مقال نقدي : د. مصطفى عطية جمعة
تنمية المعرفة النقدية وثقافتها
من أبرز الظواهر التي تستلفت النظر في الحياة الثقافية عامة ، وفي الحياة الأدبية خاصة ندرة نقاد الأدب وغياب الكثير من المتمرسين منهم عن الساحة لانشغالات عديدة ، ونعني بالناقد هنا : الشخص القادر على سبر أغوار العمل الأدبي ، وقراءته بشكل موضوعي ، متوقفا عند جمالياته وأبرز أوجه التميز شكلا ودلالات ورؤية .
إن هذا الغياب وما يصاحبه من مظاهر تتمثل في ندرة النقاد المتمرسين ، بات هما ملحا يؤرق الساحة الأدبية ، لأن البديل لهؤلاء النقاد أشخاص لديهم حب الظهور ، فيتحدثون بأريحية يغلب عليها المجاملات والمديح أو الانتصار لمذهب أدبي ما أو لقناعات جمالية وشكلانية ورؤيوية تخص هذا المتصدي ، دون الوقوف على ملامح التميز في العمل أو مدى تطوره الفني والفكري والفلسفي ؛ هذا وجه ، وهناك وجه آخر لهؤلاء مدّعيّ النقد أنهم يهاجمون من يخالفهم ، ويعادون من يتصدى لهم بالرد أو الاختلاف ، وتكون المحصلة في مجملها سلبية ، فلم يستفد المبدع من نقد جاد يتعرف به ملامح تميزه وتطوره الإبداعي ، وأيضا سيادة قناعات نقدية في المحافل الأدبية والثقافية ماأنزل الله بها من سلطان ، ويظل الأمر مقتصرا على رؤى مكرورة لا جديد فيها يطبقها قائلوها على سائر النصوص الأدبية ، ولا ضير في ذلك فهي مقولات فضفاضة . والسبب في ذلك : غياب الناقد المتمرس ومن ثم غياب الذائقة النقدية وثقافتها الصحيحة.
* * *
إن هذه قضية قديمة جديدة ، والكثير من الأجيال المبدعة تشتكي غياب النقاد عن متابعتهم ، وقد ينقضي جيل كامل ، ولا يجد اهتماما ولا دراسات نقدية موضوعية تتابع إنتاجه : تقويما وإرشادا في المستوى الأدنى ، وتقدّم قراءات جمالية ورؤيوية في المستوى الأعلى .
وقد لجأت بعض الجماعات الأدبية أو المذاهب الجديدة إلى أن يتقدم مبدعوها الساحة النقدية ، وهم غير مؤهلين نقديا بشكل صحيح ، أي ينبثقون من رحم إبداعهم ، يكتبون الدراسات عن مجايليهم وزملائهم ، ويتصدرون المحافل والمنتديات . وهذا لا بأس به ، فكل مذهب أدبي أو تيار يحتاج إلى من ينظّر له، ويطرح مفاهيمه ورؤاه من خلال أتون إبداعه ، ولكن أن يتحول هؤلاء المنظرون إلى نقاد بالمعنى الاحترافي ، فيقومون بفرض قناعاتهم على سائر التيارات ، فهذا بعيد كل البعد عن المفهوم الحقيقي للنقد .
وقد أشار د. محمد عبد المطلب ( في مقال بأخبار الأدب القاهرية ) إلى الناقد الأسطى ، أو ( الناقد السبّاك ) الذي يتنقل من ندوة إلى أخرى ، ويتناول مختلف الكتابات ، بروح واحدة ، وعقل واحد ، بمقولات نقدية مكررة ، استقاها مما تتعاوره الألسنة على المقاهي وفي منتديات الأدب ، فيتحول هذا المتحدث إلى شخص شبيه بالأسطى الذي يصلح الجديد والقديم من متاع المنازل .
ومن هنا نؤكد على أهمية الناقد المنهجي الذي يتفهم العمل ، وينصفه ، ويقوّمه بغض النظر عن قناعاته الفكرية والجمالية والفلسفية ، وقد ابتلينا فترة من الوقت بتسيد فئة من نقاد الواقعية الاشتراكية ، الذين قاسوا كل عمل بمدى ارتباطه بمشكلات الطبقة العاملة وقضايا الفقراء والتبشير بالبطل وبحتمية الحل الاشتراكي ، ووضعوا في سبيل ذلك شروطا ومقاييس فنية . ونفس الأمر كان مع تيار الحداثيين ، حيث أشاع بعض منتسبيهم أن مذهبهم هو الخاتم في المذاهب الأدبية ، وصار الاقتراب من الحداثة أو التنائي عنها معيارا للتجديد الشعري ؛ علما أنهم استقبلوا هذا المذهب بعدما خبا نوره في الغرب ، وكانت مراجعات ما بعد الحداثة ونظرياتها تتعاور الساحة الثقافية والفلسفية الغربية وتوجه أشد أسهمها إلى الحداثة .
