربها في علاه ، ولها من تاريخها المحفور على صخرات جبل النار حكاية مجد وفخار وتحد وإصرار على إكمال مشوار التحرر والسيادة .
نابلس جبل النار وشقيقاتها الفلسطينيات وهي تكافح وتنافح لرد هذا الوحش الإجتياحي لترجو من الله ما لا ترجوه من أحد في هذه الدنيا ، وتطلب منه العون والسند وشد الأزر ، وتسأله أن يغفر لها وأن يسامحها على أنها راهنت ذات يوم على من كانت تظن أنهم الأهل النشامى ، أو أنهم الصديق عند الضيق ، وتتساءل بحسرة وسخرية عن الشارع العربي والعمق الاستراتيجي ، وقبل أن تتساءل عن " الضمير العالمي " تتساءل بألم عن " الضمير العربي" .
نابلس ، وها هو معول الهدم ، والإغلاق والحصار يداهمها من كل حدب وصوب ، يفرض عليها أن تنام على جراحاتها ، وأن تستيقظ عليها . وهذه المرة تسأل وتتساءل لماذا هذا السوق التجارية الكبيرة ؟ . وأين يذهب أصحاب محالها ؟ . لمن يرفعون شكواهم ؟ . وقبل هذه السوق ، كانت هناك أسواق ، وبنايات ، وعمارات سكنية ، ومحال تجارية . كانت هناك مداهمات واقتحامات واجتياحات . كان هناك الكثير الكثير من الإعتقالات والإغتيالات ،
ما زالت نابلس تتصدى لكل من يجرؤ أن يتطاول على أنفتها وكبريائها ، لكل من يحاول أن يغتال تلك الروح التي تعيش على أنسامها .
نابلس وشقيقاتها ترفع أيديها إلى السماء بكل شموخ وكبرياء ورثتهما عن جبليها جرزيم وعيبال وكل ذرة تراب فلسطينية ، وفي القلب جراح ولوعة ، وفي الروح إصرار على المسير حتى آخر المشوار . وسلام على كل أرض فلسطينية . سلام على نابلس جبل النار . ولك الله يا مدينة الصمود ، يا مدينة الكبرياء والإباء .