رسائل إلى ابنتي
الرسالة الأولى
أي بنيه ...
لتكن هذه الرسالة ، الأولى من سلسلة الرسائل التي سأكتبها لك ، لازمة من لوازم كل قراءة للفكر والذهن الذي احمله لك ، وللنفس التي تتأرجح بين القبول وبين الرفض ، لعالم ننتمي أنا وأنت إليه ، دون اختيار منا مذ لحظة الوجود ، إلى لحظة المغادرة ، هذا العالم المتناقض المشظى ، المرفوع من مبادئ الوجود الفطرية ، التي يملكها الحيوان ، ولا يملكها عالم ذبنا فيه ، ذوبانا يأبى أن يقبلنا ، ونأبى أن نتمازج ونندمج فيه .
أنا وأنت ، ننتمي إلى عالم غريب ، فيه من الغباء ما يمكن أن يكفي لطمر الكرة الأرضية ، وفيه من التمرغ بأوحال الرجولة والذكورة ، الزائفة الكاذبة ، ما يمكن أن يرتفع إلى مستوى من المد ليغطي تراثا ورثناه ، بطريقة تحكم فيها الذهول والتراخي والانزلاق نحو تركيب نفسي وذهني ، متناقض متصارع مختلف ، بطريقة لا يمكن فهم قبولنا به ، إلا إذا سلمنا بأننا امتداد من ذلك التناقض الممعن في تحويل شكل الأفكار وتجميلها ، لتبدو وكأنها من معطيات حاضر ، لم يتمسك بتخلف ماض أرهق المكان والزمان الذي تمحور فيه ، إرهاقا أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من انحطاط وتخلف وعبودية وغباء .
أي بنية ...
أنا وأنت ، ذكر وأنثى ، بنا بدأ الوجود وتشكل ، وبنا نمت الحياة وأورقت ، كان سيدنا ادم عليه السلام ، وكانت أمنا حواء عليها السلام ، من خلق الله وتكوينه المكرم ، الذي انحنت الملائكة سجودا لتكوينه وخلقه ، والذي اخرج إبليس من رحمة الله وعفوه ، خلقنا ، ولا خيار لنا بكيفية الخلق ، وماهية التكوين ، بل كانت مشيئة الله سبحانه ، هي المشيئة النافذة بكل ما نحمل من تكوين ، فلا أنا املك فضلا بكوني ذكرا ، ولا أنت تملكين نقصا بأنك أنثى ، فانا وأنت كنا خارج الاختيار المعلوم ، وخارج معنى القبول أو الرفض ، نحن وجدنا كما نحن ، فلا فضل لنا ولا نقص لما نحن عليه الآن ، لسبب بسيط ، بسيط ، أننا وجدنا أنفسنا على ما نحن عليه الآن .
وكان ، ما كان من أمر الشجرة ، وكان عليك أن تستعدي لعقل كامن بين طيات الزمن والوجود ، لتبدأي بدفع ثمن لم يكن لك به أي ذنب ، سوى انك أنثى ، مع أن الذنب مورس ، من الذكر ومنك في نفس الآن ، دون أن تستطيعي أنت ، ودون أن يستطيع الذكر ، أن يقاوم وسوسة إبليس ، لكن لضرورة العقل الذي سينشأ على الوجود ، فيما بعد ، كان عليك أنت ، وبدون أي مبرر أو سبب ، أن تتحولي إلى لعنة ، لا بد من وجودها بين جنبات الوجود ، لعنة ممتدة ، دون إمكانية التخلي عنها أو نفيها من وجود مضطرب مشظى .
وحين هبطا ، ادم وحواء ، عليهما السلام ، إلى الأرض ، بدأت مسيرة الإنسان ، وهي مسيرة معقدة التفاصيل والتكوين ، وما يحيط بها من مجهول وغامض ، اكبر مما نعرف ونعلم ، لكنها الخطوات الأولى لمسيرة التاريخ الذي نحياه ، المسيرة التي كان عليك ، أن تستعدي لحمل الوزر الأول على الأرض ، كما حملت وزر معصية السماء يوم الشجرة ، فحين اضطرم الخلاف بين الإخوة على زواج ، وقام هابيل بقتل قابيل عن سبق إصرار وترصد ، وبعد أن رفض مشيئة السماء ، وأنكر وتناسى القربان الذي قبل ، كان عليك أن تكوني أنت السبب ، ونواة الخطأ الذي قاد هابيل إلى الجريمة ، لسبب غامض غير معلوم أو مذكور ، تركز الوزر في ذاتك وتكوينك ، لتبدأ مرحلة الذنب الملازم لوجودك ، بسبب خطأ ارتكبه الذكر ، بمحض اختياره ، وقوة إصراره ، لتكون علامات اللعنة ملازمة لوجودك بطريقة ستظهر في الأجيال المتعاقبة المتتالية بصور وأشكال مختلفة .