* * *
أيضا هناك ظاهرة أخرى تصاحب الظواهر السابقة ، وهي الجهل النقدي لدى المبدعين أنفسهم ، ونعني به أن المبدع غير مثقف نقديا ، رغم أنه مهموم بالنقد وفي أشد الحاجة إليه ، والثقافة النقدية تعني : معرفته بأسس النقد ومقاييسه ومذاهبه وطرائقه ومدارسه ، ونقصد بالمعرفة أنها الدرجة الأولى من التلقي النقدي ، حتى يكون قادرا على فهم الناقد ، والوعي بالمصطلحات النقدية المذكورة ، فلا يكون الناقد المنهجي في واد ، والمبدع في واد الآخر ، ويغيب الاتصال الحي بينهما ، والمعرفة النقدية أساس هذا الاتصال .
وقد قال نجيب محفوظ وهو يمسك بدراسة نقدية عن إحدى رواياته ، وكانت منشورة في أحد الأعداد الأولى لمجلة فصول النقدية ( القاهرية ) : " لم أكن أعلم أن النقد صعب لهذه الدرجة " . فقد كانت الدراسة في ضوء المنهج البنيوي. وهذه المقولة تنبئ عن عدم مسايرة الأديب للمستجدات النقدية ، علما أن النقد الأدبي هو الوجه الآخر للعملية الإبداعية ، ومن الطبيعي أن يكون المبدع على دراية نقدية ( نقول مجرد دراية ) حتى يتفهم سبل قراءة العمل الأدبي في ضوء المنهجيات النقدية المتعددة .
* * *
ويكون السؤال : هل كل مبدع هو ناقد أدبي ؟ أم أن الناقد في واد والمبدع والمبدع في واد آخر ؟
لاشك أن المبدع هو ناقد في أعماقه ، ولكنه ناقد بالذائقة والدربة والخبرة والتراكم المعرفي في الإبداع ، ولذا نجد المبدعين الكبار يقولون كلمات قليلة في تقييم العمل ، بمعنى أنه جيد ، أو مميز ، أو يطرح تساؤلات ... إلخ ، وهي كلمات موجزة ولكنها كافية للتعبير عن الذائقة النقدية المترسخة في الأديب . وهناك قلة قليلة من الأدباء من جمعوا بين النقد والإبداع ، ولعل أبرزهم "إليوت" الشاعر الإنجليزي ، ود. طه حسين وعباس العقاد وغيرهم .
أما الناقد فهو متذوق في الأساس للإبداع ، في جميع عصوره ، وعلى اختلاف مبدعيه وتنوع إنتاجهم ، وليس مبدعا فاشلا كما يروج البعض ، علما أن كثيرا من النقاد بدأوا حياتهم مبدعين ، ولكن وجدوا أنفسهم في النقد على اعتبار أن النقد عملية إبداعية موازية ، ولا تقل أهمية عن الإبداع ذاته، ولعل أبرزهم د. عز الدين إسماعيل ، الذي فاق نقده إبداعه ، ولكنه لم يتخــل عن
الإبداع ، وظلت نفسه تفور به إلى آخر أيام عمره .
وبالتالي لا معنى لمن يضع الإبداع أعلى من النقد ، أو ينظر للناقد على أنه مبدع فاشل ، وفي المقابل لا معنى لأن يستأسد النقاد على المبدعين على اعتبار أن المبدع تلميذ الناقد ، ويصوغ إبداعه في ضوء توجيهات الناقد ؛ وإنما المسألة علاقة تبادلية ، حوارية ، جدلية ، لا تنقطع ، مادام الأديب يبدع ، وهو في حاجة للناقد الذي يحاور إبداعه .
* * *
ومن القضايا ذات الشأن ، ما يردده المبدعون بأن النقد عملية متخصصة، وتحتاج إلى من يتخصص فيه ، لأننا في عصر التخصص .
هذه مقولة غير دقيقة ، نعم نحن في عصر التخصص ، ولكن التخصص لا يعني الانغلاق المعرفي ، ولا يمكن أن يتميز مبدع إلا بثقافة عميقة شاملة، في الفلسفة والفكر والأدب والتاريخ والنقد الأدبي وغيرها .
ونفس الأمر لا يتميز ناقد جامد القناعات الفكرية والجمالية ، يتعاور ما ذكره القدماء والسابقون ، ولا يحيد أنملة عما قدموا ، ويرى أن النموذج في الماضي ويسخر من مبدعي الحاضر ، ويائس من مبدعي المستقبل ، فلابد أن يساير الجديد الإبداعي .
* * *
في ضوء ما سبق تكون المشكلة واضحة محددة ، يمكن تشخيص أعراضها في نقاط ثلاث :
الأولى : إننا نعاني من غياب الثقافة النقدية بشكل عام لدى المبدعين والمتلقين على حد سواء ، وفي الوقت الذي تطورت فيه المناهج النقدية ، وظهرت آليات عديدة لتحليل النصوص ، لتواكب المستجدات في عالم الإبداع على اختلاف أجناسه ، ولتعيد قراءة النصوص في ضوء المناهج النقدية الجديدة ، نجد أن هناك جهلا بكل هذا لدى المبدعين ، ويترتب على هذا الجهل فشل إحدى مهام الناقد الأدبي وهي تجسير العلاقة بين النص والمتلقي ، فإذا كان المتلقي لا يعي المصطلحات والمناهج المذكورة في الدراسات النقدية ، فإن جهد الناقد الأكاديمي المنهجي يظل حبيسا ، متوهجا إلى نخبة الأكاديميين وليس للمبدعين والمتلقين.
الثانية : إننا نعاني من قلة النقاد ( المحترفين ) ، ولا يغرنك كثرة الباحثين في حقول الدراسة الأدبية والنقدية في الجامعات ، فالمحصلة – في غالبيتها - التي نراها أن الباحث يتأطر في الجامعة ، وفي المواد التي يدرسها لطلابه ، وفي أبحاث معدودة يطمح بها للترقية ، ويظل في منأى عن الجديد الإبداعي والمستجدات في المناهج النقدية ، والمصيبة الأكبر أن يقف الباحث الأكاديمي عند حدود ما درسه في الدكتوراه ، ويرى أن هذا هو خاتم العلم ونهاية معلوماته النقدية ، وتكون أبحاث ترقيته دائرة في نفس الفلك المعرفي ، معلومات مكرورة ، وفكر متشابه ، ومزيد من العزلة . وتكون الثمرة في النهاية غياب النقاد المحترفين عن الساحة الأدبية ، وتسيّد أشباه النقاد ومن يمتلكون شهوة الكلام وحب الظهور المنتديات وحلقات النقاش .
الثالث : إننا نعاني من تدني الثقافة النقدية لدى المبدعين أنفسهم ، وهذا يجعل المبدع في منأى عن فهم البحوث النقدية المعمقة ، ومواكبة المستجدات النقدية وهذا عائد إلى عدم مواكبة المبدع للجديد في النقد ، وعدم اهتمامه بتكوين ثقاقة نقدية واعية ( نقول ثقافة ) تستطيع أن تحاور النصوص بشكل واع ، وأيضا يدخل في حوار عالي المستوى مع النقاد ، لاختبار الفرضيات النقدية ومناقشة الجديد من المناهج والنظريات والمذاهب .
ومن هنا يكون الحل بسيطا : المزيد من الوعي النقدي : اطلاعا ، ثقافة ، بحثا ، مناقشةً ، بشكل منظم ، خاصة أن الساحة فيها الكثير من الدراسات والكتب والأبحاث النقدية الجادة ، وفيها الكثير الميسر لمن أراد تكوين ثقافة نقدية حقيقية .
وتكون الثمرة : رفع مستوى النقاش النقدي ، ووجود المبدع / الناقد ، والمتلقي / الناقد ، والناقد / الفاعل / المتابع ، ويكون المزيد من النقاش الجاد للنصوص والمزيد من الحلقات النقاشية ، ويعقب هذا كله حيوية وموضوعية وحيادية في الساحة الثقافية ، ووجود لغة نقدية عالية الطرح ، سهلة الفهم ، عميقة الحوار بين أطراف التلقي : المبدع ، الناقد ، القارئ .