وامتدت الأيام ، فاخرج التاريخ لنا صورا متلاحقه ، تخطو نحو توزيع ذهني فيه من الحشو المتواتر ، بطريقة أصبحت تأخذ منهج التتالي المقرر بتوثيق يبدو وكأنه نابع من ضرورة التكوين والتلاحم للعقل والذهن ، حتى تستقيم أمور الكون والحياة والمجتمع ، صور ، تنحو نحو رسم جداريات ذهنية تتسق وتتناسق مع تكوين اللعنة والوزر والذنب لصورتك التي تدعمت قوائمها في العقل الذي كان مستعدا ، بقوة خفية كامنة بالنفس ، مذ لحظة الوجود في السماء ، مرورا بحادثة القتل التي مارسها الذكر ، وحتى وصلنا كعرب اقحاح ، إلى ذروة امتهان خَلْقكِ الذي أصبح يشكل عارا يجب التخلص بطريقة وصلت وحشيتها ، إلى وضاعة في النفس والذهن ، تأباها الوضاعة ذاتها .
العرب يا ابنتي ، قومي الذي انتمي إليهم ، افخر بجزء يسير مما ملكوا ، واشعر بالخزي العارم ، الذي يجلل النفس والعقل ، لكثير مما اعتقدوا ومارسوا .
هؤلاء يا ابنتي ، أصحاب الفحولة والرجولة ، أصحاب الفروسية التي لقننا إياها مدروسونا حين كنا أطفالا ، فروسية الزير المعتوه الأرعن ، وأبو زيد الهلالي ، فروسية داحس والغبراء ، فروسية الناقة الجرباء التي أوقدت حرب دامت سنوات وحصدت من الأرواح ، ما يكفي للقول بيقين وثقة ، بان الناقة الجرباء ذاتها كانت أعظم شانا وارفع قدرا ، بجربها ، من عقول وفروسية أولئك الذين عاثوا ببعضهم فسادا وقتلا وتنكيلا ، بل إن خفها الأجرب فقط ، يفوق ما كانوا يدعون أنهم يملكون من كرامة وعزة وباء وفروسية .
هؤلاء الأجداد ، الذين عاشوا في قسوة الصحراء وحرها ، وكابدوا كل ما تحمل من مجاهيل الألم والعذاب ، الذين لوحتهم الشمس فجعلت من زنودهم المشدوده ، وجباههم الموسومة بالعرق ، علامة فارقة تحملها سحناتهم ، لتتطابق مع وصف شجاعتهم وفروسيتهم وبسالتهم التي يتقنون ، هؤلاء يا ابنتي ، كانوا من وضعوا ، مفهوم العار الذي يولد يوم ولادتك ، وهم ، من كانوا ، يستخدمون تلك البسالة والفروسية والقوة ، وتلك الزنود اللامعة ، لحملك ، من مكان الولادة ، إلى حفرة صغيرة ، يضعوك فيها ، اتقاء للعار ، وهروبا من تكوين خلقه الله سبحانه تعالى ، تغليبا لاعتقاد عاشوه ووطوده ، ليستمر ، حتى بعد الرسالة السماوية التي حملها الأمين محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن بطرق أخرى ، جديدة ومبتكره ، أكثر عنفا وشراسه من الوأد الذي مارسوا سابقا ، لان المبتكر ، نحى عند الكثير من المسلمين ، منحى بني إسرائيل الذين حرفوا الكلام عن موضعه .
ولان الله جل شأنه ، وعد بحفظ القرآن الكريم من العبث والتحريف ، فأنهم ذهبوا ، إلى التأويل الممنهج ، ليحطوا من قيمتك ، ومن قدرك ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فان فشلوا في أمر ، فليس اقرب من العادات والتقاليد ، لتحل محل الدين ، ومحل الحكم الشرعي ، فان فشلوا ، فهناك مخارج يمكن ممارسة النذالة والحقارة والوضاعة ، لتحقيق مأرب الذكورة التي ورثناها من الزير وداحس والوأد ، تلك الذكورة التي لا تحمل لفظا غير لفظ الانحطاط إلى درك لا يمكن الوصول إلى قاعه أو قعره .
أي بنيه...
الذكر العربي ، يعيش حالة من الضياع والتشظي والانكسار في كل شيء ، وكذلك المرأة العربية ، لكن ضياع الذكور ، اكبر حجما وأعظم خطرا من ضياع الأنثى ، لأنه من يملك القدرة على النهوض وإنهاض المرأة ، بما يملك من طاقات وقدرات ، تساندها وتؤسسها المرأة الحرة من قيود وأغلال المفاهيم التي فرضها الذكر عليها ، ونسبها ظلما إلى مفهوم يظن انه أحسن تسميته واختياره ، وهو لفظ " الرجولة " ، وهو المفهوم الذي سأبدأ رسالتي الثانية به لك إن شاء الله تعالى ، لأضعه والصقه بتحليل الشخصية المتشظية للذكر العربي ، الذي أتقن الهزيمة بكل أشكالها وأنواعها وصورها ، ولم يتقن من النصر ، إلا ما أراد أن يسميه نصرا .
وحتى موعد الرسالة الثانية ، استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 03- 08 - 2008